صحيفة المثقف

المذهب الذاتي في نظرية المعرفة .. أصالةُ وتميّز (1-2)

تمهي   د: على الرغم من الطابع الأصيل والمتميز للفكر الاستقرائي للسيد الشهيد آية الله العظمى محمد باقر الصدر – قدس – والذي تجسد بمذهب جديد في نظرية المعرفة، أطلق عليه – رحمه الله – اسم " المذهب الذاتي في نظرية المعرفة، وعلى الرغم من أنّ أربعين عاما قد مضت على تأسيسه لهذا المذهب، لكنه لم يحظى بالمكانة التي تليق به على الصعيدين العالمي والإسلامي، نظرا لقلة الدراسات التي تناولت إطروحاته، وعدم التعرف – بالشكل المناسب – عليه وعلى مميزاته الأساسية وعلى معطياته في مختلف المجالات.

وفي ضوء ما تقدم جاءت هذه المقالة لتحاول التعريف بهذا المذهب، وبطابعه المتميز من خلال بيان موقف الشهيد الصدر – قدس – من مجموعة قضايا أساسية – كما سيأتي – تشكل مفترق طرق بين الاتجاهات المختلفة في نظرية المعرفة.

وحتى لا يتصور من لم يتيسر له التعمق فيما كتبه الشهيد الصدر في نظرية المعرفة أنّ المذهب الذاتي في نظرية المعرفة ليس سوى تلفيق بين المذهبين العقلي والتجريبي، حرصت المقالة أن تشير في طَوْل كل موقف من المواقف الأساسية للشهيد الصدر في نظرية المعرفة إلى مجموعة من التنبيهات تبين من خلالها جوانب الابداع والاصالة والتميز في ذلك الموقف.

 

1 – الموقف من تحديد المصدر الأساس للمعرفة:

يختلف المذهب الذاتي في هذا الموقف مع المذهب التجريبي، ويتفق مع المذهب العقلي: فالتجريبيون يؤمنون بأن التجربة والخبرة الحسية هي المصدر الوحيد للمعرفة، فلا توجد لدى الإنسان أي معرفة قبلية بصورة مستقلة عن الحس والتجربة. والعقليون يؤمنون بوجود قضايا ومعارف يدركها الإنسان بصورة مستقلة عن الحس والتجربة، وأن هذه القضايا تشكل الأساس للمعرفة البشرية، والقاعدة التي يقوم على أساسها البناء الفوقي للمعرفة كله. (1)

 

تنبيه (1): مقدار ر الاتفاق بين المذهب العقلي والمذهب الذاتي ح ول المصدر الأساس للمعرفة:

على الرغم من أنّ المذهب الذاتي يتفق مع المذهب العقلي في وجود معارف عقلية ضرورية أولية بشكل سابق على التجربة – باعتبار أنه لو كانت كل معرفة ثابتة ببرهان للزم التسلسل أو الدور كما يقولون، فلا بد أخيرا من الانتهاء إلى معارف غير مكتسبة عن طريق البرهان – إلا أنه يختلف معه في مقدار وحجم هذه المعارف. وفيما يأتي توضيح ذلك:

يعتقد المذهب العقلي – المنطق الأرسطي على وجه الخصوص – أن قضايا المعرفة البشرية الجديرة بالثقة والواجبة القبول، هي القضايا التي تتسم بطابع اليقين، وأنّها على قسمين: الأول: القضايا اليقينية المستدلة أو المستنتجة التي اكتسبت طابعها اليقيني نتيجة لقضايا يقينية سابقة. والثاني: القضايا اليقينية الرئيسية التي تشكل المنطلقات الأولية لليقين في المعرفة البشرية، وتضع حدا وبداية للتسلسل في استنتاج القضايا بعضها من بعض. ويصنف المنطق الأرسطي هذا القسم من القضايا إلى ستة أصناف: الأوليات، المحسوسات، التجريبيات، المتواترات، الحدسيات، الفطريات.

ويعتقد المنطق الأرسطي أن المباديء الأولية للاستدلال لا تنحصر باليقينيات الست؛ لأن هذه اليقينيات هي المباديء الأولية للاستدلال البرهاني، أي الاستدلال الذي يحقق معرفة واجبة القبول. وهذا هو أحد أقسام الاستدلال، وهناك استدلالات أخرى لا تؤدي إلى معرفة من هذا النوع، ننطلق في بدايتها الأولية من قضايا غير القضايا اليقينية الست، ومن أجل هذا يعتبر المنطق الأرسطي مجموعة القضايا اليقينية الست أحد مباديء الاستدلال، ويضع إلى جانبها القضايا: المظنونة والمشهورة والمسلمة والمقبولة والوهمية والمشبهة، فكما توجد قضايا يقينية أولية تستنتج كل القضايا اليقينية الثانوية منها، كذلك توجد – مثلا – قضايا مظنونة أولية تتدخل في استنتاج كل القضايا المظنونة الثانوية، فمباديء الاستدلال الذي يستهدف إيجاد التصديق بالقضية المستدلة هي: اليقينيات (وهي القضايا الست المتقدمة)، والمظنونات، والمشهورات، والمسلمات، والمقبولات، والوهميات، والمشبهات.

لم يرتض الشهيد الصدر موقف المنطق الأرسطي من قضايا المعرفة البشرية، فهو يعتقد: أننا إذا فحصنا المباديء الأولية لكل أشكال الاستدلال في المنطق الأرسطي نجد أن أكثرها ليست مباديء حقيقية للاستدلال، بل هي بدورها مستنتجة، وإن كانت قد تشكل بداية للحوار الاستدلالي بين شخصين، فالقضايا المسلمة: التي يعتبرها المنطق الأرسطي أحد مباديء الاستدلال، هي ليست مباديء حقيقية للفكر الاستدلالي عند الإنسان، لأن التسليم بها بدوره يجب أن يكون قائما على أساس، فإن كان تصور الطرفين كافيا للتصديق بها فهي قضية من القضايا الست اليقينية، وإلا فلا بد أن تكون مستنتجة من قضايا قبلية، فلا تكون قضية أولية، والقضايا المقبولة: هي قضايا مستنتجة بحكم موضعها من الفكر الاستدلالي عند الإنسان؛ لأن القبول بالقضية على أساس الثقة بشريعة ما أو بقول عالم، يعني أن هذه القضية مستنتجة من القضايا التي أدت إلى الثقة بتلك الشريعة أو بذلك العالم، والقضايا المظنونة: هي أيضا ليست في الحقيقة إلا قضايا مستنتجة ظنيا من قضايا سابقة، والقضايا المشبهة: هي أيضا ليست قضايا أولية في سير الفكر الاستدلالي عند الإنسان؛ لأن الإنسان يتورط في التصديق بها نتيجة لشبهها بقضايا سابقة قد صدق بها، وأما القضايا الوهمية: فهي أيضا في الحقيقة ليست أولية في سير الفكر الاستدلالي عند الإنسان، بل هي قضايا استقرائية.

هذا بالنسبة لموقف الشهيد الصدر من مباديء الاستدلال من غير اليقينيات الست. أما موقفه من اليقينيات الست: فالتجريبيات: هي في الحقيقة ليست أولية في الفكر الاستدلالي عند الإنسان، بل هي قضايا ثانوية ومستدلة بالدليل الاستقرائي. والحدسيات: هي أيضا كالقضايا التجريبية ثانوية ومستدلة بالدليل الاستقرائي، وليست أولية في الفكر الاستدلالي عند الإنسان. والمتواترات: هي أيضا – في رأي المذهب الذاتي – ليست إلا قضايا استقرائية، تقوم على أساس المناهج الاستقرائية في الاستدلال كالقضايا التجريبية والحدسية، فهي نتيجة للدليل الاستقرائي. والمحسوسات: هي – في رأي المذهب الذاتي – أيضا استقرائية، فالحقيقة أن افتراض موضوعية الحادثة ليس افتراضا دون مبرر كما تقول المثالية، وليس أيضا افتراضا أوليا ومعرفة أولية كما يقول المنطق الأرسطي، بل هو افتراض مستدل ومستنتج حسب مناهج الدليل الاستقرائي، كالقضايا التجريبية والحدسية والمتواترة تماما، فالتصديق الموضوعي بالواقع يقوم على أساس تراكم القيم الاحتمالية في محور معين. (2)

أما الموقف من الأوليات والفطريات، فينبغي أن نميز بين موقفين للمذهب الذاتي اتجاههما: موقفه في الأسس، وموقفه في ما بعد الأسس: أما موقفه في الأسس: فعلى الرغم من إيمان الشهيد الصدر بقبلية هذه القضايا إلا أنه رأى أن بإمكان الاستدلال الاستقرائي أن يستدل عليها، مستثنيا من ذلك: مبدأ عدم التناقض وكل المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في سيره الاستدلالي، بما فيها بديهيات نظرية الاحتمال، وأما موقفه في (ما بعد الأسس): فلقد عاد فيه الشهيد الصدر عن رأيه عن قدرة الدليل الاستقرائي في الاستدلال على الأوليات والفطريات.(3)

وهكذا يتضح أن المذهب الذاتي – وخلافا – للمذهب العقلي لا يسمح بأن تتصف أي قضية بأنها قبلية إلا إذا كانت من الأوليات والفطريات.

 

تنبيه (2) المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر يعتمد الاستقراء المستند إلى العقل المتمثل في مجموعة من المصادرات والبديهيات.

وبمناسبة الحديث عن موقف الشهيد الصدر من المصدر الأساس للمعرفة، فإننا لا نتفق مع من يعتقد أن المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر في (الأسس المنطقية للاستقراء) ينطلق من الواقع إلى العقل، لا من العقل إلى الواقع؛ (4) إذ كيف يكون الواقع الذي هو من نتاج المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر – كما هو واضح مما كتبه في الأسس المنطقية للاستقراء (5) – نقطة الانطلاق لهذا المنهج؟! وبعبارة أخرى: إذا كان الواقع – بحسب الشهيد الصدر – يمكن الشك فيه وفق مبررات معينة، وهو بحاجة إلى إثبات، فكيف يكون منطلقا للمنهج الذي إنما به يثبت هذا الواقع؟! وبعبارة ثالثة: بأي منهج معرفي استدل الشهيد الصدر على الواقع، أبالمنهج الذي ينطلق من الواقع - الذي هو بحاجة أصلا إلى الاستدلال - أم بمنهج آخر؟ ومن الواضح أننا إذا أجبنا عن السؤال السابق بالقول: أن الشهيد الصدر استدل على الواقع بالمنهج المعرفي الذي ينطلق من الواقع، نكون قد صرنا إلى تناقض واضح؛ إذ كيف يكون الواقع الذي هو بحاجة إلى الإثبات منطلقا لإثبات نفسه؟ وأما إذا أجبنا بالقول: أن الشهيد الصدر قد استدل على الواقع بمنهج آخر غير الذي ينطلق من الواقع، نكون قد صرنا إلى السؤال التالي: فما هو هذا المنهج المعرفي الذي استدل به الشهيد الصدر على الواقع؟

قد يرى بعض الباحثين للإجابة عن هذا السؤال: أن المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر، والذي استدل به على الواقع لا يخلو إما أن يكون منهجا ينطلق من العقل إلى الواقع، أو يكون منهجا ينطلق من الواقع إلى العقل، وما دمنا قد عرفنا أنه من غير الدقيق أن نقول: أن المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر ينطلق من الواقع إلى العقل، فلا بد أن يكون منهج الشهيد الصدر ينطلق من العقل إلى الواقع .

أقول: إن التأمل الجاد في نصوص الشهيد الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء يجعلنا نحكم أنه من غير الدقيق – أيضا – أن نقول أن المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر ينطلق من العقل إلى الواقع. نعم، قد يكون من الصحيح أن نصف منهجه المعرفي – في فلسفتنا – بأنه ينطلق من العقل إلى الواقع ؛ لأن الواقع الموضوعي في ضوء هذا المنهج هو معطى مباشر وليس محتاجا إلى إثبات، ثم أن كل قضايا هذا الواقع من علوم ونظريات، وكذلك أساسيات العقيدة كمسألة وجود الله، يمكن إثباتها بالعقل المتمثل بمبدأ السببية وقضاياه. ولكن ليس من الصحيح أن نصف المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر – في الأسس وما بعد الأسس – أنه ينطلق من العقل إلى الواقع؛ لأن كل القضايا من علوم ونظريات وأساسيات عقيدة تستند في إثباتها – في ضوء هذا المنهج – على إثبات الواقع الموضوعي، ولما كان الواقع الموضوعي – بحسب هذا المنهج – ليس ثابتا بالعقل – لا بشكل أولي كما يرى المنطق الأرسطي ولا بشكل نظري – فمن الخطأ أن نقول أن المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر ينطلق في إثبات الواقع وفي إثبات ما يستند في إثباته على إثبات الواقع من العقل إلى الواقع.

وعند هذه النقطة يبرز السؤال الأساسي التالي: إذا كان من الخطأ أن نصف المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر – في الأسس وما بعدها – أنه ينطلق من العقل إلى الواقع، وإذا لم يكن مقنعا أن نصفه أنه ينطلق من الواقع إلى العقل، فكيف يمكن أن نصف هذا المنهج بشكل دقيق؟

بودي أن أشير أولا إلى أن الشهيد الصدر قد أدرك بشكل دقيق – وإن لم يصرح بذلك – أنه من الخطأ أن نعتقد أن أي منهج معرفي لا بد وأن يكون: أما ينطلق من العقل إلى الواقع – وهذا ما يقول به العقليون – وأما أن ينطلق من الواقع إلى العقل – وهذا ما يقول به التجريبيون - بل هناك طريق آخر. وبالفعل لو كان الأمر منحصرا بين هذين الطريقين لما كان المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر – في الأسس وما بعدها – متميزا؛ لأنه سوف يكون مصداقا مرتبكا للمنهج التجريبي فهو من جهة ينطلق كما المنهج التجريبي من الواقع إلى العقل، ولكنه يختلف مع المنهج التجريبي في إيمانه بالعقل، ومثل هذه المزاوجة لا يمكن نجاحها أبدا. وهذا هو ما أدركه الشهيد الصدر وانتهى على أساس هذا الإدراك إلى منهج معرفي يتميز عن كلا المنهجين العقلي والتجريبي.

وعلى أية حال، فلكي نصف المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر بشكل دقيق فإننا نحتاج إلى مقالة بحجم هذه المقالة، ولذلك فإني إحيل القارئ العزيز إلى ما كتبناه في هذا الصدد في الجزء الثالث من كتابنا (في رحاب الفكر الاستقرائي عند الشهيد الصدر) والذي جاء تحت عنوان (تفسير الدليل الاستقرائي عند الشهيد الصدر). (6)

ولكن لا بأس من الإشارة السريعة إلى طبيعة هذا المنهج:

إن وصف المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر يختلف باختلاف الموقف المعرفي، ف:

أ – إذا كنا في موقف معرفي نرى فيه الأشياء بما هي في إدراكنا – أي بما هي محسوسة – ولا نعلم عنها شيئا آخر أزيد من كونها محسوسة، فإننا في هذه الحالة – في ضوء المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر – نحاول أن نعرف ما إذا كان لهذه الأشياء واقعا خارجيا أم لا، وحينما نثبت بالاستقراء أن لهذه الأشياء واقعا فهذا يعني أننا قد اتبعنا منهجا معرفيا انطلقنا من خلاله من المحسوس بما هو محسوس إلى الواقع بالاستقراء المستند إلى العقل.

ب – أما إذا كنا في موقف معرفي لا نشك فيه في الواقع الخارجي، ونرى فيه أن المحسوسات حاكية عن أشياء في الخارج، ولكننا لا نعرف شيئا عن العلاقات التي ترتبط بها هذه الأشياء في الخارج، فنحن – مثلا – حينما نشاهد أشياء تقترن بأشياء أخرى أو تتلوها، ولا نعرف شيئا سوى ذلك، فإننا في هذه الحالة – في ضوء المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر – نحاول أن نعرف نوع الارتباط الذي ترتبط به هذه الأشياء ببعضها، وحينما نثبت بالاستقراء أن هذه الأشياء ترتبط ببعضها البعض الآخر بنوع من العلاقة – [ كأن تكون السببية العقلية بحسب الأسس المنطقية ] أو [ التفسير المشترك بحسب ما بعد الأسس ] – التي تفسر اطراد الاقتران أو التتابع بين هذه الأشياء، فهذا يعني أننا قد اتبعنا منهجا معرفيا انطلقنا فيه من المحسوس بما هو معبر عن الواقع إلى الواقع بواسطة الاستقراء المستند إلى العقل.

ج - أما إذا كنا في موقف معرفي لا نشك فيه في ارتباط الأشياء التي نراها في الخارج فيما بينها بعلاقة السببية – مثلا – ولكننا لا نعلم ما إذا كانت السببية قانون عام وأن لكل حادثة سبب، فإننا في هذه الحالة – في ضوء المنهج المعرفي عند الشهيد الصدر – نحاول أن نعرف: هل أن علاقة السببية قانون عام أم أنه ليس كذلك، وحينما نثبت قانون السببية – استنادا إلى العلاقات السببية المتعددة التي أثبتناها بالاستقراء سابقا –، فهذا يعني أننا قد اتبعنا منهجا معرفيا انطلقنا فيه من الواقع – متمثلا بما استنتجناه سابقا – إلى الواقع بواسطة الاستقراء المستند إلى العقل.

إذن هذه ثلاث مراحل للمنهج المعرفي عند الشهيد الصدر تختلف باختلاف الموقف المعرفي، ويشكل أولها أساسا لما بعدها، ويستند آخرها على ما قبلها، ولكن القاسم المشترك فيما بينها هو اعتمادها الاستقراء المستند إلى العقل المتمثل في مجموعة من المصادرات والبديهيات وتكوين الفرض.

 

تنبيه (3): اهتمام كبير بالمعارف الأولية القبلية في ضوء المذهب الذاتي:

لقد اهتم المذهب الذاتي اهتماما بالغا بالقضايا العقلية القبلية، وقد تجسد هذا الاهتمام من خلال:

أ – التأكيد على أنه من الضروري أن يكون للمعرفة بداية؛ فإذا كانت المعرفة الإنسانية مستنتجة بعضها من بعض بطريقة استنباطية أو استقرائية، فيجب أن تكون لهذه المعرفة بداية تتمثل في معارف غير مستنتجة بأي صورة من صور الاستنباط أو الاستقراء؛ لأننا لو لم نفترض هذه البداية لواجهنا متراجعة لا نهائية، ولتوقف التوصل إلى معرفة على حصول عدد لا نهائي من المعارف .(7) وعلى أساس هذا الفهم رفض المذهب الذاتي محاولة (رايخنباخ) للإستغناء عن البداية؛ لأنه يؤمن بأن هذا غير ممكن، وأنه بدون بداية حقيقية للمعرفة لا يمكن أن توجد معرفة؛ فأغلب معارفنا أثبت المذهب الذاتي انها ليست سوى تطبيقات لنظرية الاحتمال – بالمعنى الذي حدده هذا المذهب لهذه النظرية وبديهياتها – وما دام لا بد في كل تطبيق لنظرية الاحتمال من افتراض معرفة سابقة بتلك البديهيات، فإن هذا يبرهن على أن تلك المعرفة تشكل بداية للمعرفة . (8)

ب – التأكيد على ما يميّز المعارف الأولية القبلية عن المعارف الثانوية المستنتجة، من خلال بيان العلامات الفارقة بين هاتين المعرفتين، فقد كتب الشهيد الصدر تحت عنوان: (العلامات الفارقة بين القضية الأولية والقضية الاستقرائية)، وأيضا تحت عنوان (الفروق بين قضايا العلوم الطبيعية وقضايا الرياضة والمنطق) ما يؤيد هذا التأكيد. ويمكن تلخيص الفروق بين القضايا الأولية والقضايا الرياضية والمنطقية من جهة وبين القضايا الاستقرائية من جهة أخرى في النواحي الآتية:

1 – يقول الشهيد الصدر: ((وقد تكون من العلامات الفارقة بين القضية الاستقرائية والقضية الأولية القبلية نوع الدور الذي يمكن أن تلعبه الشواهد والأمثلة الإضافية، فأي قضية تزداد وضوحا وتترسخ أكثر فأكثر عند الحصول على شواهد وأمثلة جديدة تعتبر قضية استقرائية. وأي قضية لا يعززها الحصول على شواهد وأمثلة إضافية وتتمتع بدرجة من الوضوح لا تزداد كلما ازدادت الأمثلة والشواهد، تعتبر قضية أولية قبلية؛ لأنها إذا كانت لا تستمد وضوحا أكبر من الشواهد الاستقرائية الإضافية فهذا يعني أن وضوحها ذاتي ومنفصل عن الاستقراء، أي أنها قضية أولية قبلية)). (9)

ويقول في موضع آخر: ((إن قضايا الرياضة والمنطق تبدو يقينية بدرجة لا يمكن أن نتصور إمكان الشك فيها، على عكس قضايا العلوم الطبيعية، فهناك فرق كبير بين (1 + 1 = 2) أو (أن المثلث له ثلاث أضلاع) أو (أن اثنين نصف الأربعة) و وبين قضايا العلوم الطبيعية، نظير: (أن المغناطيس يجذب الحديد) و (المعدن يتمدد بالحرارة) و (الماء يغلي إذا صار حارا بدرجة مائة) و (كل إنسان يموت). فإن القضايا الأولى لا نتصور إمكانية الشك فيها بحال، بينما يمكن أن نشك في القضايا الطبيعية من النوع الثاني، مهما كنا متأكدين من صدقها. فلو أن عددا كبيرا من الناس الموثوق بفهمهم وإدراكهم للتجارب العلمية أخبرونا بوجود نوع من الماء لا يغلي بالحرارة، أو أن بعض المعادن لا تتمدد بالحرارة، لتوقف إيماننا بالقضية العامة. بينما لا نستطيع أن نتصور الشك في الحقيقة الرياضية القائلة: (إن الاثنين نصف الأربعة) ولو أخبرنا أكبر عدد ممكن من الناس بأن الإثنين أحيانا يكون ثلث الأربعة ! (10)

ولكن هذه العلامة الفارقة لا يمكن استخدامها والإستفادة منها بسهولة في التمييز بين القضية القبلية والقضية الاستقرائية؛ لأن كثيرا من القضايا الاستقرائية التي تملك عددا هائلا من الشواهد والأمثلة في حياة الإنسان تصل – نتيجة لذلك – إلى درجة من الوضوح لا تسمح عادة بأن ندرك أي نمو لها على أساس شواهد إضافية. (11)

2 – يقول الشهيد الصدر: ((وهناك علامة فارقة أخرى، وهي شعور الإنسان بإمكان التنازل عن الاعتقاد المطلق بقضية ما إذا توفرت بعض القرائن ضدها: فإذا تحدث عدد كبير من الثقات عن شخص معين رأوا بأنفسهم أن رقبته فصلت عن جسده فلم يمت، بل ظل يتكلم كما كان يتكلم قبل ذلك، فمن المحتمل أن توجد شهادات هؤلاء الثقات احتمالا – ولو ضئيلا – لصدق هذه الحادثة بصورة استثنائية. ولكننا مهما نفترض من شهادات ثقات بأنهم رأو بأعينهم شيئا موجودا ومعدوما في نفس الوقت، لا نجد في أنفسنا أي استعداد لتقبل احتمال ذلك)).(12)

3 – يقول الشهيد الصدر: ((وتوجد علامة فارقة ثالثة، وهي: أن القضية الاستقرائية مهما كان الاستقراء الذي يدعمها شاملا، لا يمكن أن تكون قضية مطلقة صادقة على أي عالم من العوالم المفترضة، وإنما يختص صدقها بالعالم الخارجي المعاش الذي وقع الاستقراء فيه، بينما تتمتع القضية الأولية القبلية بصدق مطلق لا يختص بهذا العالم، بل يمتد إلى أي عالم يمكن افتراضه. فالقضية القائلة: (كل نار حارة) قضية استقرائية؛ لأنها رغم وضوح صدقها على حقائق هذا العالم الخارجي المعاش، ليس من الضروري أن تكون صادقة على أي عالم آخر مفترض، بل بالإمكان أن نفترض عالما توجد فيه نيران غير حارة، ولا يوجد في نفوسنا رفض لهذا الافتراض. وأما القضية القائلة: (إن النقيضين لا يجتمعان)، أي النفي والإثبات لا يصدقان معا، فهي قضية تصدق على أي عالم نفترضه، وليس بإمكاننا أن نحتمل وجود عالم يتعايش فيه النفي والإثبات. وهذا يعني أنها قضية منفصلة عن الاستقراء؛ لأن الاستقراء لا يمكن أن يعطي هذا التعميم في الصدق، وإنما يبرهن على الصدق في إطار العالم الذي يمارس الاستقراء فيه)). (13)

 

تنبيه (4): التصورات في ضوء المذهب الذاتي:

يبدو أننا ركزنا في ما تقدم – في هذا الموقف – على التصديقات، ولذلك نود أن نشير هنا إلى أن موقف المذهب الذاتي من التصورات هو متفق تماما مع موقف المذهب العقلي، فكلاهما يقسم التصورات إلى: تصورات أولية تشكل الأساس التصوري للذهن البشري، وتتولد هذه التصورات من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة --- فنحن نتصور الحرارة؛ لأننا أدركناها باللمس، ونتصور اللون؛ لأننا أدركناه بالبصر، وهكذا، وتتشكل من هذه المعاني القاعدة الأولية للتصور وينشيء الذهن بناء على هذه القاعدة التصورات الثانوية، فيبدأ بذلك دور الإبتكار والإنشاء، وهو ما يصطلح عليه بلفظ (الانتزاع) فيولد مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأولية، وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحس، وإن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدمها الحس إلى الذهن والفكر --- فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع أن نفهم كيف انبثقت مفاهيم العلة والمعلول والجوهر والعرض والوحدة في الذهن البشري، إنها كلها مفاهيم انتزاعية يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة، فنحن نحس مثلا بغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته مائة، وقد يتكرر إحساسنا بهاتين الظاهرتين – ظاهرتي الغليان والحرارة – آلاف المرات ولا نحس بعلية الحرارة للغليان مطلقا، وإنما الذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلية من الظاهرتين اللتين يقدمهما الحس إلى مجال التصور .(14)

 

2 – الموقف من قيمة المعرفة:

يؤمن المذهب الذاتي بالمعرفة البشرية وبموضوعيتها وبإمكانيتها في الكشف عن الحقيقة، إنه يؤمن أن البشرية بما تملكه من مجموعة العلوم والمعارف التي لديها قادرة على استكناه الحقائق والكشف عن أسرار العالم، إنه مذهب يرفض السفسطة ومدارس الإنكار والشك ويؤمن بالوجدان. وفيما يلي من التنبيهات سوف نستعرض بالتحليل موقف المذهب الذاتي من قيمة المعرفة:

 

تنبيه (5): (حصول العلم بوصفه أمرا مفروغا عنه) هي أول مصادرة من مصادرات المذهب الذاتي:

في ضوء إيمان المذهب الذاتي بالمعرفة الإنسانية وثقته بالوجدان يتضح: أن المصادرة الأولى من مصادرات المذهب الذاتي هي حصول العلم والجزم لدى الإنسان، بمعنى أن المذهب الذاتي يأخذ حصول العلم لدى الإنسان أمرا مفروغا عنه ولا يسعى للبرهنة عليه وإيجاده عند من لم يحصل لديه. فعند اقتران زوال الصداع بتناول الأسبرين لمرات عديدة، يحصل العلم لدى الإنسان بأن تناول الأسبرين علة لزوال الصداع، وليس من وظيفة المنطق الذاتي البرهنة على حصول هذا العلم وإيجاده لدى الإنسان وإنما يتعامل معه بوصفه أمرا مفروغا عنه، ثم تبدأ وظيفته من حيث يحصل العلم المذكور ليفلسف الموضوع ويقدم تفسيرا لحصوله. (15)

إن المذهب الذاتي يقر بوضوح أنه لا يستطيع أن يقدم برهانا على أن الإنسان السوي يعلم بعدد كبير من التعميمات على أساس الاستقراء، فنحن لا نملك حقا برهانا يقنع الشخص بوجود هذا العلم إذا أنكره، وما ذا عسانا أن نقول لمن ينكر علمه بأنه إذا أكل فسوف يشبع، وإذا قطعت رقبة ابنه فسوف يموت، وإذا وضع كوبا من ماء على الموقد المشتعل فلن يحدث فيه الإنجماد !؟

إن موقف المذهب الذاتي من هذا الإنكار يشبه الموقف الذي يتخذه أي إنسان تجاه الفيلسوف المثالي الذي ينكر وجود العالم وأي واقع موضوعي خارج نطاق تصوراتنا، ويزعم أنه لا يعلم بشيء خارج نطاق هذه التصورات ! فكما لا يمكننا أن نبرهن لليفلسوف المثالي على أنه يعلم بأن لزوجته وأولاده وداره واقعا موضوعيا – وإن كنا متأكدين من أنه يعلم بذلك على أساس طبيعة تعامله مع هذه الأشياء – كذلك لا يمكننا أن نبرهن ضد شخص ينكر العلم بأنه إذا أكل فسوف يشبع، وإذا ذبح ابنه فسوف يموت، ويرى أن الاستقراء المديد في تاريخ البشرية لا يكفي للعلم بذلك إذا لم يكن الإنسان مسرفا في اعتقاده. (16)

تنبيه (6): (عدم كون العلم الحاصل وهما) هي ثاني مصادرة من مصادرات المذهب الذات     ي:

بعد افتراض حصول العلم بأن: (أ) علة ل (ب) – [ أو أن الأكل علة للشبع ] أو [ أن قطع الرقبة علة للموت ] – يأتي دور الحديث عن المصادرة الثانية من مصادرات المذهب الذاتي، وحاصل هذه المصادرة هو الاعتراف بأن هذا الجزم الحاصل ليس مجرد وهم يعيشه الإنسان نتيجة لغفلته عن برهان عقلي. وإنما هو بالفعل ناتج عن قوة العقل. --- وبتعبير آخر: المصادرة الثانية: ((هي أن لا يكون العلم بعلية (أ) ل (ب) – أو [ قل العلم بعلية الأكل للشبع ] أو [ قل العلم بعلية قطع الرقبة للموت ] – الناتج عن تكرر الاقتران علما ولدته قوة الوهم، بحيث يزول إذا لجأ العقل الأول إلى صناعته البرهانية، بل أن يكون علما يحصل لدى الإنسان فيما لو عزل تماما عن قوة وهمه. ومن هنا تتحدد وظيفة المنطق الذاتي بتفسير العلوم غير الناتجة عن الوهم.

إن موقف المذهب الذاتي بهذا الصدد لا يتعارض معه موقف المنطق العقلي، بل أن المنطق العقلي يصادق على ما يقوله المذهب الذاتي؛ لأنه يعترف بان العلم الحاصل هو عبارة عن معرفة عقلية صحيحة وليس وهما، فلا يمكن أن تخالفه أحكام العقل الأخرى؛ لأن العقل لا يعارض نفسه.

أما التجريبيون فهم على قسمين، تبعا لموقفهم من أصل حصول العلم:

أ – فمن أنكر منهم أصل وجود هذا العلم لم يعد من الممكن لديه الحديث حول منشئه، وهل أنه من مدركات العقل أم مدركات الوهم .

ب – وأما بعض من يعترف منهم بحصول علم من هذا القبيل، فيفسره بما يقرب من الوهم؛ لأنه في الحقيقة يفسره على أساس العادة، والعادة قريبة إلى الوهم)). (17)

 

تنبيه (7) الوجدان في ضوء المذهب الذاتي هو المبرر والشاهد على صحة النظرية:

في ضوء ما تقدم يتضح – بشكل لا لبس فيه – أن المذهب الذاتي ما دام يثق بالوجدان فلا بد وأن يركن إلى الوجدان ويستند عليه على أساس أنه المبرر أو الشاهد على صحة النظرية التي يختارها.

وللشهيد الصدر في أغلب مؤلفاته العديد من النصوص التي تؤكد هذا المعنى؛ إذ أن الإيمان بالوجدان والركون إليه أحد أهم المباني الأساسية في ضوء المذهب الذاتي، إنه يتخذ من الوجدان معيارا للحكم على صحة النظرية وبطلانها، فالنظرية التي لا تنسجم مع الوجدان لاشك في بطلانها، وأما تلك التي تنسجم مع الوجدان فهي قابلة لأن تكون صحيحة، فأحد شروط صحة النظرية – بحسب المذهب الذاتي – إنسجامها مع الوجدان. وفيما يلي بعض النصوص التي تؤكد هذا المعنى:

انظر إلى النص التالي – [ الذي يعكس موقف الشهيد الصدر من المذهب التجريبي بهذاالصدد ] –: ((وفي مقابل هذا التيار ظهر تيار قوي لا يستهان به في أوساط الفلاسفة التجريبيين الذين آمنوا بالتجربة واعتبروها مصدر المعرفة البشرية، وهذا التيار أنكر فكرة العلية والسببية، وقصر اعترافه بحصول الجزم على مجال التجربة الحسية المباشرة فحسب، وما يقع في حدود الحس المباشر هو نفس النار لا عليتها للإحراق. ومن هنا نجد أن جماعة من التجريبيين ذهبوا إلى أن المعارف الحاصلة من التجربة عبارة عن قوانين ثابتة على نحو الاحتمال لا على نحو الجزم. وإذا ضممنا إلى هذا الاعتقاد اعتقادهم بأن جميع المعارف البشرية قائمة على أساس التجربة. خرجنا بنتيجة، وهي أن كل معارفنا عرضة للشك، حتى المعارف الرياضية من قبيل: (إن الواحد نصف الإثنين) الناتجة – عندهم – عن التجربة، فحتى هذه عرضة للشك، شأنها في ذلك شأن القضية القائلة ب (أن كل نار محرقة) --- وها هنا لا بد من الإشارة أنه من المحتمل – احتمالا قويا – أن يكون عجز الفلاسفة التجريبيين عن تفسير حصول العلم هو الذي يقف وراء إنكارهم له، فكأنهم أثر عجزهم عن ذلك اصيبوا ببلبلة في فكرهم، فأدت بهم إلى إنكار أصل حصول العلم.

وهذا الإنكار يمكن تفسيره على أساس ما ذكرناه، وأن حالة الشك الحاصلة لديهم ناجمة عن انحراف في سير فكرهم، فإنهم من ناحية أنكروا وجود معارف عقلية أولية، ومن ناحية أخرى أرجعوا جميع المعارف إلى التجربة، ومن ناحية ثالثة رأوا أن دائرة الكليات أوسع من دائرة التجربة، فما كان منهم إلا أن أنكروا من رأس حصول العلم.

إذن: مسألة الإنكار لديهم لم تعد مشكلة منطقية بقدر ما تعبر عن مشكلة نفسية عاشوها، وإلا فهل يشك أحد حقيقة في أن عنق الإنسان إذا حزت فإنه يموت؟ ! أو في أن من يدخل النار يحترق؟ !

وهنا يأتي دور المنطق الذاتي ليعالج المشكلة النفسية التي عاشها هذا الإتجاه من التجريبيين. ولو استطاع هذا المنطق أن يقدم تفسيرا معقولا يقبله هؤلاء حول كيفية حصول العلم من خلال التجربة، فإن هذا سيعيد بصيص الأمل في رجوعهم إلى حظيرة اليقين)). (18)

ثم أنظر إلى النص التالي: ((وإذا كنا قد عرفنا أن الاستقراء يتوقف نجاحه على أن يتعامل مع وحدات مفهومية – أي مع خاصيات مشتركة – وليس مجرد مجاميع تصطنع اصطناعا، وإذا كنا قد استنتجنا ذلك من الطريقة ذاتها التي فسرنا بها المرحلة الإستنباطية من الدليل الاستقرائي، فإننا – من ناحية أخرى – يمكننا الرجوع مباشرة إلى استقراءاتنا والفطرة السليمة التي يهتدي الناس عن طريقها إلى شروط الاستدلال الاستقرائي دون أن يعوا محتواه وعيا كاملا، لكي نعرف أننا عمليا لا نمارس الاستدلال الاستقرائي إلا حينما نتعامل مع الفئات ذات الوحدة المفهومية والخاصية المشتركة)). (19)

وانظر – أيضا – إلى النص التالي: ((غير أن الاستدلال له درجات أيضا، وكل درجة حتى أبسط وأبده تلك الدرجات مقنعة إقناعا كاملا. ولو كان الإنسان طليق الوجدان، لكفته أبسط ألوان الاستدلال على الصانع الحكيم، ليؤمن [ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ] – سورة الطور /35 –. ولكن الفكر الحديث منذ قرنين من الزمن لم يترك هذا الوجدان حرا طليقا وصافيا، ومن هنا احتاج الاستدلال بالنسبة إلى من كان ملما بالفكر الحديث ومناهجه في البحث إلى تعميق وملء الفراغات التي كان الاستدلال الأبده والأبسط، يترك ملأها للوجدان الطليق)). (20)

 

تنبيه (8): تفسير الاستقراء على أساس الاحتمال ينسجم مع الوجدان والفطرة السليمة:

في ضوء ما تقدم يكون من الطبيعي أن تكون وظيفة المذهب الذاتي في المعرفة، ليس هو إثبات المعرفة؛ لأن إثباتها هو أمر مفروغ عنه، بل هو أن يفلسف الموضوع ويقدم تفسيرا لحصوله، على أن يكون هذا التفسير معقولا ومنسجما مع الوجدان البشري والفطرة السليمة.

يعتقد الشهيد الصدر أن معالجة الإنسان السوي بتفكيره الاعتيادي لمشكلة الاستقراء – [الذي هو المصدر الأساس للجزء الأكبر من معارفنا] – سوف تكون – وبلاشك – معالجة تنسجم مع ما يجده في نفسه ف ((أكبر الظن انك إذا طرحت مشكلة هذه الطفرة في الاستدلال الاستقرائي من الخاص إلى العام على إنسان اعتيادي، فسوف يشرح لك أفكاره عن الطريقة التي يتم بها الاستدلال الاستقرائي بما يلي: إننا نواجه في الاستقراء ظاهرتين تقترنان في كل التجارب التي شملها الاستقراء، من قبيل الحرارة والتمدد في الحديد، وما دام التمدد في الحديد ينشأ من سبب في الطبيعة، فمن الطبيعي أن نستنتج من الاقتران المستمر بين التمدد والحرارة في تجاربنا العديدة: أن الحرارة هي سبب التمدد، وإذا كانت الحرارة هي سبب التمدد فمن حقنا أن نؤكد على سبيل التعميم أنه كلما وجدت الحرارة في الحديد ظهر فيه التمدد؛ لأن كل ظاهرة توجد دائما عند وجود سببها. وهكذا يعالج التفكير الاعتيادي للإنسان السوي مشكلة الطفرة ويفسر الاستدلال الاستقرائي)).(21)

 

رضا حسن الغرابي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم