صحيفة المثقف

اللغة مصدر معرفي ووسيلة إدراك .. موضوع قابل للنقاش

تصنف المعرفة البشرية – عموما – حسب مصادرها أو وسائل إدراكها إلى:

1 – الإدراك بالوحي من مصدر إلهي.

2 – الإدراك بالإلهام.

3 – الإدراك بالحواس.

4 – الإدراك بالتجريب.

5 – الإدراك بالعقل.

6 – الإدراك بالحدس.

وبغض النظر عن كل الخلافات بين الباحثين حول ما تقدم من مصادر المعرفة ووسائل إدراكها، فإنّ السؤال الأساسي الذي تطرحه هذه المقالة وتحاول أن تبيّن أنه سؤال قابل للنقاش هو الآتي:

هل أنّ اللغة تُعدّ مصدرا من مصادر المعرفة ووسائل إدراكها فنكون قد أضفنا مصدرا جديدا للمعرفة أم أن الأمر ليس كذلك وأن اللغة لا يمكن أن تكون مصدرا من مصادر المعرفة ووسائل إدراكها؟

 

مؤشرات ذات دلالة:

على الرغم من أن كاتب هذه المقالة لم يستوحي فكرته بشكل مباشر – وأقول بشكل مباشر لاحتمال أن يكون ما هو مقروء ومنسي هو الملهم لموضوع هذه المقالة – من أي مبحث سابق، إلا أنّه بعد البحث عما إذا كان قد كتب في موضوع هذه المقالة شيء ما أو لم يكتب، وجد أنّ هناك بعض المؤشرات ذات الدلالة والتي تختلف في مدى قربها وبعدها من الموضوع، يمكن أن يفهم منها ضمنا أنّها قد أشارت أو أوحت إلى موضوع هذه المقالة.

 

المؤشر الأول: منهج الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجم العين

اعتمد الفراهيدي في منهجه على حقيقتين أساسيتين:

الحقيقة الأولى: رأى الفراهيدي أنّ اللغة العربية تتألف من تسعة وعشرين حرفا لا يخرج عنها أية كلمة ولا أي حرف.

الحقيقة الثانية: إنّ الكلمات العربية محصورة ما بين الثنائي والخماسي، فلا تقل عن ذلك أبدا ولا تزيد، إلا بحروف زوائد لا دخل لها في المعنى الأصيل للكلمة المجردة.

في ضوء هاتين الحقيقتين تبين للفراهيدي أنه من الممكن حصر اللغة لو تتبع دوران كل حرف في كل بناء من الأبنية المحصورة ما بين الثنائي والخماسي. وعلى وفق الخطوات الآتية:

الخطوة الأولى / ترتيب الحروف: رتب الفراهيدي حروف اللغة العربية تبعا لمخارجها، مبتدئا بالأبعد في الحلق ومنتهيا بما يخرج من الشفتين، فاستقام له الترتيب التالي: ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط ت د ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و ي ا ء. وقد سمى كل حرف من هذه الحروف كتابا، فبدأ معجمه بكتاب العين، ثم كتاب الحاء، ثم كتاب الهاء ... الخ.

الخطوة الثانية / ترتيب الأبنية: جعل الفراهيدي الأبنية الصرفية التي لا تخرج عنها أي كلمة والمتمثلة بالأبنية الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية أساس تقسيم كتب المعجم إلى أبواب.

الخطوة الثالثة / ترتيب التقاليب: استقصى الفراهيدي كل حرف من نظامه في كل بناء، فرأى أنّ حرف العين مثلا يمكن أن يغير موضعه في البناء الثنائي مرتين بأن يكون أولا أو ثانيا، وفي الثلاثي ثلاثا؛ بأن يكون أولا أو ثانيا أو ثالثا، وفي الرباعي أربعا؛ بأن يكون أولا أو ثانيا أو ثالثا أو رابعا، وفي الخماسي خمسا ... فإذا كان الحرف الثاني مع العين في البناء الثنائي باء لم يمكن أن يأتي منهما إلا صورتان: (عب، بع). فإذا كان العين في بناء ثلاثي وكان معها حرفان: الباء والدال مثلا، أمكن أن يأتي منها ست صور: (عبد، عدب، بعد، بدع، دعب، دبع)؛ إذ تيسر لكل حرف من الثلاثة أن يتخذ في الموضع الواحد صورتين، بأن يليه في المرة الأولى حرف غير الذي يليه في المرة الثانية، وترتفع هذه الصور في البناء الرباعي (24) صورة، وفي الخماسي (120) صورة. وقد سمى الفراهيدي مجموعة التقاليب في كل بناء بالفصل، فالفصل في البناء الثنائي يشتمل على مادتين، وفي الثلاثي ستة مواد، وهكذا. ولما كانت هذه الصور تأتي من تقاليب حروف الكلمة الواحدة في المواضع المختلفة سميت تقاليب، ولما كانت هذه التقاليب أمرا نظريا خالصا؛ إذ لم تستعمل في اللغة منها، وخاصة في الأبنية الرباعية والخماسية إلا أقلها، فإننا نجد الفراهيدي يشير في عنوان كل فصل من الأبنية الثنائية والثلاثية إلى المستعمل والمهمل منها، أما فيما عدا ذلك فاكتفى بإيراد المستعمل ولم ينص على المهمل لأنّه شيء كثير.

والسؤال الأساسي هنا: ألا يمكن أن نطور ما فعله الفراهيدي فنبحث مثلا عن التراكيب ذات المعنى التي يمكن أن نحصل عليها من تقاليب أو تباديل الحروف الآتية – مثلا –: (م، ج، ن، د، ج، و، د، ع، ر، ز، ن، م، و، د، ص، ح، د) ؟

من الواضح أن هناك عدد هائل من الصور التي يمكن أن ترتب بها هذه الحروف، آخذين بنظر الاعتبار، اختلاف الحركات الاعرابية، والادغام، والأحرف التي تأتي أحيانا متصلة وأحيانا منفصلة، وما إلى ذلك من أمور، ومن المؤكد أن تكون إحدى هذه الصور الممكنة هي العبارة التالية: (من جدّ وجد ومن زرع حصد). ومن المحتمل أن تكون هناك عبارات أخرى ذات معنى.

ولو أعطانا أحدهم حروف البيت الآتي للمتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهي المحل الثاني

وسألنا: ما هي الإمكانات المتاحة لاستخراج عبارات ذات معنى من هذه الحروف ؟

من الواضح أن هناك عشرات الآلاف من الصور الممكنة التي يمكن أن ترتب بها هذه الحروف، ومن المؤكد أن تكون إحدى هذه الصور الممكنة هي بيت المتنبي، ومن المحتمل أن تكون هناك عبارات ذات معنى أيضا يمكن استخراجها من هذه الحروف .

في ضوء ما تقدم تبين لنا أن الصور الممكنة لترتيب أي مجموعة من الحروف سواء كانت مختارة بشكل عشوائي أو انتقائي يمكن أن تفرز لنا عبارات ذات معنى، وهذا يعني أنّه يمكن للصور الممكنة لترتيب مجموعة ما من الحروف أن تفرز لنا عبارة ذات معنى لم نكن قد سمعنا بها من قبل، او تفرز لنا بيتا شعريا لم يكن قد تم نظمه من قبل، فمن الواضح جدا أن ذلك ممكن من الناحية المنطقية، إذ ليس من المستبعد أبدا أن نحصل على العديد من الصور الممكنة التي تجسد عبارات ذات معنى لم يكن أحد قد سمع بها من قبل.

وإذا كان ممكنا أن نحصل على عبارات ذات معنى سمعنا بها سابقا، وأن نحصل على عبارات ذات معنى لم نسمع به سابقا من خلال ترتيب الصور الممكنة لمجموعة من الحروف، فهذا يعني أننا لو زدنا عدد الحروف فإنه من الممكن أن تكون إحدى الصور الممكنة لترتيبها تمثل نصا ذا معنى.

من الناحية المنطقية لا يختلف إمكان ذلك عن إمكان عبارة (من جدّ وجد ومن زرع حصد) إلا في درجة التعقيد المتأتية من ازدياد عدد الحروف، فكلما تزداد الحروف تزداد التعقيدات، ولكن إلى جانب ذلك تزداد احتمالات العثور على نصوص ذات معنى في كل المجالات العلمية والسياسية والاجتماعية، بل تزداد احتمالات العثور – مثلا – على نصوص علمية ذات معنى لم نكن سمعنا بها من قبل، وتعد كشفا علميا أو فروضا صالحة لحل مشكلة ما بحيث تكون قابلة للاختبار.

 

المؤشر الثاني: مبرهنة القرد اللانهائية

تقول نظرية القرد اللانهائية بأنّه في حال كان هنالك قرد يقوم بالضغط عشوائيا على مفاتيح الآلة الطابعة لمدة غير منتهية من الزمن فإنّه بالتأكيد سيطبع يوما ما نصا كاملا ومفهوما، كأحد أعمال وليم شكسبير مثلا.

وقد قيل: إنّ احتمال أن يطبع قرد نصا بطول مسرحية هاملت ضئل جدا بحيث أنه لو أجريت التجربة خلال مدة تبلغ عمر الكون فالاحتمال ضئيل جدا لكنه ليس صفرا.

ومن الواضح أنّ الاحتمال الضئيل هو تعبير آخر عن وجود إمكان منطقي، أي أنّه من الناحية المنطقية يمكن تصور ذلك وإن ضعف احتماله.

والسؤال هنا: ما ذا لو كنا نقوم بشكل واعي باستخراج كل الصور الممكنة لترتيب حروف اللغة العربية في ظرف صفحة واحدة ؟ ألا يعني ذلك أنّ ما من صفحة كتبت باللغة العربية وما من صفحة سوف تكتب بهذه اللغة في المستقبل يمكن أن تشذ عن كونها إحدى الصور الممكنة لترتيب حروف اللغة العربية في صفحتنا المذكورة.

رغم يقيني بأنّي سوف لن أجد مشقة في إثبات أنّ هذه المقولة ممكنة من الناحية المنطقية – [ فإمكانية تصور ما نقول أوضح بكثير من إمكانية تصور نظرية القرد اللانهائية، واحتمال تحقق ما نقول حتى ولو كان ضئيلا في الوقت الحاضر إلا أنّه أكبر بكثير – بل لا مجال للمقارنة – من احتمال تحقق نظرية القرد اللانهائية ] – إلا أنّ ذلك لا يعني أنّي أغفل الصعوبات البالغة التي تواجه تحقق هذه المقولة من الناحية العلمية. وليس القصد من هذه المقالة يتعدى الأمرين الآتيين:

الأمر الأول: إنّ مسألة أن تكون اللغة على وفق المفهوم الذي طرحناه مصدرا من مصادر المعرفة ووسائل إدراكها مسألة قابلة للنقاش.

الأمر الثاني: وهذا بدوره يعني الدعوة إلى إجراء دراسات معمقة – في ضوء تقدم العلوم وبالذات حساب الاحتمالات، وعلوم الحاسبات ونظمها وبرمجياتها، وعلوم اللغة – تبين لنا ما إذا كان من الممكن من الناحية العلمية على المستوى القريب أو البعيد تحقيق مضمون ما نقول ولو على مستوى محدود. فعلى الرغم من أنّنا نقر بأن ليس كل ما هو ممكن منطقيا يمكن أن يتحقق أو على أقل تقدير يمكن أن يكون ممكنا من الناحية العلمية، إلا أنّنا نؤكد أيضا أنّ هناك الكثير من القضايا التي لم تكن في تصور أحد أنها ستتحقق أصبحت اليوم واقعا نعيشه فضلا عن كونها ممكنة علميا.

المؤشر الثالث: نحن لا نتحدث اللغة، وإنما تتحدث اللغة من خلالنا

يُنظر إلى اللغة أنّها نظام مستقل له قواعده المستقلة عن الإرادة الانسانية (فهي موضوعية)، ولكنها تحتاج إلى الإنسان كي تتحقق (فهي ذاتية)، ولكنها رغم هذا تدور في الاطار المادي، فاللغة تسبق الوعي والارادة الانسانية، وكما يقول البنيويون " نحن لا نتحدث اللغة، وإنما تتحدث اللغة من خلالنا ".

والسؤال الأساس هنا: هل أنّ الطريقة الوحيدة لتحقق اللغة واستنفاذ إمكانتها هو أن تتحدث اللغة من خلالنا ؟ ألا يمكننا مادامت اللغة مستقلة ولها قواعدها المستقلة أن نحققها ونستنفذ إمكاناتها من خلال استنطاقها ؟ إنّ اللغة لا يمكن أن تظهر إلا في نصوص تتكون من عبارات هي بدورها تتكون من حروف هي بنيتها التحتية، فإذا ما تمكنا من التحكم في البنية التحتية للغة ألا يمكننا التحكم بالعبارات والنصوص ؟ لماذا علينا انتظار أن تتحدث اللغة من خلالنا، ألا يمكننا أن نبادر ونتحكم باللغة ونستنطقها ونستفذ إمكانياتها ؟

 

المؤشر الرابع: الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن

لقد اختلف المفسرون من القدماء والمتأخرين في تفسير الحروف المقطعة، وقد نقل عنهم في معناها وجوها متعددة، منها: أنّ المراد بها أنّ هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم، فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله تعالى، وإنما كررت الحروف في مواضع متعددة استظهارا في الحجة، وهو مروي عن قطرب واختاره أبو مسلم الأصبهاني وإليه يميل جمع من المتأخرين. (1)

وبتعبير آخر: إنّ الله سبحانه وتعالى تحدى الناس بالقرآن، وبالغ في التحدي بطرق متنوعة، فأراد أن يبين لهم أنّ هذا القرآن الذي أعجزهم الاتيان بسورة من مثله لم يكن مؤلفا من حروف يجهلونها؛ لأنّ المادة الخام التي صنع منها القرآن موجودة بين أيديهم، وهي هذه الحروف المتنوعة المعلومة لديهم، فإذا كانت لديهم القدرة على صنع مثل هذا القرآن، فهذه هي المواد الخام جاهزة عندهم، ولعل هذا من أبلغ أنواع التحدي، تماما كما تواجه إنسانا واقفا أمام مبنى ذي شكل هندسي متقن، فتقول له: هل تستطيع أن تبني مثل هذا ؟ ثم تعقب على ذلك بأن المواد جاهزة إذا كنت تملك الفكر الهندسي والممارسة الفنية. إنه سيقف عاجزا من موقع عظمة هذه الهندسة وجهله باصولها الفنية . (2)

وموضع الشاهد هنا واضح جدا، فما من نص باللغة العربية – مهما كان شأنه – إلا وهو مكون من حروف اللغة العربية المعروفة.

قال تعالى (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) " الاسراء: 88 "

لكي نفهم سبب إعجاز القرآن الكريم – مع أنه مكون من حروف اللغة العربية التي بين أيدينا – ولماذا يعجز الإنس والجن عن الاتيان بمثل القرآن حتى ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فإننا نجد أنفسنا أمام التصورين الآتيين:

التصور الأول: إنّ في ممكنات اللغة هناك العديد من النصوص التي قد تفوق القرآن أو تضارعه، ولكن العجز عن الاتيان بمثل هذه الممكنات راجع إلى عدم قدرة الانسان في الوصول إلى المستوى الذي يؤهله للإتيان بهذه الممكنات. وهذا التصور ليس ببعيد عن القول بـ (بالإعجاز بالصرفة)، فالقائلون به يعتقدون أن القرآن ما كان معجزا إلا لجهة صرف الإنس والجن عن معارضته؛ فالله صرفهم عن الاتيان بمثله، ولولا هذا الصرف لأتوا بمثله. ومن الواضح أنّ هذا القول لا يتسق إلا مع الاعتقاد أن في اللغة ممكنات تضارع القرآن.

التصور الثاني: إنّ جميع ممكنات اللغة ليس فيها ما يفوق القرآن أو يضارعه، إنه عجز في بنية اللغة، فالقرآن هو الممكن اللغوي الأمثل، وكل ممكن غيره هو دونه، ومن هنا نفهم لماذا يعجز الانس والجن عن الاتيان بمثل القرآن، فهم لا يعجزون فقط لعدم وصولهم الى المستوى الذي يمكنهم من الاتيان بمثل القرآن، إذ ليس في اللغة مثل القرآن حتى يمكن الاتيان بمثله.

ولعل الآية القرآنية تفيد ما نحن بصدده، فالانس والجن حتى لو أصبح بعضهم لبعض ظهيرا، وعملوا على استنفاذ كل ممكنات اللغة – بالشكل الذي تتبناه هذه المقالة أو بغيره – ثم تمكنوا من استنفاذ كل الممكنات فإنهم لن يأتوا بمثل القرآن؛ إذ ليس في اللغة مثله.

بقي أن أشير إلى أن قوله تعالى (لو كان بعضهم لبعض ظهيرا) ليس على سبيل المبالغة، وإنما هو تقرير لواقع، ولعل فيه إشارة – والله أعلم – إلى أن طرق إنتاج اللغة قد لا تنحصر بما هو معروف (بالوحي أو الابداع أو بما هو مألوف)، وهي طرق ذات طابع فردي، وإنما هناك طرق أخرى لانتاج اللغة ذات طابع جماعي.

 

المؤشر الخامس: عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " لولا أنّ الكلام يعاد لنفد "

هذا الحديث المنقول عن الامام علي (عليه السلام) لم أكن مطلعا عليه قبل تبلور فكرة هذه المقالة، ولكني سمعت به أثناء تبادل الحديث مع أحد الأخوة الأعزاء. وهذا الحديث المرسل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) نقله العديد من الكتاب وحاول الكثير منهم ربطه بموضوع (التناص)، ونحن هنا بدورنا سوف نحاول الاستفادة من هذا الحديث على النحو الآتي:

عند قراءة هذا الحديث يتبادر إلى الذهن: " أن الكلام قابل للنفاد، ولكنه رغم ذلك لم ينفد، والذي حال دون نفاده أنه يعاد، فلو أننا على الدوام نقول الجديد ولا نعيد، فهذا يعني أننا سنصل ذات يوم إلى أن لا يكون هناك جديد ".

هذا الفهم المستوحى من الحديث يؤكد فكرة هذه المقالة فما من نص كتب أو يكتب باللغة العربية إلا عبارة عن تجليات للصور الممنكة من تباديل حروف اللغة العربية وهي صور متناهية.

 

بلورة الفكرة :

يعتقد الباحث أننا لو تمكنا علميا من خلال الاستفادة من علوم متعددة كحساب الاحتمالات، وعلوم الحاسبات ونظمها وبرمجياتها، وعلوم اللغة وغيرها من تكوين برامج حاسوبية نستطيع من خلالها أن نحصل على جميع الصور الممكنة لتباديل حروف اللغة العربية في ظرف صفحة واحدة – وهذا سقف عالي جدا افترضناه للإيضاح – فإننا سنحصل على عدد هائل من الصفحات بعضها (لا يحمل أي معنى)، وبعضها (يحمل معاني منفصلة، أي أنها لا تمثل معنى متصلا، فقد نجد في بعض السطور مفردات و عبارات ذات معنى ونجد في سطور أخرى مفردات وعبارات لا معنى لها)، (وبعضها يحمل معاني متصلة)، ويعتقد الباحث أنّ ما من صفحة كتبت باللغة العربية وما من صفحة سوف تكتب باللغة العربية إلا ولها نسخة في تلك الصفحات ذات المعاني المتصلة التي أفرزتها لنا البرامج الحاسوبية المفترضة باعتبارها تمثل جميع الصور الممكنة لجميع تباديل حروف اللغة العربية في ظرف صفحة معينة.

* قد يقول البعض أننا بعد الاقرار بالإمكان المنطقي لهذه الفكرة نعتقد أن إمكانها العلمي بعيد جدا وهو أشبه بالمستحيل؛ إذ أننا لو دققنا في عدد جميع الصور الممكنة لتباديل حروف اللغة العربية في ظرف صفحة واحدة لرأينا أننا نتحدث عن أرقام فلكية من الصعب تخيلها، وبالتالي فإن هذه الفكرة يمكن تنضم إلى جانب الأفكار التي تحظى بإمكان منطقي ولكنها لا يمكن أن تتحول يوما إلى الامكان العلمي؛ إذ أي قدرة تخزينية يمكنها استيعاب هذه الاعداد الفلكية من الصور الممكنة، وأي قدرات وإمكانات نحتاج إليها لبناء تلك البرامج التي يمكنها أن توفر لنا الحصول على جميع الصور الممكنة لتباديل حروف اللغة العربية. إن الصور الممكنة لتباديل الحروف تزداد أعدادها بشكل هائل كلما زدنا حرفا:

عدد الحروف

عدد الصور الممكنة

حرفان

2

ثلاث حروف

6

4

24

5

120

6

720

7

5040

8

40320

9

362880

10

3628800

11

39916800

----

 

عدد حروف صفحة كاملة

؟؟؟؟؟؟؟

إنّ كاتب هذه المقالة يدرك تماما أن إنجاز مثل هذ الأمور غير ممكن في الوقت الحالي لا من الناحية العملية ولا من الناحية العلمية، وهو يقدر تماما حجم الصعوبات التي تواجه تحقيق هذه الفكرة، والتي يتمثل بعضها في الآتي:

1 – صعوبة تصميم برامج قادرة على تدوير حروف اللغة التي يتم تغذيتها للحاسوب بحيث يمكن استخراج جميع الصور الممكنة لتباديل هذه الحروف.

2 – وإذا تم التغلب على الصعوبة الأولى فإننا سنواجه الصعوبة الثانية التي تتمثل في القدرة الاستيعابية للحاسوب حينما يزداد عدد الحروف التي يتم تغذية الحاسوب بها بحيث يصل عددها إلى ما يعادل حروف صفحة كتاب مثلا، ففي هذه الحالة يكون عدد الصور الممكنة هائل جدا بحيث يكون من الصعب تخيل أن تكون هناك إمكانية لاستيعاب هذا العدد الهائل من الصفحات.

3 – ولنفترض أننا تغلبنا على الصعوبة الثانية أيضا، وذلك بأن نلتزم بتزويد الحاسوب بالحد الأعلى من الحروف التي يمكنه التعامل معها على وفق قدرته الاستيعابية ولا نتجاوزذلك الحد الأعلى، فإن المشكلة الأخرى التي تواجهنا تتمثل في أننا سوف نزود الحاسوب بحروف مقطعة وهذا يعني أن الصور الممكنة لتباديل هذه الحروف التي سيوفرها لنا البرنامج المفترض سوف تكون هي أيضا عبارة عن حروف مقطعة يصعب قراءتها بدون معالجة.

ورغم هذه الصعوبات يعتقد الباحث – نظريا – أن التخطيط الجيد الذي يمكن أن يحققه العقل الجمعي (عقول في الرياضيات وحساب الاحتمالات وعلوم الحاسبات بفروعها المختلفة وعلوم اللغة) كفيل بتذليل بعض هذه الصعوبات وتحقيق هذه الفكرة ولو بشكل محدود، والباحث هنا لا يريد أن يزرع الأمل في إمكان تحقيق الفكرة ولكنه يقدم مقترحات نظرية قد تكون مثمرة من الناحية العملية وقد لا تكون مثمرة، ومن يقرر ذلك هم الخبراء في هذه المجالات.

إن عدد الصفحات الهائل يمكن اخنزاله إلى حد كبير بإقصاء الصفحات التي لا تحمل أي معنى، أي أننا نضع في البرامج المفترضة ما يمكن من خلاله إقصاء أي صفحة لا معنى لها فمثلا:

1 – نستبعد أي صفحة يتكرر فيها الحرف بشكل لا ينتج كلمة ذات معنى، كتكرار – مثلا – حرف الباء خمس مرات (ب ب ب ب ب) على التوالي؛ إذ أن مثل هذا التركيب لا يمكن أن ينتج معنى حتى لو افترضنا – مثلا – أن أحد هذه الحروف هو جزء أخير من كلمة وبقية الحروف تأتي بعده في كلمة أخرى – بمعنى أننا في أي حال من الاحوال نجد هناك تكرارا للحروف في بعض الصفحات لا يمكن أن ينتج معنى.

2 – نستبعد أي صفحة تشتمل على تراتيب معينة للحروف لا يمكنها أن تنتج معنى.

ولا نريد أن نطيل هنا في مناقشة الامور الفنية الافتراضية التي يمكن أن تذلل الصعوبات أمام هذا المشروع، فهناك عشرات الأفكار التي يمكن مناقشتها في هذا المجال.

مرة أخرى نقول أننا ندرك حجم الصعوبات التي يواجهها هذا المشروع، وما ذكرناه هو بعضها، ولكننا أمام مشروع – إذا ما تحقق فعلا في يوم من الايام وشمل لغات أخرى أيضا غير اللغة العربية رغم أنه بعيد المنال – يمثل أحد أهم الإنجازات التي حققتها البشرية على المستوى العلمي. ولا مبالغة في ذلك إذ أنّ تحققه يعني أن الجيل الذي سوف يحققه سوف يكتب التاريخ قبل التاريخ، وسيكشف باللغة ما لا يتيسر اكتشافه بالفكر إلا بعد مرور سنين طوال، وسينتج الأدب بلا أدباء .... إنه وضع إذا تحقق لا يمكن تخيل ما سيترتب عليه

والحق أن كاتب هذه المقالة لولا أنه ليس من ذوي الاختصاص في علوم الحاسبات ونظمها وبرامجها، وبالتالي هو يعجز عن أن يشكل تصورا علميا عما إذا كان يمكن من الناحية النظرية العمل على تحقيق برامج حاسوبية يمكن من خلالها أن نحصل على كل التباديل الممكنة للحروف (التي نغذي بها الحاسوب) في ظرف مساحة محددة للكتابة (كأن تكون سطرا ... أو صفحة)؛ لاستفاض الباحث في تصور الاشكالات التي يمكن أن تقف عائقا أمام إنجاح هذا المشروع ومحاولة اقتراح حلول للتغلب عليها، ولاستفاض في ذكر الفوائد الجمة التي يمكن أن تترتب على إنجاز مثل هذا المشروع.

من هنا ندعو كافة المختصين بعلوم الحاسبات ونظمها وبرامجها أن يبحثوا فيما إذا كان ممكنا من الناحية العلمية العمل وضع مثل هذه البرامج أولا، وإذا كان ذلك ممكنا فما الذي نفعله حينما نعلم أن هذه البرامج تتطلب أن يكون لدينا حواسيب ذات سعة استيعاب هائلة، وإذا توفرت هذه الإمكانيات فهنالك بعد ذلك تساؤلات وتساؤلات.

بعد أن فرغنا من تحقيق الهدف الأساسي من هذه المقالة والمتمثل في إثبات أن السؤال حول ما إذا كانت اللغة وفق الفهم الذي طرحناه في هذه المقالة تشكل مصدرا من مصادر المعرفة ووسائل إدراكها أم أن الأمر ليس كذلك، هو سؤال مشروع وقابل للنقاش ننبه إلى ما يلي:

تنبيه (1): يتصور كاتب هذه المقالة – بالاعتماد على الحدس – أن الفكرة الأساسية لهذه المقالة (اللغة مصدر معرفي ووسيلة إدراك) ليست فقط ممكنة منطقيا، بل أنها حتى ممكنة علميا في إطار محدود، بمعنى إننا إذا بدأنا باختيار عدد محدود من الحروف عشوائيا – بتكرار أو بدون تكرار – بما يتماشى والإمكانات المتوفرة، فمن المؤكد أننا لا نحصل في بعض هذه الاختيارات على عبارات ذات معنى لم يقل بها أحد من قبل، ولكن من المؤكد أيضا أننا سنحصل في اختيارات أخرى على عبارات ذات معنى لم يقلها أحد من قبل.

تنلبيه (2): إن التأمل جيدا في الفكرة الأساسية لهذه المقالة سوف يجعلنا نعيد النظر في العديد من البحوث اللغوية على ضوء هذه الفكرة، فهي ستلقي بظلالها بشكل كبير على عدة مواضيع كـ: (اللغة والتفكير)، (علاقة المؤلف بالنص)، (مفهوم السياق) ... وهكذا.

 

رضا حسن الغرابي

..................

الهوامش:

1 – الميزان في تفسير القرآن، العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، دار الكتاب العربي، بغداد، ط1، 2009م/1430هـ، ج18: ص7.

2 – من وحي القرآن، السيد محمد حسين فضل الله، دار الملاك، بيروت، ط3، 2007م/1428هـ، ج1: ص102.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم