صحيفة المثقف

كنت أكذب وكانت نفسي تصدقني

MM80قد تضيق المطايا بالعابرين

وتضج الطريق بأنين الآفلين

 


  

كنت أكذب وكانت نفسي تصدقني...

كانت تمشي حافية وراء فراشات الحلم

 

نص مشترك

جمال الدين حريفي / ضلع لمتغطرس نبيل

 

ضلع لمتغطرس نبيل:

سأصنع من وسائدي فخاخا للربيع القادم...

لعلي أصيد زهرة أو بتلة أقحوان...

فيصبح حلمي حقلا لفراشات ملونة.

 

جمال الدين حريفي:

سأصنع من أحلامي عصافيرَ للربيع القادم

لعلها تحط على شجرة أيامي ولعلي أسند ظهري

لصبري.

سأنتظر.

قد تَنْبتُ الأزهار من أصابع القدمين.

وقد تطير فراشات الشوق من صدري.

قلت: "سأنتظر

الغابة بعيدة، وعصافير الرغبة قد تصنع الربيع"

فقالت الريح لحطاب الأماني:

" لن تكفيك الأحلام حين تفيق

وتتسع البيد أمامك

وليلك يضيق بسواده

ويضيق الطريق بالضحايا

وتضيق المطايا بالعابرين"

 

ضلع لمتغطرس نبيل:

قد تضيق المطايا بالعابرين

وتضج الطريق بأنين الآفلين

نفس ذائبة في بيارق التعب

وشهب أمطرت في ليل عز فيه العتب

أحلام قعيدة، ذرتها ريح الخيبات في غيهب المحال...

فصول تبكي الزمن قصر العمر...

ربيع يهتف: ذي زهرتي في طيات قميصي ذبلت...

لكن هيهات، سيبقى زندي يرشح عطرا حتى إزهار جديد...

وما الخطايا؟! إذا لم تكن كسرا لجناح عصفور لم ير الأفق سوى من شق الحديد...!

يضيق بأمثالنا الوقت، يضيق

وتكبر في قلوبنا أسرار الغضب...ونصمت...إجلالا لرهبة الدمع... ورعد السحب!

عظيمة آثامنا.

وأعظم منها كلامنا...!

 

جمال الدين حريفي:

عظيمة آثامنا

وأعظم منها آلامنا.

أعظم منها الريح التي مزقت الشراع، والصخر الذي تكسرت عليه ألواح المركب.

أعظم منها كانت أحلامنا.

أفق أزرق ومدى أبعد وفجر قريب.

أعظم منها كانت الزغاريد في أعراس اللغة

الناي والكمان معا إذ يلتقيان في ساحة الرقص

اسمعْ اسمعْ، كيف يئنان في صمتٍ عند أقدام الطبال

هو واقف يخبط الجلد بأعواد الخشب

وهما جالسان.

وانظرْ، كيف يتمايلان من فرط سكرهما على الإيقاع السخي

أكانت تلك ساحة رقص أم ساحة حرب؟

لا أحد يدري من أين أتت الطلقات.

لكن ريش العصافير على أكتاف المقاتلين لايزال

والرصاص لا يزال كالرعد يجلجل.

واللغة في ثوبها الأبيض الرهيف تنزف

ممددة على نعش الفصول.

سيحملها أربعة

كعروس فوق الرؤوس أو كجثمان إلى المقبرة.

الشتاء على اليمين والخريف جنبه

الصيف على يسار النعش يذرف صهده

والربيع يضحك من الجمع المحيط بهم ساخرا بصوته الماكر

أنا الربيع يقول الربيع

أنا سيد المفارقات

أنا الربيع المُقَنّع العاري، أنا الربيع الأروع، الربيع الكاذب كحمل العاقرات

وهاذي عروسكم وشهيدكم

هذا حلمكم بالآتي

أيها العابرون ارقصوا ما طاب لكم حولها وحوله

فلا ربيع لكم إلا ربيع الآثام.

عظيمة آثامكم أيها العابرون

وأحلامكم ندف من قطن الوسادات الفارغة

أيحلم من ينام؟

وأفقكم الأزرق ومداكم الأبعد

ليس يقود إليهما زورق.

أيها النُّوَمُ الحالمون بعصافير الربيع وبالأزهار والفراش

أيها العابرون العطاش، إلى فجر الحياة

هيا اعبروا إلى حتفكم.

زغردوا للعرسان واندبوا الموتى.

أيها الفانون

لا فرق بين عرس ومأتم هاهنا

ياه

يا العابرون

كم عبوركم يؤلم.

على الجمر تمشون حفاةً

وعلى الرمل الحارق تمشون

وتعبرون الفصول وتكسرون أجنحة الفراش وتقتلون الحلم

وتصنعون الحياة

تصنعون الفرح وعرس اللغات ورقص الحروف بموتكم.

 

ضلع لمتغطرس نبيل:

أعبر حلمي حافية... أقتفي أثر فراش يباب....!

عارية بلا غطاء... بلا شامات..

أنهر سريري بعيدا... وأنتشل جسدي من براثن الوهن... وأرميه خارجي...

سقف غرفتي لحد لبكاءاتي...

نوافذي أعين للموت مطبقة على أنفاسي...

أجر ملاءاتي الملطخة برمادي، أمشي على تراب محترق من لهب خطاي...

أتحسس جدائلي كي أحصي عثراتي سوادا مغدورا ببياض قاتم الأفق...

هناك على شاطئ محاذ لعطشي.. إلتقيت بحارا عجوزا غمرت التجاعيد وجهه... رأيته يطعم نورسة يتيمة... كان يقدم لها فتات أحلامه و يسقيها من نبع جرحه...

كان يحدثها عن سر مشهد مقدس رآه ذات فجر في عباب البحر...

رأى زبدا...

قال رأى زبدا يقبل جبين موجة عابثة، موجة تركض ضد التيار... تسابق مجراها إلى حتفها...

موجة مُرٌّ ملحها ومر وقتها ومر موتها في ربيع العمر.

كان مشهدا مرعبا... موبق الألم.. نزف لا يتوقف...

كنت كلما تقلبت في فراشي قبضت على حفنة رمل منسابة من ثقب صدري... وكأن مهجعي قد صار صحراء نبتت في عرضها نخلة عالية...

كلما أغمضت عيني تهيأت لي كل خيالاتي سعفا يراقص ريحا عصية...

أنيخ لها جناحي و أجعل من هدبي مهدا للعواصف...

أصيخ بسمعي لنواح الحمام القادم من الخلاء الى الخلاء...أردد:

"كذا سأربي حلمي على الغناء!

أربي حلمي على الغناء"

لأفيق على لحن الحروب

و طلق الرصاص...!

 

جمال الدين حريفي:

أكون حينها أعلى من غيم السماء، بلا جناح أرفع الحلم أعلى من الغناء و من صهيل الخيل ومن عويل الريح، أرفع الحلم المستحيل كما يُرفع رأس الغريق فوق الماء لعله يجد جرعة هواء يملأ بها صدره.

......

صدر الحلم فارغ.

......

لم أكن أعرف.

كنت أنزع جلدي وأخيط للأحلام أجنحة.

.....

الحلم الأول ولد ميتا.

......

لم أكن أعرف.

والحلم الثالث والرابع

كل فجر به أهتف

وصدري مشرع للرياح كنافذة البيت مهجور

مَنْ أمام البيت أنا

ومَنْ داخله

أنا الداخل والخارج معا

أهتف بي. أَفِقْ من الحلم الأول فلا بحر هنا ولا صحراء لا قتلى ولا شهداء لا عرسان ولا فرسان لا ليل هنا ولا قمر يؤنس وحدة الساهرين.

وكنت أغوص عميقا في بحر اللغة عميقا بين شقوق صخرها وطحالبها، لعلني أجد المحار فأشقه وأخرج لؤلؤة تحتفي بالصباح.

أيحتفل الغريق بالصبح؟

......

نعم، على شط المعنى يحتفل كصياد الأوهام بحطام الكلام.

ويغرف من زبد الأحلام حفنة يرش بها وجهه لعله يفيق من غفوة النيام

كنت أكذب.

وكانت نفسي تصدق كذبي.

كانت نفسي تعلو فوق ماء اللغة وغيمها وتصنع من عظامي مركبة ومن جلدي أشرعة.

وكانت حين يحلو لها الألم، تبكي، فينزل مطر من غيمة العين.

وكانت نفسي تعزيني وتجعل من أقنعة الربيع مناديل تمسح بها دمعي.

كانت نفسي حين ترغب، تعصر مناديل جرحي فوق أرض الله الواسعة فتصنع سرابا أحمر كصحراء من دمي وبحرا أزرق على شطها، كانت نفسي تصنع واحات وعصافير ورياحا وكانت حين تطرب تغرد وحين تغضب ترعد حتى تشق بطن رملها وتفجر عيون الكلام من صخرة اليأس وتزرع نبتة الريحان فوق فتات الحصى وبين أوتاد الخيام.

كانت نفسي تصهل في صدري

وكنت

أصبر

أقول

هي نفسي

صغيرة

وغريرة

هي نفسي

شريرة

وأنا... من أكون؟

أنا قُوتُها

نفسي الجوعانة تأكل وتشرب مني، ولا تشبع.

كنت أصبر.

وأقول... لا عدو لي غيري.

لا عدو لي غير يأسي

لا عدو لي غير بحري

غير جهاتي وفصولي

غير أكواني

وأنا وحدي

أدمر بعضي ببعضي

وأنكث وعدي، وأمطر وأزهر لأني تراب وماء.

وأشعل حرفي لأني نار و أُطَيِّره كعصفورة في السماء

لأني هواء

وأصنع عناصري من حروف يتيمة أو شريدة

لأني لا تعجبني لغة الحضارة ولا النوم على الأسرة الوثيرة.

وأكتب

لغة يتيمة تبكي مفجوعة في مأتم العشاق

لغة جف الدمع في عيونها

لغة يابسة كأعواد الحطب.

لغة قاسية

لغة حادة كالخنجر.

هذه نفسي.

صعبة

حادة

وقاسية

فكيف أدعي بأن لي حلما كالناس وكيف أدعي بأنني أغمض عيني وأنام.

وحين أنام على غيمة الحجر

فاللغة تحرسني وتهش على رأسي ذباب الأيام

لولاها كنت أعمى.

ذباب الأيام والتعب واللغة الجارحة

تصرخ

ما عدت أقوى على السماع

ولا عاد يروقني طرب.

الآن... هناك... هناك حلم بلا ريش ولا أجنحة

حلم ميت على قارعة الحياة

ولا أحد يأبه له.

ذاك الحلم لغة.

 

ضلع لمتغطرس نبيل:

الحلم :::

الحلم يا سيدي لغة..

بلسانين حادين و حنجرة مثقوبة...

كأن صوتي في حشرجة حروفها قد صار زفرة موت في مزمار... و ناي...

الحلم لعنة تغرز خناجرها كقطاع طريق في خاصرة الأيام وهي ترثي خراب خيامها...

الحلم أيام عرجاء لا تمشي.

فجر يمد رأسه من خلف ليل شاهق عله يمسك بخصلة شاردة من شعر حسناء نائمة أعلى المرج...

تهوي عينه أسفل ثوبها

يرفعها بثقل.. بشبق.. ثم يحملها خفيفة.. زكية...

كحسنة ضلت طريقها إلى السماء

حسناء ممشوقة القد كقصيدة، حسناء كحقل أزهار تختال بين النجوم و تضاحك القمر...!

قصيدة من نور... بلا بحر ولا شط ولا رمل.

شجرة ضاربة عروقها في أوردة الربيع

يهم شاعرها بقطعها فتخضر يداه.. وتورق الحياة على لسانه بحديقة للعشاق

و تصيح به أن الق فأسك، و ادخل قلبها مجازا يمتهن الاستعارات...

وامنحها حروفا تحلم بنوارس الأماني و ياسمين الذكريات.

 

جمال الدين حريفي:

الحلم.

ينزل من سرير نومه على مهل

يفرك عينيه، ثم...

يفكر أن يطل من النافذة على أولئك الذين باتوا الليل ينتظرونه تحت شرفة السماء.

" هل الحلم رجل أم امرأة؟"

هذا لا يهم

فقد باتوا ينتظرونه تحت الشرفة

ينتظرون طلعته.

للرجل حلمه، وللمرأة حلمها"

للناس حلم مشترك

بعيد جديد وفجر وليد.

قيل لهم وهم صغار: انتظروا سيأتي

لا تفقدوا الأمل

سيطل من النافذة كشمس النهار

سيرشكم بماء الورد

سيرمي الفل والياسمين فوق رؤوسكم كما يرمي المستقبلون الفل والياسمين عند أقدام العرسان.

انتظروا فقط قليلا.

انتظروا الفرسان، سيقطفون الورد من حقل الأماني ويرفعون الأغاني لعنان السماء.

ثم كبر الصغار وهم ينتظرونه،

انتظروا الوجه القمر وانتظروا الوجه الشمس وانتظروا الوجه النهار.

انتظروا النجم

انتظروا الحوريات.

تحت الشرفة....

تحت الشرفات.

.....

الحلم

ينزل من سرير نومه على مهل

يفرك عينيه، ثم

يحاول أن يمشي فلا تطاوعه قدماه.

الحلم لا يستطيع الوقوف ولا المشي.

كيف يستطيع حلم كسيح يا سيدتي أن يطل على الناس من النافذة؟

.......

لولا اللغة يا سيدتي

لولا اللغة التي تزين السماء بنجمة الأمل

لولا اللغة التي ترفع الصوت عاليا بالفرح

ما كانت لنا يا سيدتي أحلام.

.......

نحن القاطنون في اللغة

نحن القانطون من اللغة

نحن الذين غطاؤنا لغة

وماؤنا لغة

وكرامتنا

وفصولنا وحقولنا وبنات أفكارنا

لغة

تحلق بلا جناح أو تصفق للرياح كأبواب الدور المهجورة

نحن

بلا لغة.

.....

أحلامنا كسيحة

وقلوبنا جريحة

...

ومالنا غير نافذة نرفع رؤوسنا وعيوننا إليها في المساء وفي الصباح.

فلعل حلمنا يطل.

من بين طيات الكلام.

 

....................

* جمال الدين حريفي: المغرب

 * ضلع لمتغطرس نبيل: تونس

23/05/2015

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم