صحيفة المثقف

ناعور ولا ماء .. قراءة للوحة الناعور للفنان احمد حيدر

wejdan alkashabاحمد حيدر فنان تشكيلي مواليد بغداد، سنة 1974، حاصل على شهادة بكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة بغداد. في رحلته مع التشكيلية شارك في العديد من المعارض المحلية والدولية منها {5 } معارض في لبنان ومعرض في اسكتلندا، وحاز خلالها على عدة شهادات تقديرية محلية ودولية.

يمارس التدريس في معهد الفنون الجميلة للبنين بغداد منذ 2005، وشغل منصب رئيس فرع الجداريات في قسم الفنون بالوكالة لعام 2015 في المعهد ذاته.

على ضفتي نهر الفرات في وسط العراق انتشرت النواعير في فترات زمنية سابقة لم تكن فيها محطات لتوزيع المياه، فكان لا بُدَّ لأحفاد مخترعي العجلة من تطوير استخداماتها لتشمل جوانب أُخرى من الحياة المجتمعية، فكانت النواعير، تلك العجلة التي صنعها العراقي من خشب الاشجار لتدور دورتها الدائمة فترفع الماء من النهر بغرفه بصناديق خشبية متلاصقة لها فوهات جانبية تصب الماء في حوض واسع، ثم يتدفق الى قناة توزّع الماء الى قنوات أُخرى، فمنها ما يسقي المزروعات والحيوانات، ومنها للاستخدام البشري اليومي، هذا ما أعلنه التاريخ لاستعمال النواعير، فماذا تعلن لوحة احمد حيدر التي وسمها باسم (الناعور)، واشتغلها باستعمال اكرليك على القماش سنة 2012م.

 

84-ahmadhaidarاعتمد التكوين في هذه اللوحة على اشكال عدة اتخذت موقعتها على مساحة اشتغال اللوحة هي

1) النهر

2) البيوت الطينية

3) الناعور

4) الاشجار

5) الفضاء 

يتخذ النهر موقعته في مقدمة اللوحة حيث يشغل الربع الاسفل منها يتشكل فيه انعكاس للبيوت الطينية الواقعة على ضفته وكذلك بسبب مااختاره الفنان احمد من عرض مشهد امامي يواجهه المتلقي بشكل مباشر حين يجري مسحا بصريا اوليا للوحة

ولكن ما يلفت بصر المتلقي هنا هو اختيار الكيفية التي تمظهر بها النهر حيث اختار الفنان طريقة لعرضه لا تشبه أية صورة بصرية او ذاكراتية اختزنها العقل البشري لمشهد نهر يجري باتجاه ما بل عمد الى عرض نهره الخاص من وجهة نظر خاصة به، فما هي الكيفية التي اختارها الفنان لتحويل مشهد النهر من عموميته الى الخصوصية؟

للاجابة على هذا التساؤل لا بد لي من ملاحظة ان النهر في هذا الجزء يكاد يفقد سريانه الافقي حيث تكسرت هذه الافقية بخطوط متعرجة تنساب عموديا من الاعلى الى الاسفل والخطوط بانواعها تحضر محملة بدلالاتها.  

والخط هو مسار تتخذه نقطة ما في اتجاه ما، ولهذا يمكن عدّه فاصلاً بين مساحتين، وهذا ما أكسب النهر مظهر المساحات المتجاورة.

تشكّل التكوينات الناتجة عن حضور الخطوط دلالات تكاد تكون محددة، وتعارفت عليها الذاكرة التشكيلية، حيث تشتغل الخطوط والتكوينات الأُفقية باتجاه تكوين أرضية تستقر الأشكال عليها، كما أنّها تزيد الاحساس باتساع المساحة الأُفقية، وتوحي بالثبات والهدوء والاستقرار، وتحيل الخطوط الراسية إلى الشموخ والعظمة والقدرة على انجاز فعل ما لكن الفنان احمد في هذه اللوحة اشتغل باتجاه اخفاء الشكل العمودي الصارم لهذه الخطوط بتحويلها الى خطوط متعرجة بدت اقرب ما تكون الى الدموع المنسابة شكلا

هنا يطرح تساؤل نفسه

لماذا استعان الفنان بالدموع التي تفرش وجودها ليس على هذا الجزء من النهر بل على جزء كبير من مساحة اللوحة؟

ساحاول تاجيل طرح اجابة على هذا التساؤل واقف عندها لاحقا واعود الى الربع الاسفل من اللوحة والذي يشكل الجزء الاقرب من النهر بالنسبة الى المتلقي حيث اختار الفنان ان يكون سطحه منطقة ظلال الاشكال التي تقع في البعد الثالث وهنا لفت نظري استعماله للالوان بما انها تكشف عن الاشكال حيث عمد الى فرشة لونية زرقاء متدرجة متدرجة من الازرق الشاحب جدا الذي يكاد يصل الى الابيض المشوب بالزرقة الى الازرق الكامد المشوب بلمسات من اللون الرمادي واللون البني الشاحبين والمتدرجين والمتداخلين ايضا هنا اوقفني تساؤل

لماذا عمد الفنان الى هذا التشويه لصفحة ماء النهر

بما ان اللون الازرق يؤشر دلاليا الرفعة والسمو والسكون والهدوء فان الفنان استبعده بشكل الصريح ليؤشر ضياع هذه الدلالات وتحول النهر الى مكان لا جمال له ودليلي في هذا الطرح ليس استبعاد الفنان للون الازرق فقط بل حضور شكل الدموع المنسابة ايضا وكذلك تحول انعكاس البيوت الطينية من اللون البني المحمر الى اللون الاصفر المائل الى الخردلي الشاحب الذي يؤشر ضياعا اذا النهر هو مؤشري الاول للضياع

يكشف المسح البصري للجزء الثاني من اللوحة عن كونه بؤرة سردية لمشهد اللوحة حيث اعتمد الفنان احمد في اشتغاله على اكثر من شكل:

1) ارضية طينية هي ضفة النهر

2) البيوت الطينية

3) الناعور

4) النخلتان

وبهذا يكون موئل اكتناز شكلي يسمح لي ان اتصوره مركز سيادة اللوحة حيث يعمل الفنان على تحقيق السيادة في اللوحة الفنية من خلال مجموعة من الأُمور التي تسرق بصر المتلقي حال إجرائه مسحاً بصرياً لها، منها ابرازه للاشكال وموقعتها والوانها ودلالاتها وهذا ما ساتوقف عنده حيث اتخذ اللون البني المحمر بتدرجاته الخفيفة حضورا واضحا في تظهير شكل الارض الضفة النهرية والبيوت المقامة عليها فكشف بذلك عن كونها بيوتا طينية في منطقة قروية لكنها تكاد تبدو بلا ملامح ولا تفصيلات مما يؤكد انها بيوت مهجورة ودليلي ان هذه البيوت تخلو من اية اشارة للتواجد الانساني فيها فلا اشكال انسانية ولا اشياء يستعملها الانسان ولا حيوانات كذلكالتباين اللوني  أو التباين في درجة اللون الواحد،

اما الناعور فيبدو هو الاخر مهجورا لذا بدا اشبه ما يكون ببقايا ناعور وليس ناعورا يقوم بوظيفته في نقل المياه فقد ضاعت اكثر تفصيلاته التكوينية كما ان اختفاء المزروعات يحيل دلاليا الى هذه الهجرة ورغم وجود النخلتين رمز الخير والعطاء الا ان الضفة بدت اقرب ماتكون الى القاحلة بدليل افتراش اللون البني على اكثر تفصيلاتها وغياب اللون الاخضر لون المزروعات التي يرويها الناعور والتي ستكون دليلي الى ان الحياة حية نابضة في هذا المشهد

ومما يؤكد تصوري هذا ان الاشجار التي تفرش وجودها على الجزء الايمن العلوي من النصف الثاني من مساحة اللوحة اتخذت ألوان الخريف مظهراً، حيث يؤشر الواقع العياني لدورة حياة أوراق الاشجار تحوّل لونها من الأخضر إلى الأحمر أولاً، ثم إلى البرتقالي الشاحب ثانياً، ويشير تغيّر لونها إلى الأصفر دليل موتها وتساقطها ثالثاً.

إذاً الزمن الذي يتحكّم في هذه اللوحة ليس زمناً يومياً مدّته 24ساعة، بل هو زمن فصلي يعلن عن خريف، واللوحة بأشكالها التكوينية وألوانها تؤشر فصل الخريف، فصل السبات والموت، وبالتالي هو سبب الدموع التي تمظهرت على أكثر أجزاء اللوحة فبدت وكأنّها دموع النهر والفنان احمد في الآن ذاته، فهما يبكيان زمناً كانت فيه الحركة حياة، وبساطة العيش جمالاً، والخضرة تشعّ وتعلن استمرارية وجودية لا موت لها.

هنا تلوح لي فرصة الربط بين زمن واقعٍ افتراضي عرضته اللوحة من خلال أشكالها وألوانها من جهة، وبين زمن واقعي يقع خارج اللوحة من جهة ثانية، فالناعور والبيوت الطينية جزء من زمن يتموقع ضمن مسيرة تاريخية انتهت منذ سنوات طويلة في الواقع العياني، بالمقابل اختزنت ذاكرة الفنان احمد هذا المشهد الذي ظلً يحاوره ويشاغله فأعاد صياغته، ومنحه زمناً وحياة خاصة في لوحة تشكيلية.    

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم