صحيفة المثقف

بغداد وابو العلاء المعري

ibtesam yousifaltahirمرة اخرى يثبت المقهى الثقافي العراقي في لندن حضوره المميز كمنبر ثقافي حر بالرغم من الامكانيات المحدودة والفردية للقائمين عليه، الفنان فيصل لعيبي والمخرج علي رفيق. بين الحين والآخر يتحفنا بأمسية ادبية او فنية مميزة للتخفيف عن المغترب العراقي من وقع الكوارث على ارض الوطن. وباستضافة باحثين مميزين لتسليط الضوء على التاريخ مرة والحاضر بجوانبه الابداعية المشرقة باخرى.

استضاف المقهى الباحث الاستاذ نبيل الحيدري ليتحدث عن احد اهم اعمدة الشعر العربي في العصر العباسي، ابو العلاء المعري. لاسيما عن المرحلة التي عاشها في بغداد والتي على قصرها، لأقل من عامين، لكنها اثرت بالشاعر وبقي يكتب عنها او بالهام منها حتى حين غادرها عائدا لموطنه لحين وفاته في المعرة المدينة التي ولد فيها في سوريا.

732-nabil

أدار الامسية الدكتور عبد الحسين الطائى الذي تحدث عن المعرى وعن الباحث الدكتور نبيل الحيدرى وكتبه واهتمامه بالمعرى.

الأستاذ نبيل الحيدرى له عدة مؤلفات في الادب والتاريخ ومحاضرته كانت عن ابو العلاء المعري فيلسوفا وشاعرا وهي جزء من بحث سيصدر له لاحقا في كتاب عن المعري. خلال فترة إقامته ببغداد وأثرها الكبير عليه.

فبغداد كانت اوكسفورد الشرق بل جامعة للعالم المتحضر كله. حيث كانت عاصمة للدولة العباسية الاسلامية في اوج ازدهارها وملتقى للعلم والفكر والأدب. منها وصل نور الحضارة اليونانية الى الغرب بسبب الاهتمام بالترجمات لكل ما وضع من كتب وقتها. وموطن للتلاقح الفكري وملتقي الأشراف والتجار والأدباء والمثقفين. يقصدها الشعراء والأدباء والعلماء في شتى الفنون والمعارف والآداب. إزدحم الناس على بغداد من كل أطراف الدنيا وسميت(دار السلام)...وصفها طه حسين:"كانت بغداد كباريس اليوم فلا ترى في العالم الإسلامي شابا أتم الدرس في بلده إلا وهو يتحرق شوقا ليرحل الى بغداد ودراسة العلم فيها من أصفى موارده وأعذب مناهله…"

كذلك كانت بغداد يقصدها المرتزقون بالشعر عند ابواب الخلفاء والأمراء. ولكن المعري كان زاهدا لم يطرق باب خليفة او امير مادحا من اجل مكرمة مقابل قصيدة! ولقد رد على من غمزه بمظنة السؤال قائلا:

أنبئكم أني على العهد سالم ... ووجهي لما يبتذل بسؤال

وأني تيممت العراق لغير ما ... تيممه غيلان عند بلال

 

أبو العلاء المعري كان يحب بغداد كثيرا وقد دعاه البغداديون لزيارتها بعد الظلم الذي تعرض له في موطنه. قصد المعري بغداد في منتصف الثلاثينات من عمره وأخذ سفينة للرحيل لكن ولاة السلطان صادروا السفينة مما اضطره الى طريق آخر رغم المخاطر والصعاب حتى وصل بغداد قائلا:

وبالعراق رجال قربهم شرف... هاجرت في حبهم رهطي وأشياعي

كما أرسل المعري رسالة الى خاله أبي القاسم جاء فيها "ورعاية الله شاملة لمن عرفته ببغداد فقد أفردوني بحسن المعاملة وأثنوا على في الغيبة وأكرموني دون النضراء" وقد عشق المعري بغداد وماءها، قائلا:

"شربنا ماء دجلة خير ماء.. وزرنا أشرف الشجر النخيلا"

عُرضت عليه في بغداد كتب في العلم الادب والفلسفة. فقال ابن الفضل عنه: "جعل المعري لا يُقرأ عليه كتاب إلا وحفظه. فقد عرف عنه ذكاءه الحاد وموهبته بالحفظ.

وقد توسع الباحث الحيدري في هذا الموضوع وذكر بعض ما قيل من قصص تعزز قدرة المعري على حفظ كل ما يسمع. وتحدث عن الارث الذي تركه المعري وصار يدرس في الجامعات الغربية قبل الشرقية. مثل سقط الزند ورسالة الغفران التي يقال انه سبق دانتي في الكوميديا الالهية او جحيم دانتي. وقصائد او حكم اللزوميات فقد كانت معظم قصائده حكم وفلسفة بعضها يستشهد به الى اليوم. اضافة لرسائل عدة مثل رسالة الصاهل والشاحج ورسالة الملائكة والرسالة السندية وغيرها.

ويذكر الاستاذ الحيدري ان المعري لم يهتم به الباحثين العرب من قبل. فقد اتهم بالإلحاد وتعرض للظلم في بلاده الشام. حتى اكتشفوا اهتمام المستشرقين بارثه الادبي والفلسفي.لاسيما الفرنسيون والانكليز والألمان مثل وليم وات وماركليوث وغولدزيهر وأغناطيوس وكريمر وسلمون وبروكلمان وبلاسيوس وغيرهم، وقد ترجموا اللزوميات الى عدة لغات منها الالمانية والفرنسية والاسبانية والانكليزية والروسية. وقد اهتموا بفلسفته النباتية فقد عرف عن المعري رفضه لأكل اللحوم قاطبة. يقال انه كان متأثرا بالديانة البوذية فقد كان واسع الاطلاع على مختلف المذاهب والديانات.

وكانت دراسة طه حسين في باريس السبب في اطلاعه على الجانب المشرق لرهين المحبسين ابو العلاء المعري، كما سمى نفسه. فقرر ان تكون رسالتة الدكتوراة عن ابو العلاء المعري: (تجديد ذكرى أبى العلاء) ثم أرفدها ببحث (مع أبى العلاء فى سجنه). تبعها بمقالات ودراسات مختلفة لاحقة وقد شبّهه طه حسين بباسكال الفرنسى فى الرياضة والفكر والفلسفة والإبداع. وكتب عنه الكثير من الادباء والباحثين العرب فيما بعد، مثل عباس محمود العقاد وبنت الشاطئ وأمين الخولى وهادى العلوى وعبد الله العلايلى ولويس عوض وغيرهم.

فى مهرجان ذكرى أبى العلاء المعرى بدمشق عام 1944 . ألقى الدكتور طه حسين كلمته فى إبداع المعرى ثم تلاه الشاعر الكبير محمد مهدى الجواهرى قصيدته فى المعرى:

"قف بالمعرة وامسح خدها التربا..واستوح من طوّق الدنيا بما وهبا

واستوح من طبّب الدنيا بحكمته..ومن على جرحها من روحه سكبا

أبا العلاء وحتى اليوم ما برحت..صناجة الشعر تهدى المترف الطربا

وللكآبة ألوان وأفجعها..أن تبصر الفيلسوف الحر مكتئبا.

حتى ختمها بالبيت: "لثورة الفكر تاريخ يذكّرنا بأنّ..ألف مسيح دونها صلبا"

ما ان سمعه طه حسين حتى طلب منه اعادة البيت الاخير ثم قال: هذا بقية شعر العرب. أنت أشعرالعرب.

ويذكر ان الجواهري عقب على ذلك في لقاء تلفزيوني لاحق، "نظرت إلى طه حسين وإلى كثرة أوجه الشبه مع المعرى فى البصر والذكاء والأدب والتميز والإبداع فقلت لطه حسين: أنت معرّي زماننا".

 

لندن- ابتسام يوسف الطاهر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم