صحيفة المثقف

"الذاكرة المستعادة" بين الوطن الحلم وحلم الكتابة

730-hikayaقراءة في رواية "الحكاية الأخيرة" لمؤلفها الكاتب والفنان عبد الحفيظ مديوني

 

1 // تقول الحكاية:

كان يا ما كان:

في بلدة "ما" من أرض الله الواسعة، إمارة حباها الله بالرجال والعقول النيرة، والناس راضون، والقضاة والمستشارون في أسعد حال. رغم ما كان عليه واليها من قوة شكيمة وصرامة واستفراد بالرأي، فالكل كان يغض الطرف على هناته في الحكم ومجافاته للعدل، اعترافا له بالفضل، إذ أخرج البلدة من الفوضى والاضطراب وحقق لها الاستقرار وصان وحدتها من الانهيار.

ولكن لأن النعيم لا يدوم، ولأن كل جنة فوق الأرض إلى زوال، فالبلدة كانت تحمل في أحشائها سبب انقلابها من حال إلى حال.

فقد كان للوالي ولدان، وصبية كالبرعم لم تخرج بعد من الأكمام، الأول من الولدين متعنت عنيد صلف جلف، متعجرف و مستبد سفيه، والثاني لا يختلف عنه في شيء غير أنه خائب خامل الذكر، ثم إن الاستبداد والتهتك والسفاهة كما هو مقرر ومعلوم وجهان للتطرف نفسه وسمات مرضية للطغيان الذي يتجاوز كل حد إذا مكنت له الصولة والسلطة التحكمَ في الرقاب ـ فلا على شماله وجد الوالي من يُعَوِّل عليه ولا على يمينه وجد من يحفظ مجده ـ وقد كان نسل الوالي وحظه السيء من حيث لا يدري السبب في هلاكه، ذلك أنه اكتشف في لحظة لم يخطر له على البال أن يعيشها، أن درته المصونة في القصر، قد عبث بشرفها عابث، وفي سورة الغضب أو المفاجأة تعثرت قدمه في أذيال قدره فسقط من سلم الحياة ليدون اسمه الجليل في سجل الأموات. فتولى الفتى الأرعن المستبد السلطة بعده، فشرد من شرد وقتل من قتل وانتهك الأعراض و قطع الأرزاق والأعناق مبتدئا بالمقربين من والده المأسوف عليه. وعلى رأس المقربين قاضي المدينة "فيصل" الذي سيفر بجلده وأهله، فيضرب في البلاد عرضا حتى يوافي أرضا خلاء بيضاء عفراء، هناك سيقيم إمارته على أساس الحكمة والعقل، ويضرب السكة ويرفع البيرق ويحدث المؤسسات، وينشئ الإدارة ويقيم كيان الدولة.

دولتان بلغة اليوم وإمارتان بلغة الأمس.

المهم، بلدتان على وجه النقيض الواحدة منهما مع الأخرى.

هناك في "ذات النجدين" من أرض ميسان الحكم الغاشم الجديد، وهنا في "عفراء" الحكم الرشيد.

هناك الغصب والإجبار، وهنا الانتخاب والاختيار.

بلدتان فوق الأرض نفسها، واحدة للجور والتنكيل والعسف، والأخرى للإنصاف والعدل.

واحدة واقعٌ مر وسجن، والأخرى حلمٌ حر وخلاص.

باختصار: (حكم ديكتاتوري يرزح تحته الجند والتجار والولاة والقضاة وعامة الناس، و حكم ديمقراطي ينعم في ظله الجميع بحرية الاختيار وحرية التنقل وحرية العيش).

 

* جنة وجحيم.

وبين البلدتين تُنسج قصص وتُحَل أخرى، هنا أو هناك أو في ما بينهما. قصص تشد الأنفاس وتغري بالمتابعة، وتدعو إلى لتأمل والاعتبار، فيها الوفاء للصحبة و فيها الحب الصعب المستحيل، والغدر القاتل، والاغتيال الأثيم، و فيها الصداقة والتضحية والفداء، وفيها الطمع والسفه والعناد، وفيها الشجاعة والحكمة، والفكر والتأمل والتدبر، فيها إذن كل ما يصنع رواية تستحق أن تحظى بما يليق بها من مكانة في سجل المحكيات المغربية والعربية.

هذا هو الوجه الأول للرواية: هذه قصتها.

 

2 // ثم تقول الكتابة:

كان حتى كان، فوق أرض غير تلك الأرض، وفي وقت لعله هذا الوقت الذي نحن فيه الآن، كان أن كاتبا "ما " قرر بعد أن أجال النظر في الأحوال والناس وفي التاريخ والنفسيات، وأدام الضرب في تضاريس الأهواء والاختلاء مفكرا في النزوعات البشرية بمختلف مظاهرها ـ المضمرة الخفية و المعلنة الجلية ـ قرر أن يكتب روايته، وذلك دون أن تكون له سابق معرفة بموضوعها أو شخوصها أو أحداثها ومساراتها أو مآلها ومصائر أبطالها، قرر ذلك فحمل عدة كتابته وقصد مقهاه، هناك انتحى ركنه الأثير وجلس يقلب الأفكار على أوجهها الأربعة لعلها تسعفه ببداية الأحداث، كان يبحث عن اسم، عن شخص، عن مكان يكون المنطلق، فقادت إليه مقادير الكتابة وقضاؤها رجلا هو أيضا لم تكن له به سابق معرفة، رجلا غريبا على مسمى الرواية، اسمه "راوية" هكذا عرف بنفسه، اكتشف الكاتب بأن راوية على علم تام ومعرفة كاملة بالقصة كلها " قصة عفراء" و "ذات النجدين" وعلى علم أيضا ومعرفة بالرغبة التي تسيطر على الكاتب وتدفعه دفعا إلى إنجاز مشروع حياته و كتابة روايته/ حلمه الخاص، وعلى مدار جلسات طويلة سيروي الرجل للكاتب ما حفظته ذاكرته ووعته من أسماء وأحداث، أو يمده بما التقطته يده من آثار. وسيدون الكاتب ما أسعفه به الخيال حتى تستوي الرواية قائمة بوقائعها وأحداثها وأبطالها من ذلك الحوار الثنائي بين الشخصين، أقصد الكاتب وراويته.

 

3// الكتابة كآلية لحفظ الذاكرة:

"الحكاية الأخيرة" إذن ـ وهو العنوان الذي اختاره المؤلف لكتابه ـ عمل   مزدوج "تخييلي وواقعي" وذلك في الحدود التي تسمح فيها الرواية بالحديث عن فارق بين التخييلي والواقعي، ما داما معا ينتميان إلى واقع مختلف عن الواقع المادي، إنه الواقع الافتراضي، أي واقع الكتابة، حيث كل ما نعتبره واقعا هو نفسه مجرد تخييل.

التخيل الخصب للكاتب، هو ما مكنه من رسم الأحداث والشخوص.

والتأريخ الواقعي لراوية "اسم الرجل الغريب"، هو ما شكل المحطات الأساس في بناء الرواية.

شخص وهمي يروي الحقيقة، و كاتب فعلي يتخيل أحداثها ووقائعها.

إنها الإضافة النوعية في مجال السرد لمؤلف "الحكاية الأخيرة".

الحكاية الأخيرة في نهاية الأمر تروي قصة نشأة ثم اندثار وطن حلم، أو وطن وهم، أو وطن شجن، أو وطن منفى، أو وطن رغبة، أو وطن كتابة.

سماه الذي أنشأه أول مرة ـ أقصد الوالي فيصل ـ:

730-hikaya"عفراء الوطن".

وسماه الكاتب الذي استعاده من بين أنقاض التاريخ :

" الرواية الحلم".

الأول أنشأه على أديم أبيض لأرض جديدة.

والثاني كتبه على صفحات بيضاء من أوراق كتاب.

وكأننا بالكتابة نستعيد الأحلام والأوطان.

أو كأن الكتابة تعويض لنا على الفقدان.

"الحكاية الأخيرة" هي إذن:

حكاية الوطن المأمول والمشتهى، وطن الشعراء والفنانين، وطن العادلين والخيرين من بين الناس. وطن المحبين والعشاق. وطن الفضلاء والشرفاء.

الوطن الذي اسمه وذكره في قلب كل واحد منا. وطن "الحلم بالطهارة والنقاء، وسيادة التآخي والتسامح وانتشار السلم، والأمن، والحب، والمساواة والحرية. بكلمة واحدة، وطن الحياة".

فالوطن ليس الأرض فقط، وإنما هو القيم و الناس، والكتابة ليست حروفا على أوراق فقط، وإنما هي الإحساس الذي نعطيه للكلمات.

ففي قلب كل واحد منا عفراء، تنتظر من ينفض عنها الرمل والغبار، ويرفعها من جديد فوق الردم حية تنبض بالمحبة والصدق والوفاء.

كيف نشأت هذه البلدة في التاريخ وفي النفس والعقل والفكر، ولماذا؟ وما الحاجة التاريخية أو النفسية أو الفكرية التي تجيب عنها؟؟

من هم أبطالها؟

ما هي القيم التي تبشر بها؟

وما السر في أن الكاتب أنجز مشروعين في الآن نفسه؟

فكتب «رواية" هي "الحكاية الأخيرة"، ولكنه أيضا وفي الآن نفسه، روى قصة كتابتها. في عمل أدبي وفني يجمع بين "كتابة الرواية ورواية الكتابة"، إنها رواية مزدوجة أو هما روايتان، متحايثتان، كل واحدة منهما لباس للأخرى كاللحاء والشجرة. روايتان، واحدة عن الوقائع والأحداث التي صاحبت نشأة الوطن البديل، والأخرى عن الوقائع والأحداث التي صاحبت الكتابة عن هذا الوطن، أو استرجاعه من جديد من تحت ردم الإهمال وأنقاض النسيان، عبر الكتابة.

والفكرة النواة التي يتأسس حولها البناء الروائي تتلخص في أن فئة قليلة من الأشراف الهاربين من الاستبداد أنشؤوا وطنا للحرية والعدالة على أرض عفراء، لكن هذا الوطن لم يعمر سوى عقودٍ قليلة واندثر، ليصبح مجرد حلم، بعد حين يأتي كاتب فيحاول استرجاع هذا الحلم وإعادة بناء الأحداث والوقائع التي قادت إلى نشأته ثم انهياره أو اندثاره. هي رواية إذن كتبها مؤلفها من أجل حفظ ذاكرة حلم إنساني نبيل، لا يمكن أن يندثر أو يمحوه النسيان أو تطوله عوادي التغيير والتحول التي تطرأ على التاريخ، إنها رواية من أجل حفظ ذاكرة القيم الإنسانية الأصيلة، وحفظ أحلامها.

 

3// الشخوص: أدوار وقيم:

وككل رواية تستحق هذا الاسم "فالحكاية الأخيرة" نسيج متفرد من الحكايات الفرعية التي تتمدد وتتشابك كأغصان الدالية لتصنع عريشة تتدلى منها عناقيد الحالات والقيم والمواقف التي تحمل كل شخصية على عاتقها رسالة الدفاع عنها "إيجابيا" أو تمثيلها وتجسيدها "سلبيا" أو تأسيسها.

ولنبدأ بالشخوص ثم ننتقل إلى الحالات والمواقف:

أ) القائمة الأولى للشخوص "المساندة" لمشروع الرواية وأتباعها:

الأمير أشرف/ القاضي فيصل / التاجر أبو الفضل /عماد المجند في الحرس الأميري وصديق شاهد/ عابرة.

وأتباعها:

كلثوم/ عازم/ معتز/ صفية/ زمردة/ عمار.

 

ب) القائمة الثانية للشخوص "المناهضة" لمشروع الرواية وأتباعها:

المغير/ سحنون.

وأتباعها:

ورد/ هيثم/ عبيد/ حسام/ غادة/ واصل.

ج) قائمة الأبطال المؤسسين للمشروع:

* بالنسبة لأحداث الرواية:

1) المعلم دارية.

2) شاهد.

* بالنسبة لكتابة الرواية:

1) الكاتب.

2) راوية.

فماذا يمثل كل هؤلاء الشخوص الذين جعلناهم ثلاثة أصناف:

مساند ومناهض، ومؤسس؟ ما هو دورهم وما هي القيم التي يحملها كل واحد منهم؟

اـ القائمة الأولى:

المساندون:

1) الأمير أشرف، في عهده سيعود الأمن والأمان إلى ذات النجدين وينعم الناس بالاستقرار، فيعيشون في نوع ما من الواحات التي تحط بها قوافل البشرية رحالها ثم تستأنف مسيرة الصراع. كان حكمه رغم "استبداده بالرأي وتسلطه" واحة استقرار، ثم جاء بعده من أشعل نار الصراع.

2) القاضي فيصل، رجل لا يبحث عن السلطة ولا يريدها، ولكنه في الأخير يستجيب لرغبة الأمير ويوافق على تأييده ومساندته، فيحكم كما أمره الأمير بما يمليه الضمير، يوقف الظالم عند حده ويأخذ للمظلوم حقه،

حتى تجري المقادير بغير مشيئة السفن، فيموت الأمير ويتولى الإمارة المغير، ولأنه لن يطأطئ رأسا ولن يثني ركبة، فقد عاداه الوالي الجديد فأصبحت رأسه مطلوبة. لذلك وبعد أحداث مشوقة مثيرة، يجد نفسه وقد هاجر بأهله وأتباعه ممن رفضوا الحكم الجائر إلى حيث وجدوا موطئ القدم على أرض عفراء، بنوها طوبة طوبة وحصنوها من غارات المغير الذي أعيته الحيل وتخلى عنه الجند، فالتجأ إلى الحيلة فأرسل من يغتال الرجل العادل.

مات الرجل المؤسس إذن، بالسم. وبقيت عفراء للخلف. حتى أصابها التلف، دون أن يكون للناس يد في ذلك.

ماتت عفراء كما يموت الحلم بعد عقود من اغتيال مؤسسها وتعاقب أربعة ولاة على حكمها، فالأحلام والأوطان أيضا تغتالها عوادي الزمن.

3) التاجر أبو الفضل، رجل يعرف بامتياز قوانين السوق وموازين الربح والخسارة، وفيٌّ طيب المعشر وحلو الحديث، جمعته بالقاضي الحاجة إلى استرجاع حق مهضوم من صاحب نفوذ أراد الاستحواذ على ماله، فبقي يلهج بالثناء على القاضي ويشهد له بالفضل، وجاء الوقت الذي يرد له فيه الجميل فلم يتأخر، فقد وقع في يد القاضي طفل يتيم من ضحايا الحروب الطائفية التي كانت تنخر البلد، فعهد به للتاجر أبي الفضل، فكفله ورعاه إلى أن ألحقه الوالي الجديد بجنده ضدا على رغبته. سيكون للفتى شأن وأي شأن، وسيحفظ للقاضي وللتاجر ما فعلاه من معروف، فيمنع عنهما الأذى ويوصل لهما الأخبار و... حتى... يجري الله مقاديره على الرجلين معا، فيموت الأول مسموما، ويموت الثاني مسجونا.

4) عماد مجند في حرس الأمير، شاب محب للخير، يرفض الظلم وينحاز للحق، فهو من أسَرَّ للقاضي بأن عين المغير عليه، وهو من ساعد شاهدا في كل ما ذهب إليه، كان صديقه و سميره وصاحبه في المحنة والرخاء، وحين افترقا ذهب شاهد إلى الحكاية وذهب هو إلى التجارة، فبقي هو وفيا لتجارته، وبقي شاهد وفيا لحكايته، فقد كان لكل واحد منهما قدره الذي كتب من البداية على كف عفراء.

5) عابرة، فتاة كنسمة الهواء ورفة الجناح، وخفقة القلب. عابرة كالحب الذي اختطفها قبل الأوان من دهشة اللقاء إلى صدمة الفراق، عابرة ابنة القاضي فيصل مؤسس عفراء وواليها، تعيش في ظل والدها مكرمة ترفل في الرياش والنعيم، ثم يأتي شاهد، تراه ويراها، شابة حسناء وشاب وسيم، يقطفان زهرة الحياة اليانعة، في لحظة عابرة كحلم ليلة، ثم يرحل الحبيب وراء فرخة أوهامه، يبحث عن أوطان بلا حدود، وعن أجنحة ليطير بها إلى الأبد، حبيب كطير لم يكد يحط على فرع الشجرة حتى رحل.

تموت عابرة، ويفتح الباب للأسئلة.

لماذا؟ وكيف؟

هل انتحرت؟

هل كانت حبلى؟

هل ماتت فقط لعلة أو مرض؟

لا أحد يدري، فقد ماتت عابرة كما ماتت عفراء.

مات الوطن المشتهى، وماتت الحبيبة بلا سبب، أو لألف سبب.

أو فقط لأن عابرة وعفراء ليستا إلا اسمين مختلفين لمسمى واحد ـ الوطن و الكتابة ـ أليست الكتابة وطنا، وإلا، فلمَ نقيم فوق أرضها؟

6) في القائمة نفسها للشخوص المساندين نجد:

كلثوم زوجة القاضي، عازما ومعتزا ابنيه وصفية وزمردة زوجتيهما، وأخيرا عمار الوالي الرابع لعفراء. وكل هؤلاء أدوارهم ليست ذات أهمية أو دلالة في سير الأحداث. إنهم توابع ضرورية فقط لتشكيل محيط الشخوص، وإضفاء الواقعية اللازمة عليه، ذلك أنه حتى ونحن نتخيل الأحداث لا بد أن نمدها بما يكفي من الواقعية.

ب ـ القائمة الثانية:

المناهضون:

1) المغير، ولي عهد أشرف والي "ذات النجدين"، فتى عنيد متعجرف سيكون منه ما عرفناه من تنكيل بالعباد ومطاردة للأحرار، وغدر واغتيال، سينتهي بتسميم القاضي فيصل والي عفراء ومؤسسها.

تدور دوائر الزمن عليه فيشرب من الكأس نفسها التي سقى منها غيره. وهذه المرة على يد قائد جيشه وزوج أخته، واصل.

2) سحنون، مرتزق يبحث عن المال، يبيع مَكْرَهُ للمغير، فيتسلل إلى عفراء، وهناك، تحت ذريعة تعليم الطب والمهارة فيه، سيجد الطريق سالكة إلى تسميم فيصل والهرب، تماما بالطريقة نفسها التي هرب بها ابن جرير الشماخ، وسينتهي به الأمر هو أيضا قتيلا قبل أن يفلت بجلده. ربما من طرف تلميذيه وبأمر من المغير.

3) ورد وهيثم تلميذا سحنون وتابعاه، عبيد قائد حرس المغير ورئيس فيالق الموت التي كان يبعثها لاغتيال المعارضين، حسام الأخ الشقيق للمغير وشبيهه في السفه والعربدة، غادة الفتاة التي أدخلت العار إلى القصر الأميري ومات والدها يوم اكتشاف حملها من غريب لم يكن في الأخير غير واصل ابن عمها. وأخيرا، واصل، زوج غادة و الحاكم الجديد لذات النجدين بعد المغير. وهؤلاء أيضا لا يحمل دورهم أية دلالة أو رمزية إضافية ـ في هذه القراءة على الأقل ـ شأنهم في ذلك شأن توابع القائمة الأولى.

ج) القائمة الثالثة:

وهي قائمة الشخوص المؤسسين لرؤيا المؤلف ومشروعه الروائي، في وقائع ما جرى لعفراء وأيضا في وقائع ما جرى أثناء كتابة الرواية.

*البطلان المؤسسان للحكاية:

1) الشاهد: بطل رئيسي بامتياز، يعبر الاختبارات والاختيارات بإصرار ويمضي في سبيل تحقيق قدره، هل كان القدر الذي مضى إليه أفضل من القدر الذي عُرض عليه؟ هل كانت الحكاية التي احترفها خيرا من عابرة التي أحبته و تخلى عنها؟ ألم يكن هو أيضا كما كان الوالي فيصل مؤسس عفراء ووالد عابرة منذورا دون أن يدري لتحقيق قدر كتب من الأزل؟ ومن منهما كانت الوطن ومن منهما كانت الابنة الحبيبة، عفراء أم عابرة، أم الحكاية؟ وكأنه كان مكتوبا عليه أن يكون هو العابر وهما المقيمتان. أقصد أن يكون هو الحكاية.

شاهد، الطفل ضحية الحرب الطائفية، شاهد اليتيم بلا جذور وبلا شجرة أنساب، سيحمل قدره على ظهره ويمضي به، سيُلحق بجند المغير حين سيصبح المغير حاكما بأمره، لكن يد الشاهد لن تلطخ بدم، ولسانه لن يلطخ بباطل، وسيظل وفيا للتاجر الذي كفله وللقاضي صاحب الفضل عليه، وبفضله سينجو القاضي من الاغتيال، وبفضله ستنجو عفراء من الاحتلال، وبعفراء سيلتقي عابرة في لحظة عابرة، ثم يمضي إلى قدره، يتعلم ويحفظ ويقرأ ويحكي، هذا قدره، بلا سكن ولا وطن ولا حبيبة ولا مستقر، يمضي ويعود إلى عفراء بعد أن طوف بالبلدان، ليحكي لأهلها حكاياته السبع بفصولها السبعة. يحكي لعفراء العامرة، ثم يحكي لعفراء التي صارت تحت الردم، لقد رأى عفراء وهي تنهض من تحت الأرض ثم رآها وهي تعود إلى بطن أمها الأرض، رأى حلما وأملا، رأى وطنا وحبيبة، ولكنه لم يقبض في يديه على غير الريح، الريح وحدها والغبار يعرفان ما كان، لم يرحل ولم يستقر. لقد أقام في الحكاية وكان هو الشاهد الذي رأى ما كان، دون أن يرف له جفن، ودون أن يرتعش له لسان، عفراء ليست مكانا على الأرض ولكنها فكرة عبرت خاطره، وعابرة ليست امرأة من لحم ودم، ولكنها خفقة هزت قلبه.

2) المعلم دارية: مَن مِن الشهود أو الشخوص سيلتفت إليه؟ إنه العمارة الحقيقية للأرض وللرواية، هو أصلها وفكرتها، البناء به ابتدأ، ولولاه ما كانت عفراء ولا كانت ثورة، ولا كان عدل ولا كانت مساواة، ولا كان حلم. المعلم دارية هو قدر الإنسان، لذلك كان الرجل يحسن قراءة الأقدار والأفكار، ويعرف مآل المصائر والناس.

المعلم دارية هو العقل المفكر والمنظر للثورة على الظلم ورفض الاستبداد، وبفضل أفكاره أسست عفراء وطنا للمحرومين، على قواعد الاختيار الحر والمساواة، لذلك كان مصيره كمصير المفكرين الأحرار: القتل.

قتل المعلم دارية، لكن فكرته لم تمت، ودفنت عفراء تحت الأنقاض لكن وطن الحرية لم يمت، وماتت عابرة، لكن الفكرة كالثورة وكالحكاية بقيت خالدة.

 

* البطلان المؤسسان للكتابة:

1) الكاتب: ما حاجة الكاتب لأن يكتب، إن لم يكن يحمل مشروعا يريد إحياءه، أو التبشير به، حتى وهو يدعي بأنه لا يعرف شيئا عن موضوعه ومشروعه وعن شخوصه وعن أحداثه؟ هل القدر الذي مضى فيه إلى منتهاه، هو القدر الذي كان يستحقه؟ ألم يكن قد أخطأ هو أيضا حين اختار لنفسه قدرا مختلفا ثم حين عاد أدراجه ليستعيد قدره فلم يجده قرر أن يحكي مساره واختياره كأنه يقطع الطريق من جديد،إذ لم يبق منه هو أيضا غير ذكرى وغير حسرة على ما كان؟ أما كان الأولى به أن يمضي في قدره الأول؟ وهل كان اختياره أفضل؟ وما الفرق بين أن تذهب أو أن تبقى، ما الفرق بين أن تقيم أو ترحل؟ هل هذه أسئلة الكاتب أم أسئلة الشاهد؟؟ وإلى أي حد يمكن أن نميز بينهما؟ أين ينتهي الأول وأين يبدأ الثاني، وما الفرق بين الاثنين؟ الأول انتهى حكواتيا ينصب خيمته ثم يطويها فوق أرض خلاء "عفراء" ليروي حكايته الأخيرة على دورات محسوبة.

والثاني يفرد صفحاته ثم يطويها على دورات محسوبة وجلسات محسوبة ليروي حكايته الأولى دون أن ينهيها، أليس الشبه بين السيرتين والمصيرين يصل حد التماهي؟

هو الكاتب الشاهد إذن، على زمن وعلى حلم إنساني خالد، فعفراء حتى وإن كانت عابرة، فإنها لا تموت ولا تنتهي ولا يكاد غبار النسيان يطمرها حتى تنهض من جديد في مكان آخر من أرض الله الواسعة، فإن لم يكن، فعلى الورق، أليس الورق أيضا أرضا للحلم، ووطنا للإقامة والسكن؟ أليست الكتابة أفضل آلية لحفظ الذاكرة؟

2) راوية: شخصية راوية عجيبة، يأتي من حيث لا ندري، يعرف ما يريد الكاتب، ويعرف الأرض والبلد، والشخوص والأحداث، وهو مثل الكاتب يريد أن يروي حكايته، ولكن ليس بقلمه، فلكل وظيفته، وظيفة الكاتب أن يكتب ووظيفة الراوي أن يحكي.

على حلقات متتالية، وفي كل جلسة سيكتب جزءاً من الحقيقة.

الكاتب يستنجد بخياله وراوية يستحضر ما حفظته ذاكرته.

شخصية راوية تقابل شخصية المعلم دارية.

لكل منهما دور أساسي في الروايتين.

الأول في كتابة الحكاية الأخيرة والثاني في تأسيس عفراء.

وكل واحد منهما يمثل وجها للحقيقة.

المعلم دارية يمثل المعرفة والفكر والنظرية والعلم والحكمة.

وراوية يمثل الذاكرة والتاريخ والموروث والمحفوظ.

عقل وفكر وذاكرة ووجدان بدونها لا تقوم الأوطان ولا تتحقق الأحلام.

عقل يفكر ويدبر ويُعَلم وُينَشِّئ.

ولسان يعبر ويحكي ويروي ويُذَكِّر ويحفظ الأثر.

ذاك هو راوية الوجه الآخر للمعلم دارية وليس نقيضه.

وذاك هو الكاتب الوجه الأخر للشاهد.

ثم أليس الكاتب في الأخير هو المعلم دارية؟

و أليس الشاهد في الأخير هو راوية؟

إن الدمية الروسية هذه التي بُني على غرارها هذا العمل لن تنفك تحيرنا وتدعونا للمزيد من التأمل.

فالحكاية الأخيرة من الأعمال الإبداعية التي تحتاج تأملا يضاهي التأمل الذي كان وراء تشكيلها.

وكاتب فنان، ومسرحي حكيم، لا يمكن أن ينتج إلا عملا فيه بصمة الفن وعمق التأمل وتركيبة البناء المسرحي.

قليلون هم الممثلون القادرون على أداء أدوار مركبة أو أدوار متعددة، والشخوص في الحكاية الأخيرة من ذلك النوع، إنهم أبطال متحولون     وممتدون وعابرون للزمن وإنَّ أدوارهم لمركبة ومتعددة في الآن نفسه.

الكاتب يسترجع دور المعلم دارية، كما لو أن به حنينا لاسترجاع الوطن الذي ساهم بفكره وتعاليمه في بنائه وتأسيسه.

وراوية يسترجع دور شاهد، فقد حفظ عنه الحكاية وهو هنا والآن لكي ينقلها للأجيال التالية بتواطؤ تام مع الكاتب.

شخوص و أبطال يصعب الفصل بين أدوارها لأنها في النهاية ليست إلا بطلا واحدا يؤدي جميع الأدوار كما يمكن لفنان كبير فقط أن يؤديها أو يبدعها.

 

* أسئلة الواقع وأجوبة الرواية:

مرة أخرى أقول، في قلب كل إنسان خيِّر عفراء وعابرة، عدت عليهما عوادي الزمن وطمرتهما صحراء الجفاء بين طيات رملها.

وفضل هذه الحكاية أنها تذكرنا بحلمنا الإنساني الكبير، والذي لا يستطيع كل تاريخ العسف أن يوقفه أو يمحوه، الحلم بأرض الحرية والعدل. فكل جيل يكتشف عفراءه وكل عابر لا بد أن يلتقي بعابرة، ولا بد أن نغادر الحكاية بحسرة في النفس وغصة في القلب، لأننا نود أن لا تكون الحكاية الأخيرة وإنما الحكاية الأولى من الحكايات السبع التي سمعها أهل عفراء من فم الشاهد، ونود أن تنهض عابرة من موتها وتنهض عفراء من تحت الأنقاض والتراب، لنعيش أحلامنا المشتركة في وطن الحلم.

الحكاية الأخيرة إذن ليست مجرد رواية لتزجية الوقت والترويح عن النفس، وإنما هي عمل إبداعي يدعو قارئه إلى التأمل العميق في الحياة والموت، والبقاء والزوال، والثبات والتغيير، والإقامة والترحال، والذاكرة والتاريخ، يدعونا إلى التفكير مليا في رياح المقادير التي تسوق سفينة البشر. وقد حقق فيها المؤلف ما لا يتأتى إلا في القليل من الروايات، فجمع فيها بين ما ينتظره القارئ من تنام للأحداث وتشويق وإثارة ورسم دقيق للشخصيات وسلاسة في اللغة وإتقان في التشكيل والبناء، وبين ما ينتظره كل كاتب من القارئ، أي، الإنصات بإمعان إلى صوته، والتفكير معه في المقادير والمصائر والناس.

فهنيئا لمن يريد أن يفكر، ويتأمل ويعتبر. هنيئا لمن جاور الربان وركب السفينة واستشرف الآتي وجاءنا بالخبر. هنيئا للكاتب الحكيم، عبد الحفيظ مديوني، في انتظار شهادة أخرى على هذا الزمن.

 

جمال الدين حريفي

القنيطرة / المغرب

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم