صحيفة المثقف

قراءة وتأويل للمجموعة الشعرية وجوه وامكنة للشاعر مجبل المالكي

ryad abdulwahedغلبة البعد النفسي على القيمة الخبرية: يعد العنون واحدا من اهم القيم الاتصالية ما بين المؤلف والمتلقي، كونه الاشارة الاولى التي تحيط بالنص وتوازيه . هذا الملفوظ اللغوي على صغر حجمه، يشكل بنية قادرة على تحديد هوية النص برمته . اذن العنونة موجه قرائي مهم، لا يمكن الاستغناء عنه كونه يساعدنا – كمتلقين - على الدخول الامن الى النسيج النصي . وقد يتخذ هذا المنحى طريقا اخر بواسطة الدخول الى اقبية النص التي تستحيل – في بعض الاحيان – الى مركز بؤري ينبغي معالجته على مهمل .

عود على بدء، تتخذ العنونة في هذه المجموعة بعدا مرجعيا وايحائيا معا، كون الوجوه قد دخلت عاملا مهما ضمن بؤرة الامكنة بكل ما تحمل من دلالات، ثم ان عملية التنكير قد اضفت بعدا ترميزيا للوجه كونها وجوه غير مشخصة وغير معروفة، وجوه لا تقف عند شخصانية معينة، فقد تكون وجوها متعبة، ارهقها الزمن، او وجوها نضرة لم يرسم الدهر عليه خربشاته المعهودة، وينسحب الامر على الامكنة، فقد تكون امكنة ادمنت الاحزان، او قد تكون امكنة افرزت السعادة لاصحابها ، او قد تكون امكنة اللامكان كالمقبرة . اذن العنونة – هنا – لم تعلن عن مقصديتها ونواياها، بل ظلت بعيدة عن الفهم اللحظوي، مؤجلة الى اشعار اخر، انها جزء من كل لا يمكن فصله عن الجسد العام ، جسد النصوص التي يتداخل معها في اكثر من موقع ومكان. هكذا اراد الشاعر لها ان تكون لأمر في نفس يعقوب سنستبينه لاحقا .

ان العنونة تتفاعل مع نصوصها، اذ انها احالة برانية لما هو جواني، اذ انها تشخص المكان بنحو واسع، وتجسد الواقع الموضوعي الذي يحيط بتلك الامكنة، لهذا يمكننا القول ان العنونة مرتبطة بالنص الاصلي ماخصة لنا بنحو استباقي ما يمكن ان توحي به النصوص . يشكل الغلاف الخارجي الاول العتبة الرئيسة، اذ يتخذ اللون الاصفر معظم الغلاف وهذا يدل على الثقة بالنفس والانسان والتفاؤل وكذلك الحماس والطاقة الكامنين في تلك الذات . كُتبت العنونة الرئيسة بالخط الكوفي الذي له علاقة مباشرة ومتماهية مع المعمار والجدران الصلبة، فهو اذا لا ينفك متصلا بالمكان . اما اللوحة التي تتوسط الغلاف الخارجي الاول فهي للرسام اليماني مظهر نزارالذي تتسم لوحاته الفنية بالبعدين التجريدي والتعبيري . يتوسط اللوحة وجها نسويا، والوجوه – كما هو معلوم – تعكس حالة الانسان ومتغيراته الداخلية ومحمولاته النفسية، كما يترشح من الوجه ما هو مكتوب وغير مكتوب في اطار اللوحة بنحو عام . اذن اللوحة جاءت متعاضدة مع الجو العام للمجموعة ومعبرة عنها لانها تحمل وجها غير معروف . هذا الوجه يطل من مكان تستقر على جداره الخارجي بعض الخطوط الهندسية المنحنية التي توحي بالضيق والصدمة . اتخذ اسم المؤلف مساحة صغيرة تحت اللوحة وجاء التجنيس \ شعر \ في الزاوية اليسرى بنحو صغير .

في الدخول الى اجواء المجموعة، نواجه في المستوى التداولي انفراجا نصيا لحمولة نفسية وعاطفية يعلو فيها صوت الحزن لملابسات الواقع المنتج لها . فبناء الصور جاء من عناصر انتجها المكان وما ترشح منه من بعد نفسي، وهي وان بدت متعاضدة الا انها في الوقت نفسه متنافرة مما يعتليها من التجربة الشعورية المنتجة لها

دوني قصة من مروا على سورك

واغتيلوا

وكانوا واهمين

 

لاحظ اللاعجة الروحية التي تعتلج في صدر السارد \ الشاعر وهي وان كانت متشحة بالخيبة والمرارة واليأس مما حصل، وتساوقها مع دواخله التي غطتها سحب الفجيعة النفسية الا انها بقت متعالقة مع ذلك الضوء المتخفي في نهاية نفق الروح، لهذا نرى ان الشاعر استطاع بنحو جيد من جعل حركته الذهنية قادرة على الانعكاس في الصياغات اللغوية بنحو لا يفقها لبريق المبتغى على الرغم من سوداوية الموقف العام

 

مهما تغير وجه الزمان

ومهما استدارت رياح المدارات

يبقى الذي بيننا شائكا

محض وهم يفتت احلامنا

ينحر الامنيات التي اوشكت

ان تنث البنفسج في ظل روحين

افناهما الانتظار

 

ان استقراء الفكرة الداخلية ليس عسيرا، اذ انها تدفع بالمفردات الى الظهور على السطح من دون ان تفقد جوهرها . انها احاطة ذكية باللغة وبالمعاناة في الوقت نفسه مما يشيع جوا روحيا مفعما بالحزن الموشى ببريق نفس تتوق الى فك رموز مشتهاها من دون ان تخسر وجودها ووجدها . ولا ينفك الزمن المضارع ان يتخذ موقعا مركزيا من البنية العامة اذ تكون مترشحاته يقينية بنتائجها التي لا تدعو الى الشك وان لم تكن متحققة على المستوى العياني

تسطع الشمس من رونق خديك

ويصفو الخمر في اثداء موج عابق

يهمي بأحضان كؤوس الرمل،

يصطاف بأعماق المحبين

ويستل قلوب الشعراء

 

هنا يجمد – الشاعر – نفسه حتى نحس وكأنه ليس المتكلم، بيد ان اللوحة المتشكلة كلاميا هي التي تسفر عن نفسها، اما الشاعر فيحاول قطع السيرورة الزمنية من اجل ان يأخذ الوصف مساحته التي يستحقها، لهذا نرى مجيء الافعال المضارعة متعاقبا من اجل تحقيق خطوتين في الحاضر وخطوة في المستقبل (استرجاع لحظوي + استباق لآت)، وهذا ما نجح الشاعر في تحقيقه، اذ استطاع ان يمسك بجمرة التوازي الدلالي بواسطة طرح محور الاحساس بالمرارة والحزن والفراق من دون ان يخسر النص انسيابيته المطلوبة

 

جالس يرقب العابرين

والزمان الذي قوس الظهر،

واختط احزانه في سماء الجبين .

من ترى سوف يؤنسه ان جثا الليل

وانهال فوق ارتعاشات هيكله الصخر وارتحل الصحب والاهل

في موكب الناحبين ؟!

 

يستهمل الشاعر تقنية التجانس الخلفي الامامي في عملية التكرير لكي يثري نصوصه، وهذه التقنية عبارة عن كلمتين متواليتين يجانس الصوت الاخير من الاولى الصوت الاول من الكلمة الثاني ليشيع جوا مموسقا في فضاءات النص كقوله

 

هكذا مثل سرب من الغيم مرت فصول الربيع التي اصطاف في ظلها وردة

تبهر الروح والحالمين

وتطفو بنية الاسترجاع الذاكراتي بنحو واضح في معظم النصوص حيث يترك الشاعر صوته ويعود الى الماضي بطريقة القطع المبرمج ليصحب مترشحات الاني حتى يبدو الزمن وكأنه مرحلة تمضي لحدث سابق ينبثق في حدث اني

 

اكتب في اخر رق منقوش بدمي :

هذا نقش مدونة لمحب

كان يرتل بعض اناشيد البحر

واسفار بلاد

غاض بافلاك سماها النجم

وكفن احلام بنيها العشاق

سراب الامل المخذول

 

ان المكان في هذه المجموعة ليس عاريا والوجوه تستنطق ازمنتها وثمة صلة بين النص بموضوعه والعالم المتشكل بظروف انتاجه اللحوظية

 

رياض عبد الواحد

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم