صحيفة المثقف

خداع بصري .. قراءة للوحة "تُرابيّات" للفنان صلاح حديد

wejdan alkashabيشير الفيلسوف ديكارت إلى أنّ للإنسان قدرة عقلية فريدة لا يمكن تفسيرها آلياً، فإذا أضفنا إلى هذه القدرة ما طرحته موسوعة ويكيبيديا وهي تُعرّف الفطرة بأنّها: مجموع الاستعدادات والميول والغرائز التي تولد مع الإنسان، وعززنا ما سبق بما طرحه تشومسكي في قوله: للإنسان قدرة عقلية فريدة لا يمكن تفسيرها، وتتمثل في الجانب الابداعي للعقل البشري، كان الناتج شخصية صلاح حديد الفنية، هذا الفنان الفطري الذي لم يعرف حياة التلمذة الفنية، بل عرف لذة التعرُّف والتجريب والابداع ذاتياً، وهذا ما جعلني أقف أمام نتاجه الفني، ومحاولة قراءة واحدة من لوحاته.

84-salahhadid

إنَّ المسح البصري الأولي لهذه اللوحة يكشف عن أرض صحراوية جرداء تقبع فيها صخرتان: الأُولى هي الأكبر كتلة وهي الأقرب إلى المتلقي، والثانية هي الأصغر كتلة، وتقبع يمين المتلقي وأبعد عن الأُولى، فيما يقع شكل ثالث أقرب إلى الصخور المتجمعة في العمق الفراغي، ولكن التدقيق البصري في مكونات هذه اللوحة سينكشف عن لعبة خداع بصري اعتمد فيها الفنان تداخلاً ما بين الجسد الإنساني والصخرة التي تبدو أقرب إلى رأس إنسان، ويتخذ الفنان من الجسد البشري أداة لإظهار بعض أجزاء هذا الرأس الصخري، فجسد يشكّل العينين والأنف، وجسد يشكِّل الفم، وثالث يشكِّل الأُذن، وأجساد ثلاثة تكمل المشهد حيث عمد الفنان إلى رسمها بوضعية تشير إلى أنَّها تدفع بالصخرة إلى أعلى المنحدر، أمّا الجسد السابع فيتموقع أمام الصخرة.

عمد الفنان إلى تكرار المشهد في الصخرة الثانية حيث رسم جسدين انسانيين يمنحان الصخرة ملامح إنسانية من خلال تكوينهما لمنطقة العينين والخدين، فيما منح للجسد الثالث وظيفة تشكيل الأُذن، هنا يمكننا أن نتوقف لنتسآءل: لماذا عمد الفنان إلى هذا التداخل من خلال الخداع أو الوهم البصري؟

للاجابة عن هذا التساؤل لا بُدَّ لنا من وقفة سريعة لعرض مسألة الخداع البصري {الوهم البصري} في الفن، حيث تشير الأساطير اليونانية القديمة إلى أنَّ اثنين من أشهر الرسامين المعروفين آنذاك تنافسا في مسابقة فنية، كان هدفها تبيان قدرة كل منهما على انتاج لوحة تحاكي الطبيعة، وذلك من خلال ايجاد جو من الخداع البصري الذي يوهم المتلقي ليقف حائراً في تلقيه لهذه اللوحة ومتسائلاً: هل هو أمام لوحة مرسومة أم هو أمام مشهد حقيقي ملموس؟

بدأ الرسام الأول {زوزيس} برسم عنقود عنب، وبلغت قدرته على محاكاة الطبيعة أنّ الطيور هبطت {كما تروي الأُسطورة} على اللوحة لالتقاط بعض حبات العنب، وبالمقابل أحضر الرسام الثاني {هايزيوس} لوحة مغطاة بقطعة قماش، وعندما مدَّ يده زوزيس ليميط اللثام عن لوحة منافسه، أدرك أنَّه خسر المنافسة فعلاً لأنَّ ما حسبه قماشاً لم يكن إلاّ رسم هايزيوس.

وفي عصر النهضة {ق 14 وما بعده} عادت فكرة خداع البصر إلى الظهور بشكل واضح في ايطاليا وبقية دول أوربا، فافترشت لوحاته سقوف وجدران الكنائس والقصور على السواء، وشاعت فكرة رسم منظر نافذة تطل على مشهد بحيث تبدو للمتلقي في لحظات تلقيه الأُولى أنّها حقيقية، ولا يكتشف أنَّها خدعة بصرية إلاّ عندما يقترب منها ويدقق النظر فيها، وهنا نلاحظ أنَّ فكرة الخداع ليست فكرة جمالية فقط وإنّما كان الهدف منها هو منح الأماكن الضيقة وسعاً، ومنح السقوف ارتفاعاً لا تملكه في الواقع العياني، وتخصيصاً سقوف الكنائس.

تشير القراءة التأريخية لرحلة الفن التشكيلي إلى أنَّ الخداع البصري لم يختف بل كان يعاود الظهور بين فترة وأُخرى، ولعل الفنان الهولندي فان جوخ كان الأشهر في اعتماده على الخداع البصري في عدة لوحات اعتمدت المدرسة الانطباعية، ففي احدى لوحاته يكشف المسح البصري الأولي للوحة منظراً طبيعياً وقبة يجلس عليها شخص، وفي العمق الفراغي يجد المتلقي كوخين لكنه حين يدقق النظر يكتشف وجود عينين، أمّا الأُذن فهي قبعة تتموقع على رأس فتاة تسير، وفي لوحة أُخرى يبدو للمتلقي طير وأوراق شجر، ولكن التدقيق البصري يكشف عن خداع بصري فهي ليست أوراق شجر بل عصفور آخر.

وتشير الدراسات التي تناولت الخداع البصري إلى أنَّ الكثير من الفنانين اعتمدوه في لوحاتهم مثل: جوزيف ألبرز، بيتر سيدجلي، بريجيت رايلي، اوكتافيو اوكامبو.

هنا لا بُدَّ لنا أن نتوقف لنؤشر نقطة محورية في الخداع البصري، فنتسآءل: هل كان للطبيعة دور الملهم للفنانين الذين اعتمدوه؟ والاجابة ستكون: نعم، فمثلاً جلود الحيوانات مثل الحمار الوحشي والنمر أُنموذجان للخداع البصري، وكذلك الكثير من الصور التي ترسمها المناظر الطبيعية التي يكتشفها المتأمل فيها ليرى أنَّها يمكن أن تمثِّل شيئاً آخر، وفي حادثة شخصية مرّت بي يوماً ما ونبهتني، حيث كنتُ أسير في أرض متروكة اختصاراً للمكان وتخلصاً من ازدحام الشارع، وكان فيها الكثير من الكتل الطينية والأعشاب، وحينما حاولت أن أقفز عبر بركة ماء الى ما ظننته كتلة طينية تبين لي أنَّه كلب نائم، لم أتبينه لأنّ لونه كان بلون الأرض التي يرقد عليها، أليس هذا خداعاً بصرياً؟

نعود إلى مسيرة الفن والخداع البصري لنجد أنّ مدرسة الباو هاوس الألمانية كان لها التأثير الكبير في تطوير هذا الاتجاه لأنَّ فنانيها أجروا الكثير من البحوث البصرية التي تختص بكيفية تلقي العين والمخ للظاهرة البصرية، وظهرت آثار هذه المدرسة في الفن والعمارة والتصميم والطباعة لأنَّها اعتمدت معطيات الهندسة والرياضيات.

إنّ الخداع البصري بوصفه موضوعاً للفن لم يكتسب تسميته هذه إلاّ حين أطلق أحد الصحفيين الأمريكيين عليه تسمية {أُوب آرت} أي الفن البصري خلال معرض أقامه بعض الفنانين تحت عنوان {العيون المستجيبة}، فبدأ النقاد ينتبهون إلى هذا النوع من الفن، كما اتجه بعض الفنانين إلى استثمار معطياته في لوحاتهم من خلال تعاملهم مع اللون أو الشكل أو الكتل وعرضها بطريقة تخادع بصر المتلقي، وتجعله في حيرة وارباك إزاء ما يتلقاه، فيُدفع باتجاه تشغيل ذاكرته بعمليات عقلية متعددة مثل: تفكيك الأجزاء واعادة تركيبها، وبناء التصورات، وتذكُّر المشاهد الواقعية سواء أكانت مقاربة لما يتلقاه أم مغايرة، حيث تشتغل هذه العمليات باتجاه محاولة الوصول إلى ما تقدمه اللوحة لمتلقيها، ولعل من أشهر الفنانين الذين اعتمدوا هذا الخداع هو اوكتافيو اوكامبو وكذلك فارازيلي الذي بدأ رحلته مع خداع البصر بلوحة {الحمار المخطط} في ثلاثينيات ق 20.

إنَّ الفن بوصفه مُكوِّناً حياتياً لازمَ الإنسان منذ أن اتخذ من قطعة الفحم فرشاة يرسم بها على جدران الكهوف التي عاش فيها أشكالاً تجريدية إنسانية وحيوانية أدّت وظيفتها التمجيدية في كشف القدرة على أداء فعل النصر من خلال اصطياد الحيوان وقتله، هذا الحيوان الذي منحه الإنسان وجوداً مُسيطَراً عليه فرسمه بشكل تجريدي ناقلاً صورته الحيوية الطليقة في واقعه العياني إلى شكل تجريدي محبوس على جدران الكهف، والإنسان البدائي بهذا يكون قد اتخذ من الطبيعة مصدراً وأداة للسيطرة على الحيوان الذي سيتحول من خلال عمليتي الصيد والقتل إلى مصدر من مصادر استمرارية الوجود الإنساني، إلاّ أنَّ هذا التجريد البدائي الفطري عاد إلى الظهور مرة ثانية ليؤدي وظيفته في اعادة انتاج صور ومشاهد ومُكوِّنات الواقع العياني ناقلاً إياها إلى واقع آخر متجرد من التفصيلات معتمداً رؤى ووجهات نظر وتنظيرات ستعمل باتجاه تقعيد هذا المذهب بعد أن كان فطرياً، من هنا بدأت النظريات التي أشارت إلى أنَّ التجريد هو: اتجاه فني يهدف إلى التعبير عن الشكل النقي المجرد عن التفاصيل، من خلال الافادة من معطيات الأشكال الهندسية {المستطيل، المربع، المثلث، الدائرة} وتحويرات هذه الأشكال وتداخلاتها، باعتماد الخطوط والألوان لتكون بديلاً عن الأشكال التقليدية المنقولة من الواقع.

الخداع البصري من الموضوعات التي تستهويني كثيراً وسأُفرد له بحثاً خاصاً في قابل الأيام إن شاء الله لي ذلك، لأنّه أصبح فناً مُقعّداً يعتمد أنواعاً منها ما يتعلق بالألوان، ومنها ما يتعلق بالهندسة، ومنها ما يتعلق بتحريك الصور، ومنها ما يتعلق بالأحجام والقياسات {الانامورفسيس}.

نعود إذاً إلى لوحة الفنان صلاح لنجري مسحاً بصرياً ثانياً يحاول استكشاف ما طرحه لمتلقيه في هذه اللوحة التي تعتمد واقعاً مُحرّفاً عن حقيقته من جهة، وواقعاً أصيلاً حقيقياً من جهة ثانية، فالتحريف واقع في فكرة رسم الإنسان عارياً تماماً أثناء أداء عمل صعب للغاية وهو دفع الصخرة، إلاّ أنَّ هذا العري كان يمتلك مقصديته تماماً لأنَّه يشكّل اشارة للمتلقي بأنّ انسان هذه اللوحة هو أي انسان بغضِّ النظر عن مكان وزمان وجوده، فهو زمان منفتح تماماً، وقد يمتدُّ إلى ما لا نهاية، ومكان لا يتقيد بشرط الوجود الفعلي، والأزياء – كما هو معروف - لها خاصية كشف وتحديد كل من زمان ومكان الشخصية التي ترتديها، ولهذا أبدع الفنان حين دفع بهذه الخاصية بعيداً عن عالم اللوحة، ومما يؤكد وعي الفنان بهذه المسألة هو تعمده اخفاء ملامح الوجوه من خلال عرض هذه الشخصيات إمّا منكسة الرأس أو جعلها تدير ظهرها للمتلقي لكي يؤشر انغمار هذه الشخصيات بالفعل الذي تؤديه أولاً، وملامح الوجه مثل الأزياء لها خاصية الكشف عن شخصية حاملها وتحديد انتمائه ثانياً، إذاً هذه الشخصيات تلتقي في فقدانها هويتها التشخيصية لأنَّها مطلقة زماناً ومكاناً.

هنا لا بُدَّ لنا من محاولة البحث عن دلالات هذه اللوحة، خصوصاً أنّها تحيلنا إلى أُسطورة اغريقية قديمة ومعروفة هي أُسطورة سيزيف، التي سنعرضها بشكل مختزل ثم نحاول ربطها بدلالات اللوحة.

وسيزيف – كما تشير الأُسطورة – ابن الملك ايولوس ملك منطقتي تيساليا وايناريت، وكان أكثر الأشخاص مكراً ودهاءً، حيث استطاع أن يخدع إله الموت ثانتوس ويكبِّله بالسلاسل، فغضب عليه كبير الآلهة زيوس، وكان نتاج هذا الغضب أن فرض عليه عقوبة صارمة بأن يدفع صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل بها إلى القمة جعلها زيوس تتدحرج ثانية إلى الوادي، فيعود من جديد إلى دفعها، فأصبح سيزيف رمزاً للعذاب الإنساني الأبدي المحكوم باللا توقف.

في هذه اللوحة تنبني أُسطورة سيزيف بناءً جديداً يحاول الفنان مغايرتها من خلال تكرارية الشخصيات لكي يُخرِج الأُسطورة من واحديتها {سيزيف} إلى انسانية متكررة {10} شخصيات، ولهذه التكرارية دلالاتها التي سنتوقف عندها لاحقاً.

لنقف أولاً مع تكوين هذه اللوحة حيث تتشكل الأرضية من مجموعة أشكال تكوينية، الأول منها هو المنحدر الذي يتخذ موقعته في الزاوية اليسرى من اللوحة، والثاني هو الأرض، أمّا الشكل الثالث فهو الصخرة الكبيرة، والشكل الرابع هو الصخرة الأصغر حجماً والأبعد موقعاً مع امتداداتها، فيما تتموقع في البعد الثالث مجموعة صخرية متلاصقة، وتبدو أقرب إلى التشبيح منها إلى الوضوح بسبب البعد الهوائي لتشكّل الشكل الخامس، وتشغل العاصفة الدائرية الزاوية العليا اليمنى من اللوحة ممثلة الشكل السادس.

ينضاف إلى ما سبق الأشكال التكوينية للأجساد الإنسانية، ولكن هذه الأجساد تتخذ وضعيات متغايرة، فالشكل الإنساني الأول يقع في منطقة ظل الصخرة، هذا الظل الذي يمثل أيضاً حافة المنحدر إلى الوادي، ولهذا يظهر مُشبّحاً أكثر منه واضحاً، فلا يكاد يبدو منه إلاّ الجزء العلوي الذي يتخذ البني لوناً لكونه واقع في عتمتي الظل والقهر.

إنَّ تعمد الفنان صلاح رسمه بهذا الشكل إنّما هي محاولة في اظهار حركته التي تعمل على دفع الصخرة، أمّا الشكل الإنساني الثاني فيتخذ وضعية مغايرة حيث يبدو أنّه يحاول دفع الصخرة بظهره، وفي الوقت ذاته يشكّل {تكوينياً} أُذن الصخرة، فيما ظهر الشخص الثالث بوضعية تشير إلى أنّه يأخذ استراحة متشنجة وهو ينظر إلى الصخرة مستسلماً لقوتها الصارمة إزاء قوته المفقودة، ولهذا تعمد الفنان رسمه من الخلف، وموقعته بشكل يجعل جسده بمواجهة الصخرة.

وتبدو الشخصية الرابعة أكثر قوة ليس لوقوعها في منطقة الضوء فقط بل لأنَّ الفنان منحها بعض التفصيلات من خلال تحديده لمناطق الإضاءة، وهذه الشخصيات الأربع تؤشر وضعيتها الحركية شيئاً من الاستسلام إزاء الفعل والقوة المفروضة عليها قسرياً، لكن الأكثر قسرية هو اختيار الفنان موضعة الشخصية الخامسة والانحناءة القاتلة لوجودها الإنساني، وتحويلها عبر الخداع البصري إلى فم للصخرة، وهذا أيضاً ما فعله مع الشخصية السادسة حين موضعها بشكل قسري أيضاً فوق الشخصية الخامسة لتشكّل - باعتماد الخداع البصري كذلك – أنفاً للصخرة.

أمّا الشخصية السابعة فاختار الفنان موقعتها خارج هذا التشكيل، إلاّ أنّها هي الأُخرى تواجه الصخرة أولاً، وشبحية الملامح ثانياً، مما يمنحها وجوداً قسرياً رغم وقوعها في فراغ اللوحة.

يحمل التكرار صفته التأكيدية، وكثيراً ما نجد هذا التكرار في اللوحات الفنية، ومنها هذه اللوحة، ففي تكوين الصخرة الثانية التي تتموقع في العمق الفراغي عمد الفنان إلى اشتغال منطقة الأُذن بجسد انساني يتشنج منحنياً وقد أسند ظهره ويديه ورجليه إلى الصخرة مؤشراً حالة العذاب التي يعانيها، أمّا الجسدان الآخران فيشكلان منطقة العينين والخدين، حيث عمد الفنان إلى رسمهما بشكل منحنٍ وقسري الملامح، والثلاثة عراة أيضاً.

إنَّ أنسنة الأشياء إنّما هي مخادعة أو محاولة لايجاد وهم خيالي يخدع عين المتلقي وذاكرته، ليدفعها إلى الاشتغال في منطقة أرادها الفنان وسيلة كشف عن واقعٍ مرّ يتوه الإنسان في تفاصيله بدون جدوى، بل هو قلق وجودي يحرم الانسان من حقه في عيش حياة وادعة جميلة مبدعة فيسمُها بالعذاب الذي لا يعرف التوقف، مما يصل بالإنسان إلى فقدان انسانيته ويحوله هو الآخر إلى صخرة جامدة قاسية الملامح.

وهنا لا بُدَّ لنا أن نتسآءل: لماذا عمد الفنان صلاح إلى اخفاء الأقدام فأظهر الأجساد وكأنها مبتورة الساقين ؟

في الواقع العياني تكون الأقدام هي الجزء الإنساني المتصل بالأرض، والذي يستند إليه كامل الجسد في حركته وسكونه، ولكن الأجساد هنا بلا أقدام مما يمنح المتلقي فرصة التأويل الذي يؤشر أنَّ الأجساد فقدت مركز قوتها واستنادها المنتصب على الأرض.

وبالمقابل يمثل الرأس مركز الدماغ وهو الجزء المسيطر كلياً على الجسد والموجه له أيضاً، إلاّ أنّه هنا فاقد لهذه السيطرة مما حوّله إلى كتلة معتمة تنتمي إلى الجسد ولكنها لا تفعل فعلها فيه.

لو حاولنا قراءة التوزيع الكتلي في هذه اللوحة سنتوقف عند الصخرة الكبيرة أولاً الممثلة برأس إنسان، لأنّها الأقرب إلى المتلقي أولاً، فهي الأكثر تفاصيلاً ثانياً، وهي النقطة الذهبية لهذه اللوحة ثالثاً، ولهذا اتخذت موقعتها في الجزء الأوسط تقريباً، مما سيشدُّ بصر المتلقي إليها أثناء مسحه البصري للوحة، ولكنها لا تقع في فراغ كامل بل ترتبط بها الأشكال الإنسانية والمنحدر والجسد الانساني المواجه لها، ولهذا يمكننا أن نُعدَّ الفراغ المحيط بها ناقصاً مما يمنحها ثقلاً كتلياً واضحاً وايجابية منقوصة، وهي في هذا تتساوى مع الفراغ الذي يمكن أن نُعدّه ناقصاً هو الآخر، مما يؤشر وعي الفنان بما وضعه من دلالات تحيل المتلقي إلى استلام اشاراته بأنَّ لا شئ يسير بشكل طبيعي ومسالم، بل أنّ الصراع هو المتحكم دلالياً في هذه اللوحة ولهذا اختار شكلاً دائرياً يحيل إلى العاصفة وموضَعَه في الزاوية العليا اليمنى من اللوحة، والعاصفة بشكلها الدائري إنّما تمثّل تضاداً مع الخطوط العمودية المتجاورة التي تتموضع على جبهة الصخرة الكبيرة والصخرة الأصغر أيضاً، وهي بهذا تحيل المتلقي إلى التضاد الدلالي الذي يحمل مقصديته في فكر الفنان صلاح، فالخطوط العمودية تحيل دلالياّ إلى القوى المسيطرة المتحكمة وخصوصاً أنَّها تتموقع في منطقة الجبهة والجزء المضئ من الجانب الرأسي كذلك، كما أنَّ الفنان اعتمد هذا النوع من الخطوط في الجزء الملحق بالصخرة الثانية ليؤكد الدلالة ذاتها، وإذا تذكّرنا أنّ الدائرة شكل هندسي فقير يحاول الفنان غالباً أن يكسر حدة فقرها بأن يجعل جزءاً منها يختبئ خلف إطار شكل آخر فإنّ هذا هو ما فعله الفنان صلاح هنا، فحاول أن يُموّه فقرها بإظهار جزء منها فقط فيما يختفي الجزء الآخر خلف اطار اللوحة.

إذا انطلقنا من الفكرة القائلة بأنَّ السماء هي سقف العالم سنقول عن هذه اللوحة أنَّها أرضية تماماً، فلا مؤشر فيها يكشف وجود السماء بوصفها وجوداً قدرياً مما يحيل المتلقي إلى دلالات سنعززها بقراءة المنظومة اللونية التي اكتست بها قماشة هذه اللوحة وكتلها حيث يغلب لون الاوكر المطفأ أي ناقص التشبع عليها، وبما أنَّ الاوكر هنا ناتج عن خلط اللونين الأصفر والأبيض، واللون الأصفر يحيل في دلالاته المعرفية إلى الفرح والتفاؤل والحيوية، وبالمقابل يرتبط اللون الابيض بالنور والنقاء والصدق والاخلاق فإنَّ عدم تشبعهما يدل على نقص في هذه الصفات بل يمكننا القول اختفاء هذه الصفات.

وغلبة لون الاوكر هنا لم تمنع الفنان من اضافة لمسات خفيفة جداً من اللون الأصفر المخضر واللون الأزرق المطفأ، كما تؤشر المنظومة حضور اللون الوردي المطفأ على شكل لمسات خفيفة، والبني المتدرج ما بين الدرجة الغامقة المائلة إلى اللون الأسود والدرجة الفاتحة جداً، وتشكّل إضافة هذه اللمسات فرصة لمنح اللوحة شيئاً من الحيوية والحركية وإبعاداً لها عن الجمود حيث أنّ العين البشرية حينما تقع على لون واحد أو درجة واحدة من لون ما تكتسي به اللوحة بعيداً عن التباين اللوني أو التكامل فإنها ستميل إلى النفور بسبب الايقاع الرتيب والملل الذي ستثيره اللوحة، هذا على مستوى التقانة، أمّا على مستوى الدلالة فإنَّ الاوكر هو لون الأرض الذي لم يكتف الفنان صلاح بفرشه على المكونات الأرضية فقط بل فرشه أيضاً على الأجساد الانسانية، ليحيل المتلقي إلى فكرة تساوي هذه المكونات وجودياً، فالإنسان يبدأ رحلته الوجودية من التراب واليه يعود حاملاً صخرة سيزيف التي لا يكاد يصل بها إلى الأعلى حتى تنزلق ثانية، والصخرة هنا رمز للكثير من الأشياء التي تحاصر الكينونة الإنسانية وتمسخها، هذه هي فكرة هذه اللوحة التي تثير ركاماً من التساؤلات عن اللا جدوى واللا توازن والقلق والمحنة التي ستظل رفيقاً أميناً للوجود الإنساني في دوامة العذاب.

 

د. وجدان الخشاب

العراق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم