صحيفة المثقف

المذهب الذاتي في نظرية المعرفة .. أصالةُ وتميّز (2)

إن ركون الشهيد الصدر للوجدان في تأييد النظرية انتهى به إلى أن يجعل هذا التفسير الذي ينسجم مع تفكير الإنسان الاعتيادي ومعالوجدان هاديا له في دراسته المعمقة للدليل الاستقرائي، فالنتيجة التي انتهى إليها الشهيد الصدر بعد البحوث المعقدة والمعمقة في تفسير الدليل الإستقرائي جاءت منسجمة تماما مع ما توصل إليه التفكير الإعتيادي للإنسان السوي من تفسير للدليل الاستقرائي. انظر إلى ما انتهى إليه الشهيد الصدر في تفسير الدليل الاستقرائي بعد هذه الجولة من البحوث المعقدة والمعمقة، فقد انتهى إلى النتيجة التالية:

((إن المرحلة الإستنباطية من الدليل الاستقرائي يمكنها أن تنمي قيمة التعميم الاستقرائي وترتفع به إلى درجة عالية من درجات التصديق الاحتمالي، مستنبطا ذلك من نفس نظرية الاحتمال – بحسب تفسير المذهب الذاتي لها – وبديهياتها، من دون حاجة إلى إضافة مصادرات إضافية يختص بها الدليل الاستقرائي، أي أن الاستقراء ليس إلا تطبيقا للاحتمال بتعريفه وبديهياته التي عرفناها في ضوء المذهب الذاتي، ويمكن عن طريقه إثبات التعميم الاستقرائي بقيمة احتمالية كبيرة --- إن هذه الطريقة تتطلب افتراض علم إجمالي على نحو يكون عدد كبير من أعضائه وأطرافه مستبطنا أو مستلزما للقضية الإستقرائية، فتصبح القضية الإستقرائية محورا لعدد من القيم الاحتمالية بقدر ذلك العدد من الأعضاء المستبطن أو المستلزم للقضية الإستقرائية. ولا بد أن يكون العلم الإجمالي المفترض مرنا بشكل يزداد فيه عدد الأعضاء التي تتضمن إثبات القضية الاستقرائية، وينمو هذا العدد باستمرار تبعا لازدياد عدد التجارب أو الملاحظات في عملية الاستقراء، وبهذا يصبح نمو القيمة الاحتمالية للقضية الاستقرائية مطردا مع نمو الاستقراء وامتداده)). (22)

((إن المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي – رغم عدم احتياجها إلى أي ثبوت مسبق لمصادرات أخرى إضافة إلى مصادرات نظرية الاحتمال – تتوقف على افتراض عدم وجود مبرر قبلي لرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي، أي للإعتقاد بعدمها، وهذا لا يكلف الدليل الاستقرائي إثباتا مسبقا؛ لأن الرفض هو الذي يحتاج إلى إثبات، وأما عدم الرفض القبلي فيكفي له عدم وجود مبرر للرفض. وعلى هذا الأساس نعرف: أن من يرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي رفضا كاملا لا يمكنه أبدا أن يفسر الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية ويبرر نمو الاحتمال بالقضية الاسيتقرائية. وعن هذا الطريق يمكننا أن نبرهن لكل من يعترف بقيمة حقيقية للدليل الاستقرائي في تنمية الاحتمال، على أنه مضطر إلى التنازل عن المبررات القبلية لرفض علاقات السببية ونفيها . (23)

تنبيه (9): تميز المذهب الذاتي عن غيره من المذاهب في إثبات موضوعية المعرفة وإثبات التطابق والتماثل بين محتوى المعرفة والواقع:

((تكشف المعارف البشرية عن الواقع الخارجي، وتتطابق مع هذا الواقع، وهذه ليست النتيجة الجديدة التي أتى بها المذهب الذاتي، بل هي عين ما ادعته المدرسة العقلية، كما أنها لا تتعارض مع الموقف المبدئي الذي تتبناه كل الإتجاهات الواقعية في تفسير قيمة المعرفة البشرية، بما فيها المادية الجدلية. إنما الجديد في المذهب الذاتي هو أنه اكتشف سبيلا مبتكرا لإثبات موضوعية المعرفة البشرية، والتدليل على الواقع الخارجي، كما استخدم السبيل ذاته في إثبات التطابق والتماثل بين محتوى المعرفة والواقع، وكان سبيل المذهب الذاتي إلى ذلك هو الدليل الاستقرائي ذاته)). (24)

 

تنبيه (10): حصول العلم بمعن ى الجزم لا بمعن ى اليقي ن المنطقي هو العلم المفترض كمصادرة في ضوء المذهب الذاتي:

وأخيرا – بخصوص الموقف من قيمة المعرفة – لا بد من أن ننبه إلى ما يلي: ((إن المنطق الذاتي عندما يتحدث عن العلم لا يقصد به اليقين بالمصطلح المنطقي، وهو الموصوف هناك بأنه ( مضمون الحقانية )، وإنما يتحدث عن العلم بمعناه اللغوي، وهو الجزم الذي لا لبس فيه ولا شك. فالإنسان عندما يضع الماء على النار، لا يحتمل أن الماء سيبقى على حاله من عدم الغليان حتى لو طال بقاؤه على النار، بل يجزم بأنه سوف يغلي. وجزمه بغليان الماء يستوي مع جزمه بسائر المحسوسات من قبيل جزمه بالنار مثلا.

إذن: حصول العلم – بمعنى الجزم لا بمعنى اليقين المنطقي – يؤخذ في المذهب الذاتي أصلا موضوعيا. ولذلك، لو أتانا من ينكر حصول الجزم لديه بأن النار علة لغليان الماء، مدعيا أن ذلك مرده إلى الصدفة، فعندها لا يمكن للمنطق الذاتي أن يقدم له شيئا أو يزيل هذا الشك من نفسه، إلا أننا مع ذلك نعتقد بأن الشك في هذه الأمور لا يحصل لدى الناس، وإنما كثير منهم اصطنعوه)). (25)

 

3 – الموقف من توالد المعرفة ونموها:

كنا قد عرفنا في الموقف السابق أن المذهبين العقلي والذاتي رغم الاختلاف بينهما حول مقدار وحجم المعارف العقلية القبلية هما بالتالي يؤمنان بوجود معارف عقلية قبلية.

والسؤال الأساسي هنا: إن هذه المعارف العقلية القبلية – التي يتفق على وجودها كلا المذهبين – كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟ وكيف يمكننا أن نستنتج من القضايا التي تشكل الأساس الأول للمعرفة قضايا أخرى، وهكذا حتى يتكامل البناء؟

وإزاء الإجابة عن هذا السؤال يختلف المذهب الذاتي مع المذهب العقلي اختلافا أساسيا: فالمذهب العقلي لا يعترف عادة إلا بطريقة واحدة لنمو المعرفة، وهي طريقة التوالد الموضوعي، بينما يرى المذهب الذاتي: أن في الفكر طريقتين لنمو المعرفة، إحداهما: التوالد الموضوعي، والأخرى: التوالد الذاتي. ويعتقد المذهب الذاتي بأن الجزء الكبر من معرفتنا بالإمكان تفسيره على أساس التوالد الذاتي.

[ الفرق بين التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي ]

ولكي نتصور محتوى هذا الخلاف بين المذهب العقلي والمذهب الذاتي، يجب أن نوضح ما نقصده بالتوالد الموضوعي والتوالد الذاتي:

إن في كل معرفة جانبا ذاتيا وجانبا موضوعيا، فنحن حين نعرف: أن الشمس طالعة، أو أن المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر أيضا، نميز بين عنصرين: أحدهما: الإدراك، وهو الجانب الذاتي من المعرفة، والآخر: القضية التي أدركناها، ولها – بحكم تصديقنا بها – واقع ثابت بصورة مستقلة عن الإدراك، وهذا هو الجانب الموضوعي من المعرفة.

والتوالد الموضوعي يعني: أنه متى ما وجد تلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى وقضية أخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، فمعرفتنا ب (أن خالدا إنسان، وأن كل إنسان فان) تتولد منها معرفة ب (أن خالدا فان). وهذا التوالد موضوعي؛ لأنه نابع عن التلازم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولدة والجانب الموضوعي من المعرفة المتولدة.

وهذا التوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الأرسطي؛ لأن النتيجة في القياس دائما ملازمة للمقدمات التي يتكون منها القياس، فتنشأ معرفتنا بالنتيجة من معرفتنا بالمقدمات على أساس التوالد الموضوعي والتلازم بين القضايا المستدل ببعضها البعض الآخر بصورة قياسية .

والتوالد الذاتي يعني أن بالإمكان أن تنشأ معرفة ويولد علم على أساس معرفة أخرى، دون أي تلازم بين موضوعي المعرفتين، وإنما يقوم التوالد الذاتي على أساس التلازم بين نفس المعرفتين. فبينما كان المبرر لنشوء معرفة من معرفة أخرى في حالة التوالد الموضوعي هو التلازم بين الجانبين الموضوعيين للمعرفة، وكان التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة تابعا للتلازم بين الجانبين الموضوعيين، نجد في حالات التوالد الذاتي: أن المبرر لنشوء معرفة من معرفة أخرى هو التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة، وأن هذا التلازم ليس تابعا للتلازم بين الجانبين الموضوعيين .

والمذهب العقلي – الذي يمثله المنطق الأرسطي – يؤمن بأن الطريقة الوحيدة الصحيحة من الناحية المنطقية هي: طريقة التوالد الموضوعي، وأما طريقة التوالد الذاتي فهي تعبر عن خطأ من الناحية المنطقية؛ لأنها تحاول استنتاج قضية من قضية أخرى دون أي تلازم بين القضيتين. وتورط الفكر البشري في الخطأ له شكلان رئيسيان، أحدهما: استعماله لطريقة التوالد الذاتي، أي استنتاج نتيجة من مقدمات صادقة لا تستلزم تلك النتيجة، والشكل الآخر: استعماله لطريقة التوالد الموضوعي باستنتاج نتيجة من مقدمات تستلزم تلك النتيجة، ولكن المقدمات كاذبة .

فلكي يكون الاستدلال صحيحا في رأي المذهب العقلي لا بد أن تكون طريقة التوالد فيه موضوعية لا ذاتية، وأن تكون القضايا أو المقدمات المولدة صادقة. وعلى هذا الأساس اضطر المنطق الأرسطي – نتيجة لإيمانه بالدليل الاستقرائي – إلى القول بأن طريقة التوالد في الاستدلالات الاستقرائية موضوعية لا ذاتية، وأن كل استدلال استقرائي مرده إلى قياس يشتمل على كبرى عقلية قبلية تقول: إن الصدفة النسبية لا تتكرر باستمرار على خط طويل، وصغرى مستمدة من الخبرة الحسية تقول: إن (أ) و (ب) اقترنا باستمرار على خط طويل. وأكد المنطق الأرسطي بهذا الصدد: أن الأمثلة المستمدة من الاستقراء والخبرة الحسية – التي تكون الصغرى في القياس – لا تكفي وحدها لاستنتاج أي تعميم استقرائي؛ إذ لا تلازم بينها وبين التعميم موضوعيا، فلا تكون طريقة التوالد في الاستقراء موضوعية ما لم ندخل في الاستدلال الاستقرائي تلك الكبرى العقلية القبلية التي تنفي تكرر الصدفة النسبية على الخط الطويل .

وبكلمة مختصرة: إن المذهب العقلي الذي يمثله المنطق الأرسطي حاول أن يفسر جميع العلوم والمعارف التي يعترف بصحتها من الناحية المنطقية بأنها: إما أن تكون معارف أولية تعبر عن الجانب العقلي القبلي من المعرفة البشرية، وإما أن تكون مستنتجة من تلك المعارف على أساس طريقة التوالد الموضوعي .

وخلافا لذلك يؤمن المذهب الذاتي في المعرفة بأن الجزء الأكبر من تلك العلوم والمعارف – التي يعترف المنطق الأرسطي بصحتها من الناحية المنطقية – مستنتج من معارفنا الأولية بطريقة التوالد الذاتي لا الموضوعي. فهناك في رأي المذهب الذاتي معارف أولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة، وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم، ومثالها: مبدأ عدم التناقض الذي يعتبره المذهب الذاتي – وفاقا للمذهب العقلي – معرفة عقلية قبلية. وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الموضوعي، ومثالها: نظريات الهندسة الإقليدية المستنتجة من بديهيات تلك الهندسة بطريقة التوالد الموضوعي. وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا بطريقة التوالد الذاتي، ومثالها: كل التعميمات الاستقرائية، فإن التعميم الاستقرائي مستنتج من مجموعة أمثلة وشواهد لا يوجد أي تلازم بينها وبين ذلك التعميم، فالعلم بالتعميم ينشأ عن طريق العلم بتلك الأمثلة والشواهد على أساس التوالد الذاتي.

[ القضايا المستنتجة بالتوالد الموضوعي ]

وإذا اخذنا القضايا الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي ودرسنا طريقة استنتاجها، وجدنا أن كل قضية من هذا النوع تستند في استنتاجها بطريقة التوالد الموضوعي إلى فئتين من القضايا: الفئة الأولى: قضايا ترتبط بإنتاج تلك القضية المعينة بالذات، والفئة الثانية: قضايا تقرر ثبوت التلازم بين الفئة الأولى والقضية المستنتجة بالتوالد الموضوعي .

وقضايا التلازم هذه عامة بطبيعتها ولا تختص بإنتاج قضية دون أخرى، ففي مثال (خالد إنسان، وكل إنسان فان) توجد لدينا ثلاث قضايا تولدت منها بصورة موضوعية القضية القائلة: (إن خالدا فان)، والقضايا الثلاث هي: أولا: (خالد إنسان)، ثانيا: (كل إنسان فان)، ثالثا: (كلما كان شيء عنصرا من فئة وكانت كل عناصر تلك الفئة تتصف بصفة، فإن ذلك يستلزم أن يكون ذلك الشيء متصفا بتلك الصفة). والأولى والثانية من هذه القضايا الثلاث تدخلان في الفئة الأولى؛ لأنهما قضيتان مرتبطتان بإنتاج قضية معينة، وأما القضية الثالثة فهي تدخل في الفئة الثانية؛ لأنها تقرر تلازما عاما بين شكلين من القضايا مهما كان محتواها .

ونلاحظ في هذا الضوء: أن الخطأ في إدراك قضية ثانوية مستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي يستند دائما إلى الخطأ في إحدى القضايا (المقدمات) التي ساهمت في توليد تلك القضية الجديدة، فإما أن يكون الخطأ في قضايا من الفئة الأولى، أو في قضايا التلازم التي تتمثل في الفئة الثانية.

فإذا قلنا: (النفط سائل، وكل سائل يتبخر في درجة مائة من الحرارة، وكلما كان شيء عنصرا من فئة وكانت كل عناصر تلك الفئة تتصف بصفة فإن ذلك يستلزم أن يتصف ذلك الشيء بتلك الصفة) واستنتجنا من ذلك: أن النفط يتبخر في درجة مائة، كانت النتيجة خطأ؛ لأن القضية الثانية من القضايا الثلاث التي ساهمت في التوليد خطأ.

وإذا قلنا: (أن خالدا إنسان، وبعض الناس علماء، وكلما كان شيء عنصرا من فئة، وكانت بعض أفراد تلك الفئة تتصف بصفة فإن ذلك يستلزم أن ذلك الشي يتصف بتلك الصفة). واستنتجنا من ذلك: (أن خالدا عالم)، كانت النتيجة خطأ؛ لأن القضية الثالثة خطأ، حيث أن الشكل الأول من القياس لا يستلزم النتيجة إلا إذا كانت الكبرى كلية.

ودراسة قضايا الفئة الأولى التي ترتبط في مجال الاستنتاج بمحتوى القضية المستنتجة ومضمونها من وظيفة العلوم المختلفة، فكل عالم يتناول من تلك القضايا ما يندرج في نطاق اختصاصه. وأما دراسة قضايا التلازم التي تتمثل في الفئة الثانية وترتبط بشكل القضية دون مضمونها ومحتواها، فهي من وظيفة المنطق الصوري الذي يعتبر المنطق الأرسطي ممثلا له، فهو الذي يحدد صيغ التلازم بين القضايا من ناحيتها الصورية والشكلية بقطع النظر عن مادتها ومحتواها .

[ القضايا المستنتجة بالتوالد الذاتي ]

ولنأخذ الآن – بعد هذا – القضايا والمعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الذاتي .

إن الجزء الأكبر من المعرفة التي يعترف المذهب العقلي والمنطق الأرسطي بصحتها يعود إلى قضايا مستنتجة بطريقة التوالد الذاتي، فقد ثبت ان العلم الاستقرائي التجريبي – أي العلم بالتعميم القائم على أساس الاستقراء والتجربة – لا يمكن أن يفسر بطريقة التوالد الموضوعي، وأن المحاولة التي التي قام بها المنطق الأرسطي لإعطاء الاستدلال الاستقرائي شكلا قياسيا لكي يقوم على أساس التوالد الموضوعي لم تكن ناجحة.

وهكذا نستطيع أن نبرهن لأنصار المذهب العقلي – الذي يمثله المنطق الأرسطي – على أن طريقة التوالد الموضوعي ليست هي الطريقة الوحيدة التي يستعملها العقل في الحصول على معارفه الثانوية، بل يستعمل إلى جانبها أيضا طريقة التوالد الذاتي؛ لأن العقليين ما داموا يعترفون بالعلم الاستقرائي وما دمنا قد برهنا على أن العلم الاستقرائي لا يمكن أن يكون نتيجة للتوالد الموضوعي فلا بد أن يعترفوا إلى جانب ذلك بطريقة التوالد الذاتي، وهذا هو ما يدعيه المذهب الذاتي للمعرفة.

ويترتب على هذا أن من الضروري الاعتراف بأن هذه لطريقة الجديدة للتوالد ذاتيا التي تختلف عن طريقة التوالد الموضوعي، لا يمكن إخضاعها للمنطق الصوري أو الأرسطي الذي يعالج التلازم بين أشكال القضايا؛ إذ لا تقوم طريقة التوالد الذاتي على أساس التلازم بين القضية المستنتجة والقضايا التي اشتركت في إنتاجها؛ لأن التوالد ذاتي وليس موضوعيا.

ولكن هذا لا يعني فسح المجال لاستنتاج أي قضية من أي قضية أخرى على أساس التوالد الذاتي دون التقيد بالتلازم بين القضيتين، فنستنتج مثلا أن زيدا قد مات من أن الشمس طالعة، وأن حجم الأرض أكبر من حجم القمر من أن الأرض تشتمل على معادن كثيرة، فإن هذا يؤدي إلى جعل طريقة التوالد الذاتي مبررا لأي استدلال خاطيء، وليس هذا ما نقصده عندما نقرر هذه الطريقة إلى جانب طريقة التوالد الموضوعي .

إن ما نقصده الآن هو أن جزءا من المعرفة التي يؤمن بها العقليون على الأقل لم يتكون على أساس التوالد الموضوعي، وإنما تكون على أساس التوالد الذاتي، وهذا يعني أنا ما دمنا نود الاحتفاظ بذلك الجزء من المعرفة وبطابعه الموضوعي السليم، فلا بد أن نعترف بطريقة التوالد الذاتي، وبأن العقل ينهج هذه الطريقة في الحصول على جزء من معرفته الثانوية.

ومن ناحية أخرى نجد في كثير من الحالات أن استنتاج قضية من قضية أخرى لا تستنتلزمها موضوعيا يعتبر خطأ لا يقره العقليون ولا أي عقل سليم، من قبيل أن نستنتج أن زيدا مات من طلوع الشمس، أو أن خالدا جاء من إخبار المخبر بأن شخصا ما قد جاء.

والمسألة الأساسية في هذا الضوء هي كيف يمكن أن نميز بين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا أخرى بدون تلازم موضوعي بينهما صحيحا، وبين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا أخرى بدون تلازم موضوعي بينهما خطأ؟

وحينما نطرح المسألة بهذه الصيغة في ضوء ما توصلنا إليه من نتائج حتى الآن يبدو بوضوح: أن المنطق الأرسطي لا يكفي للجواب على هذا السؤال وتمييز الشروط التي تكسب التوالد الذاتي المعقولية والصحة؛ لأن طريقة التوالد الذاتي اساسا لا تنطبق على المنطق الأرسطي.

ومن أجل ذلك نلاحظ أنا إذا انطلقنا من وجهة نظر المذهب الذاتي، فسوف نجد أنفسنا بحاجة إلى منطق جديد، إلى منطق ذاتي يكشف الشروط التي تجعل طريقة التوالد الذاتي معقولة، كما احتجنا إلى المنطق الصوري لاكتشاف صيغ التلازم بين أشكال القضايا التي تجعل طريقة التوالد الموضوعي معقولة.(26)

 

تنبيه (12): الإستنباط والإستقراء في ضوء المذهب الذاتي:

من العجيب حقا أن يفهم بعض الباحثينن – في ضوء ما تقدم – أن المذهب الذاتي قد محا الاستدلال الاستنباطي من خريطة الفكر البشري، وبتعبير أدق أن المذهب الذاتي قد قلص دور الاستدلال الاستنبأطي إلى أقصى حد !. ولكي يتضح وجه تعجنا لا بد أن نحلل فيما سيأتي من النقاط موقف المذهب الذاتي من الاستنباط والاستقراء:

أولا – يعتقد الشهيد الصدر: أن الاستدلال الذي يمارسه الفكر البشري يقسم – عادة – إلى قسمين رئيسيين: أحدهما: الاستنباط، والآخر: الاستقراء. وهو يعرف الاستنباط ب: أنه كل استدلال لا تكبر نتيجته المقدمات التي ساهمت في تكوينه، ومثاله: (محمد إنسان، وكل إنسان يموت، فمحمد يموت)، وأيضا: (الحيوان إما صامت وإما ناطق، والصامت يموت والناطق يموت، فالحيوان يموت). ويعرف الاستقراء ب: أنه كل استدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات التي ساهمت في تكوين ذلك الاستدلال، فيقال مثلا: (هذه القطعة من الحديد تتمدد بالحرارة، وتلك تتمدد بالحرارة، وهذه القطعة الثالثة تتمدد بالحرارة أيضا، إذن كل حديد يتمدد بالحرارة) وهذه النتيجة أكبر من المقدمات؛ لأن المقدمات لم تتناول إلا كمية محدودة من قطع الحديد: ثلاثة أو أربعة --- أو ملايين، بينما النتيجة تناولت كل حديد وحكمت أنه يتمدد بالحرارة.

وقد أوضح الشهيد الصدر أن الاستنباط ما دام الفكر يسير فيه من العام إلى الخاص، فهو يستمد مبرره المنطقي من مبدأ عدم التناقض، وأما الاستقراء فما دام الفكر يسير فيه من الخاص إلى العام، فلا يمكن تبريره على أساس مبدأ عدم التناقض وبالتالي فهو يشكو من ثغرة في تكوينه المنطقي لا يمكن أن تسد إلا في ضوء المبررات المنطقية التي قام على على أساسها المذهب الذاتي. (27)

ثانيا: يقسم الشهيد الصدر الأدلة الإستنباطية إلى قسمين: الأول: الأدلة الاستنباطية البحتة التي تبرهن على الجانب الموضوعي من الحقيقة، كما هو الحال في البراهين الهندسية. والثاني: الأدلة الاستنباطية التي لا تبرهن على الجانب الموضوعي من الحقيقة، وإنما تبرهن على درجة من التصديق بهذه الحقيقة، كما هو الحال في المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي، باعتبار أن المذهب الذاتي يعتبر أن الدليل الاستقرائي في مرحلته الأولى دليلا استنباطيا إذا سلمنا بما يتوقف عليه من المصادرات التي تفترضها نظرية الاحتمال.

ويؤكد الشهيد الصدر أن هناك فارقا بين الطابع الاستنباطي للدليل الاستقرائي، والطابع الاستنباطي للأدلة الاستنباطية البحتة، كالبرهان الذي يستنبط (أن زوايا المثلث تساوي قائمتين) من مصادرات الهندسة الإقليدية.

وهذا الفارق يكمن في أن الأدلة الإستنباطية البحتة تبرهن على الجانب الموضوعي من الحقيقة، فالبرهان الهندسي على (أن زوايا المثلث تساوي قائمتين) يثبت – وفق مناهج الاستدلال الاستنباطي – هذه المساواة بين زوايا المثلث وقائمتين كحقيقة موضوعية، وأما الدليل الاستقرائي في مرحلته الإستنباطية فهو لا يبرهن على الجانب الموضوعي من الحقيقة، ولا يثبت أن (أ) سبب ل (ب)، وإنما يثبت بطريقة استنباطية درجة من التصديق بهذه الحقيقة، تتمثل في القيمة الاحتمالية الكبيرة التي أنتجها تجمع عدد كبير من الاحتمالات على محور واحد هو سببية (أ) ل (ب). فالقضية المستنبطة من الدليل الاستقرائي هي درجة من التصديق بقضية [ أن (أ) سبب ل (ب) ]، وليست قضية السببية نفسها، وبإمكاننا أن نعبر عن هذا بتعبير آخر وهو: أن المستنبط من الدليل الإستقرائي نفس قضية السببية – سببية (أ) ل (ب) – ولكن بدرجة من التصديق تقل عن اليقين .(28)

ثالثا: يعتقد الشهيد الصدر أن كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل عن طريق الدليل الاستقرائي تمر بمرحلتين، إذ تبدأ بمرحلة التوالد الموضوعي، وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية، وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جدا من الاحتمال، غير أن مرحلة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين، وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين .

والتعميمات الاستقرائية كلها تمر بهاتين المرحلتين، ففي المرحلة الأولى – أي مرحلة التوالد الموضوعي – يتخذ الدليل الاستقرائي مناهج الاستنباط العقلي، وينمي باستمرار درجة احتمال القضية الاستقرائية على أساس موضوعي. وفي المرحلة الثانية يتخلى الدليل الاستقرائي عن منهجه الاستنباطي وطريقته في التوالد الموضوعي، ويصطنع طريقة التوالد الذاتي لتصعيد المعرفة الاستقرائية إلى درجة اليقين. (29)

وفي ضوء ما تقدم يتضح وجه التعجب؛ إذ كيف نفهم أن المذهب الذاتي يقلص دور الاستنباط في نفس الوقت الذي يعتقد فيه هذا المذهب – في ضوء ما تقدم من تحليل لموقفه من الاستنباط والاستقراء –: [ أن الاستنباط يشكل جزءا أساسيا من البناء الاستقرائي، فليس هناك قضية استقرائية لا تمر بمرحلة التوالد الموضوعي ] (30)، وبتعبير آخر: [ أن الدليل الاستقرائي في مرحلته الأولى يكون دليلا استنباطيا ] (31)، وبتعبير ثالث: [ أن الدليل الاستقرائي في هذه المرحلة يعتبر دليلا استنباطيا، إذا سلمنا بما يتوقف عليه من المصادرات التي تفترضها نظرية الاحتمال ] . (32)

وهكذا يتضح لنا أن المذهب الذاتي لم يقلص دور الدليل الاستنباطي فضلا عن أن يمحوه من خريطة الفكر البشري، وإنما أراد أن يثبت: أولا: أن الذهن البشري يمارس لونين من الاستدلال هما: الاستدلال الاستنباطي والاستدلال الاستقرائي، وثانيا: أن الجزء الأكبر من المعرفة التي تحظى بالقبول – عادة – هي في الحقيقة معرفة استقرائية كانت قد مرت قبل ذلك بمرحلة استنباطية؛ فالاستنباط – في ضوء المذهب الذاتي – يقع في صميم البناء الاستقرائي.

 

تنبيه (12): موضوع علم المنطق ووظيفته في ضوء المذهب الذاتي:

في ضوء ما تقدم يتضح أن هناك فرقا بين موضوع علم المنطق ووظيفته في ضوء المذهب العقلي، وموضوع علم المنطق ووظيفته في ضوء المذهب الذاتي. إن هذا الفرق يعود في الأساس إلى ان المذهب العقلي يتبنى طريقة التوالد الموضوعي في الفكر، ويعتقد أنها الطريقة الوحيدة في توالد المعارف بعضها من بعض، بينما يتبنى المذهب الذاتي طريقة التوالد الذاتي في الفكر إلى جانب طريقة التوالد الموضوعي.

((ووظيفتنا المنطقية تختلف بين هاتين الحالتين: ففي باب التوالد الموضوعي – حيث تتولد الفكرة من فكرة أخرى باعتبار الربط بين موضوعيهما واللزوم بينهما – يجب البحث حول تلك الأمور الواقعية الأزلية التي هي ملاك الربط بين نفس الأفكار الثابتة، سواء وجد مفكر أم لم يوجد، فنبحث عنها على غرار المتقدمين الذين أسسوا لهذا الغرض علم المنطق. وأما في طريقة التوالد الذاتي، فيجب أن لا نبحث عن شيء خارج عن نطاق فكر الإنسان؛ فإن موضوع بحثنا هو نفس فكر الإنسان، وليس من وظيفتنا أن نتساءل عن السبب الخارجي لذلك، فنبحث عن العلية في الداخل لا في الخارج.

في المنطق العقلي كنا نبحث عن الصغرى والكبرى في الخارج، وكنا نبحث عن سبب تولد العلم بالنتيجة من خلال الصغرى والكبرى، وفي هذه الأجواء يكون تولد العلم بالنتيجة على أساس بديهي من البديهيات، والأمر البديهي أمر واقعي وثابت في نفس الأمر والواقع، مع قطع النظر عن وجود أي فكر إنساني، وهذا البديهي مفاده أن (الشيء الشامل لشيء شامل لما يشمله ذلك الشيء الآخر).

أما في المنطق الذاتي فعندما تتولد فكرة من فكرة أخرى بلا رابط لزومي بين موضوعيهما، لا نبحث عن سر هذه السببية خارج نطاق الفكر البشري، وإنما نبحث عنها داخل هذا النطاق، أي أننا نبحث عن امتياز هذه الفكرة التي ولدت تلك، وعن السبب الذي يقف وراء توليدها هي بالذات لها دون غيرها من الأفكار، فنقف على الخصوصيات الذاتية لنفس الفكرة، لا الإمور الواقعية خارج نطاق الفكر والمفكر. ومن هنا نسمي هذا المنطق: (المنطق الذاتي)؛ لأنه المنطق الذي يكشف قوانين علية الأفكار بعضها لبعض.

ومن هنا يظهر بأن المنطق الذاتي يختلف موضوعا عن المنطق العقلي: فإن موضوع الأخير هو هو نفس الأمر والواقع كما ذكرنا، بينما موضوع المنطق الذاتي بحسب الحقيقة هو الفكر البشري بما هو هو، فنبحث عن العلية والسببية بوصفهما عرضا ذاتيا لنفس الفكر، حيث تكون الفكرة بماهي فكرة علة لفكرة أخرى.

إذن موضوع المنطق الذاتي هو الفكر البشري، وغرض هذا المنطق بيان قوانين التوالد الذاتي لفكرة من فكرة أخرى)) (33)

ولمزيد من الإيضاح: ((يتناول المنطق الذاتي الطريقة الذاتية في تولد المعرفة، فهو يتناول بالبحث الفكر نفسه ولا علاقة له بمتعلق هذا الفكر، أو بتعبير آخر: هو يبحث عن اللزوم الحاصل بين معرفة وأخرى، وكيف أن إحداهما تستلزم الأخرى، دون أن يكون بين موضوعي هاتين المعرفتين لزوم في نفس الأمر والواقع. ولنضرب على ذلك مثالا: فإن الإنسان يرى أنه كلما قرب الورقة إلى النار احترقت، وأنه كلما تناول الدواء الفلاني – الأسبرين مثلا – حصلت لديه حالة معينة، كزوال الصداع، وما يراه الإنسان في هذه الحالة يولد لديه اعتقادا بأن حبة الأسبرين – مثلا – علة لرفع الصداع.

دعونا الآن ننظر إلى المسألة من وجهة نظر المنطق العقلي؛ فالمنطق العقلي لا يرى علة أو لزوما بين تناول الأسبرين وبين ارتفاع الصداع؛ إذ لعل اقتران هاتين الظاهرتين كان صدفة، فيكون اللازم (وهو ارتفاع الصداع) أعم من الملزوم (وهو تناول حبة الأسبرين)، بمعنى أنه قد يكون ناتجا عن كون التناول علة لزوال الصداع، وقد يكون الزوال وقع صدفة. ومع كون اللازم أعم من الملزوم، فلا مجال للإعتقاد باللازم الخاص، وهو العلية بين الأمرين، فيكون الاعتقاد المتولد لدينا اعتقادا باطلا .

هذا كما قلنا من وجهة نظر المنطق العقلي، ولكننا مع ذلك نجد من أنفسنا هذا الاستنتاج على الرغم مما يقوله هذا المنطق. وهذا الاستنتاج في الحقيقة عبارة عن طريقة أخرى في التفكير والتوالد تختلف عن طريقة التوالد الموضوعي التي سبق أن تحدثنا عنها، ونطلق عليها اسم (طريقة التوالد الذاتي)، وذلك باعتبار أنه لا ربط ولا لزوم بين متعلقي الفكرين وموضوعيهما، بل إن الفكرة – بما هي فكرة – استدعت فكرة أخرى .

ومن هنا كان موضوع المنطق الذاتي هو الأفكار نفسها بما هي هي، بخلاف المنطق العقلي البرهاني القائم على التوالد بين الأفكار لا بما هي هي، بل بما هي إنعكاس لموضوعاتها ومتعلقاتها في عالم الواقع)). (34)

 

تنبيه (13): التمييز بين المنطق الذاتي وعلم النفس:

من المؤكد أن المذهب الذاتي حينما يتبنى أن موضوع علم المنطق هو الفكر، فإن هذا سوف يجعل المنطق يتعرض للإدعاء بكونه ليس علما مستقلا قائما برأسه، بل حقه أن يكون فرعا من فروع علم النفس؛ لأنه يتناول ظاهرة من ظواهر هذه النفس – وهي التفكير – ويجعلها موضوعا لدراسته. وفيما يلي بيان الإشكال وجواب المذهب الذاتي عن هذا الإشكال:

الإشكال: ((وحاصل الإشكال: أن علم المنطق يمارس الموضوع الذي يمارسه علم النفس، فهو ليس علما مستقلا، بل هو فرع وشعبة من شعب علم النفس؛ لأن علم النفس يبحث عن النفس البشرية وظواهرها وخصوصياتها، وذلك: إما بالطريقة القديمة، وإما بالطريقة الحديثة القائمة على أساس التجربة والملاحظة. فعلم المنطق إذن يتطفل على علم النفس؛ لأنه يبحث عن قوانين الفكر البشري وكيفية تسلسلها ونشوئها من الأفكار الأخرى عند الإنسان، والفكر ظاهرة من ظواهر النفس البشرية، ولهذا لا ينبغي أن يكون علم المنطق علما قائما برأسه، بل حقه أن يكون فرعا من فروع علم النفس؛ لأنه يتناول ظاهرة من ظواهرهذه النفس – وهي التفكير – ويجعلها موضوعا لدراسته)). (35)

الجواب عن الإشكال: ((وجوابنا عن هذا الإشكال يتضح من خلال التمييز بين المنطق الذاتي وبين الدراسات المتعارفة في علم النفس والتي تتناول الفكر البشري، وإن كان من الممكن اعتبار المنطق الذاتي فرعا من فروع علم النفس باعتبار آخر كما سوف نوضح الآن. وفي مقام التمييز بينهما نقول: إن الإنسان في تفكيره يتأثر بعدة عوامل ومؤثرات، أحدها العقل، وهناك مؤثرات أخرى تساهم مع العقل في تحديد سير التفكير وخطواته، من قبيل العاطفة بمختلف أقسامها، فإن العواطف لها تأثير – ولو غير مباشر – في تحديد سير التفكير بحسب الخارج. ومن هذه العوامل والمؤثرات الإعلام [أو الدعايات] الاجتماعية في عالم الخارج، فإنها تنعكس على مستوى العواطف وتؤثر فيها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العقائد الدينية التي تنعكس على شكل عواطف وتؤثر بشكل غير مباشر.

وما نريد أن نقوله هو أن هناك مؤثرات كثيرة غير العقل تؤثر في سير تفكير الإنسان، وهذا أمر واضح.

وهنا حالتان تختلف أحدهما عن الأخرى: الأولى يتكفل بها علم النفس، اما الثانية فيتكفل بها المنطق الذاتي: فنحن تارة ندرس التفكير الخارجي للإنسان الذي يعيش محكوما لكل هذه العوامل والمؤثرات المتقدمة، والتي قد تؤثر فيه عواطفه، فيشكك في كثير من الأمور المعلومة وبالعكس، فنقيس أفكاره واعتقاداته من خلال الملاحظة والتجربة التي يعتمد عليها العلم الحديث، وهذه وظيفة علم النفس بمعناه الحديث، والإنسان الذي يخضع إلى دراسة من هذا القبيل مع تمام هذه العوامل والمؤثرات التي لا يتحرر من جملة منها في حياته الفكرية يكون موضوعا لعلم النفس .

وتارة أخرى نجرد الإنسان عن كل المؤثرات في التفكير باستثناء العقل، ونفرضه بذلك كالمعصوم الذي لا يخضع تفكيره لأي مؤثر ما عدا عقله، ثم نرى كيف يتسلسل تفكيره، أو نفرضه كالرياضي في تفكيره ؛ فإن الرياضي لا يتأثر بعامل آخر غير عامل العقل في بيانه للعمليات الرياضية .

إذن نحن نتحدث عن مثل هذا الشخص الذي يجرد ذهنه عن كل المؤثرات ما عدا العقل، وهذا الشخص عندما يرى بعقله أن النار متى ما وجدت في الغرفة أصبحت الغرفة حارة، فهل يحصل له القطع بأن النار علة لذلك أم لا؟! وإذا حصل له القطع بذلك، فما هي النكتة في حصول هذا القطع؟! وكيف حصل له ذلك بمجرد رؤيته الحرارة مع النار عدة مرات؟! هذا ما نجيب عنه.

إذن: فالفرق بين المنطق الذاتي وبين علم النفس يكمن في أن علم النفس يتناول في بحوثه العادية الفكر محكوما لتمام العوامل والمؤثرات؛ لأن عملية التجريد لا تنطبق على الواقع الخارجي، وعلم النفس يلجأ إلى التجربة وملاحظة الأفراد في عالم الخارج، شأنه في ذلك شأن سائر العلوم التجريبية. أما المنطق الذاتي فيتناول الفكر مجردا عن كل العوامل والمؤثرات عدا العقل، ثم يبحث في كيفية تولد الفكر من الفكر)). (36)

 

تنبيه (14): تمييز المنطق الذاتي عن المنطق التجريبي:

بالإضافة إلى الاختلاف الأساسي بين المذهب الذاتي والمذهب التجربيي حول المعارف العقلية الأولية، هناك اختلاف أساسي آخر بين المذهبين، فالمذهب الذاتي وفي ضوء إيمانه بالجانب المفهومي يرى أن المذهب التجريبي قد أخطأ في الغض من قيمة الجانب المفهومي من الفئات والاقتصار على الجانب المصداقي، ويرى أن التنازل عن فكرة الجانب المفهومي للفئة ليس عمليا ولا صوابا. (37)

وفي ضوء هذا الفرق بين موقفي المذهب الذاتي والمذهب التجريبي من الجانب المفهومي، يصح أن نقول: ((إن النسبة بين المنطق الذاتي وبين المنطق التجريبي هي النسبة بين البناء والأساس وبين المصداق؛ لأن المنطق الذاتي يتناول بالبحث الأساس الذي يقوم عليه المنطق التجريبي، ويستبعد عن بحثه المصاديق التي يتناولها المنطق المذكور.

ولنأخذ على ذلك مثالا مما يتعرض له المنطق التجريبي:

1 – ففي هذا المنطق يتحدثون عن: (طريقة التكرار)، فيقولون أن (أ) لو اقترنت ب (ب) مائة مرة لكانت (أ) علة ل (ب).

2 – ولديهم طريقة أخرى يسمونها: (طريقة النفي والإثبات): فلو لاحظنا في مائة مرة أنه عند وجود (أ) توجد (ب)، ولاحظناه كذلك مائة مرة أنه عند انعدام (أ) تنعدم (ب)، لكانت (أ) في هذه الحالة علة ل (ب).

3 – وهناك طريقة ثالثة يطلقون عليها اسم: (طريقة الترابط النسبي)، حيث يلاحظون أنه عندما توجد (أ) توجد (ب)، وعندما تشتد (أ) تشتد (ب)، وعندما تضعف (أ) تضعف (ب).

وهذه الأمور في الحقيقة أمور صحيحة ولطيفة، إلا أنها مصاديق للطريقة الذاتية في التفكير وتوالد المعرفة ولا تتعدى ذلك؛ لأن المنطق التجريبي لم يشرح من خلالها سبب كون هذا علة لذاك، وإن حاول بعض الفلاسفة الأوربيين القيام بذلك على نحو الاستقلال، إلا أن المنطق التجريبي بما هو منطق تجريبي لم يعالج هذه الناحية. ومن هنا اعتبرنا أن المنطق الذاتي بمثابة الأساس لذلك المنطق)). (38)

4 – الموقف من حدود المعرفة:

((هل الميتافيزيقيا لغو لا طائل منه؟

الإجابة عن هذا الإستفهام هي المفرق الذي تختلف عنده الإتجاهات في هذه المشكلة.

وقد أجاب المذهب الذاتي بالنفي)). (39)

تنبيه (15): أسلوب متميز للمذهب الذاتي في البحث الميتافيزيقي:

قد لا يكون خفيا أن المذهب الذاتي هو واحد من المذاهب العديدة التي لم ترتض القول بأن الميتافيزيقيا لغو لا طائل منه، ولكن ما تميز به هذا المذهب عن غيره هو الشيء الجديد الذي أتى به، حيث أنه استخدم الدليل الاستقرائي كوسيلة إثبات في أخطر قضايا الميتافيزيقيا (وجود الله)، ودلّل على أن الدليل الاستقرائي الذي يمثل المبرر المنطقي لكل قضايا العلوم، يثبت وجود الله بنفس الطريقة التي يثبت بها تلك القضايا. (40)

 

5 – الموقف من مفهوم السببية:

((من شاء دراسة طبيعة المنطلقات الفكرية التي ارتكز عليها المفكرون من فلاسفة ومتكلمين وغيرهم لبناء عالمهم الذهني بمقولاته ومن ثم الديني بمسلماته، وجب عليه البحث في موقف كل منهم من مفهوم السببية حسية كانت أم إلهية؛ ذلك أن الموقف إزاء مثل هذا الموضوع هو الذي يحدد لنا منهجية كل من هؤلاء في نظرته إلى العالم، ويمكننا من الإطلاع على عقليتهم في فهم بناء الكون ومعالمه التي تجمع عادة ضمن هذا المثلث المترامي الأطراف المتحد الزوايا وهي: الله، الإنسان، العالم، فهذه العلاقة الثلاثية لا تتحدد طبيعتها ولا تثبت آماد وقوى كل قطب منها إلا من خلال مفهوم السببية، فهو الذي يجعلنا نعي مدى إسهام كل من الحس والعقل في إدراك الأشياء والموجودات في علائقها)). (41)

وفي ضوء ما تقدم يتضح: إننا إذا أردنا أن نتبين أهم ما يمتاز به المذهب الذاتي عن غيره لا بد أن نتبين الموقف المتميز للمذهب الذاتي من مفهوم السببية .

 

تنبيه (16): موقف متميز ومتجدد للمذهب الذاتي من مفهوم السببية:

للمذهب الذاتي موقف متميز من مفهوم السببية، ولكننا نظرا لعدم قدرة هذه المقالة على استيعاب التحليل المفصل والمطول لمفهوم السببية في ضوء المذهب الذاتي، سوف نضطر – مع الاعتذار – لعرضه بشكل موجز وبلغة اختصاصية، إلا أننا سوف لن نغفل عن إرشاد القاريء الكريم إلى المصادر التي تمكنه من فهم ما قد يصعب عليه فهمه هنا (42)، وفيما يلي من النقاط موقف المذهب الذاتي – باختصار – من مفهوم السببية:

أولا: على الرغم من أن المذهب الذاتي – في الأسس المنطقية للاستقراء – لم يرفض المصدر العقلي القبلي لقضايا السببية العقلية، لكنه ذهب إلى أن الاستقراء ليس بحاجة إلى مثل هذه القضايا كمصادرات، باعتبار أن الاستقراء قادر بنفسه على إنتاج هذه القضايا.

ثانيا: ولكن المذهب الذاتي – في ما بعد الأسس المنطقية للاستقراء – على الرغم من:

أ – إيمانه بأن التعميم الإستقرائي متضمن في السببية بمفهومها العام بدلا من إيمانه – في الأسس – بأنه متضمن في السببية العقلية.

ب – أن الاستقراء قادر على إنتاج السببية بمفهومها العام – التفسير المشترك - مما يعني أن الاستقراء ليس بحاجة إلى افتراض هذه السببية سلفا.

آمن بحاجة الاستقراء إلى افتراض السببية العقلية؛ لضمان سلامته.

وبعبارة أخرى: إن المذهب الذاتي – في الأسس – اعتقد أن الاستقراء لا يرتبط بالسببية العقلية إلا من جهة حاجة الاستقراء إلى هذه السببية لإثبات التعميم؛ باعتبار أن التعميم الاستقرائي متضمن في هذه السببية، ولكن هذا الموقف كان معرضا لبعض الملاحظات؛ باعتبار أن الاستقراء لا يمكنه الإستغناء عن السببية العقلية وإلا فقد مشروعيته – إذ كيف يمكن دفع إشكال وجود التعميم الاستقرائي نتيجة الصدفة المطلقة – وأما في ما بعد الأسس فإن المذهب الذاتي اعتقد أن الاستقراء يرتبط بالسببية من جهتين، إلا أن تحديد مفهوم السببية التي يرتبط بها الاستقراء يختلف باختلاف الجهة التي تربطه بها. فإما من جهة حاجة الاستقراء للمشروعية فإنه يرتبط بالسببية العقلية، وأما من جهة حاجة الاستقراء لإثبات التعميم، فإنه يرتبط بالسببية بمفهومها العام – التفسير المشترك – باعتبار أن التعميم متضمن في هذه السببية.

ثالثا – لقد اعتقد المذهب الذاتي في الأسس- كما تقدم – بقدرة الاستقراء على إنتاج السببية العقلية، ولكنه في ما بعد الأسس نفى ذلك؛ باعتبار أن الاستقراء إنما له القدرة على نفي احتمال الصدفة وإثبات السببية، ولكنه غير قادر على تحديد نوع العلاقة السببية التي ترتبط بها الظواهر الملاحظ اقترانها باستمرار، فما يمكن للاستقراء إثباته هو السببية بمفهومها العام – التفسير المشترك – بين الظواهر التي يقترن بعضها بالبعض الآخر باستمرار، وهذه السببية بمفهومها العام قابلة لأن تصاغ بأي نوع من أنواع السببية، ولكن ترجيح نوع على آخر خارج نطاق الاستقراء وموكول إلى البحث الفلسفي.

رابعا – يمكننا أن نقول: أن موقف المذهب الذاتي من السببية في ضوء (ما بعد الأسس المنطقية) قد تجاوز الاعتراضات التي كان من الممكن توجيهها إليه فيما لو بقي محافظا على موقفه في (الأسس). ثم أنه جعل من أطروحة المذهب الذاتي على كلا الصعيدين الفلسفي والمنطقي أكثر اتساقا .

 

رضا حسن الغرابي

......................

الهوامش:

1 – الأسس المنطقية للاستقراء، آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره، ص160، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر – قسم: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، الطبعة الأولى، 1424 ه .

2 – المصدر السابق، ص470 – 536.

لاحظ أيضا: في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد محمد باقر الصدر قدس سره، السيد رضا حسن الغرابي، ج1، ص476-485، دار الكتب العلمية، بغداد، الطبعة الأولى، 1432ه – 2011م.

3 – تطورات في الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر في (ما بعد الأسس المنطقية)، السيد رضا حسن الغرابي، ص97 – 101، مطبعة الشروق، النجف الأشرف، الطبعة الأولى، 1430ه – 2009م.

4 – لاحظ مقالة: المهمل والمجهول في فكر الشهيد الصدر، يحيى محمد، مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العدد 11 – 12: 160، ولاحظ أيضا مقالة: علم الكلام المعاصر قراءة منهجية في التجربة الكلامية للشهيد الصدر، الشيخ حيدر حب الله، الموقع الرسمي للشيخ حيدر حب الله.

5 – الأسس المنطقية للاستقراء، ص515 - 517 تحت عنوان (صياغتان لتبرير الشك في القضية المحسوسة)، ص517 تحت عنوان (القضية المحسوسة مستدلة كالقضية التجريبية)، ص527 - 528 تحت عنوان (معرفتنا بالواقع الموضوعي للعالم استقرائية).

6 – في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد محمد باقر الصدر قدس سره، ج3: ص288 – 312

7 – الأسس المنطقية للاستقراء، ص569

8 – المصدر السابق، ص572 .

9 – المصدر السابق، ص541 .

10 – المصدر السابق، ص551 .

11 – المصدر السابق، ص541-542 .

12 – المصدر السابق، ص542 .

13 – المصدر السابق، ص542-543 .

14 – فلسفتنا، السيد محمد باقر الصدر، ص61 – 62، دار التعارف، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية، 1419ه – 1998م.

15 – محاضرات تأسيسية، السيد محمد باقر الصدر قدس سره، ص65، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر – قسم: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، الطبعة الأولى، 1434ه.

16 – الأسس المنطقية للاستقراء، ص113 .

17 – محاضرات تأسيسية، ص68-72 .

18 – المصدر السابق، ص66-68 .

19 – الأسس المنطقية للاستقراء، ص397-398 .

20- المرسل والرسول والرسالة، السيد محمد باقر الصدر، ص8، دار الكتاب الاسلامي، الطبعة الأولى، 1424ه – 2004م.

21 – الأسس المنطقية للاستقراء، ص41-42 .

22 – المصدر السابق، ص302-303 .

23 – المصدر السابق، ص351 .

24 – نظرية المعرفة بين الشهيدين مطهري والصدر، السيد عمار أبو رغيف ص50-51، مركز رعاية الدراسات الجادة.

25 – محاضرات تأسيسية، ص65-66 .

26 – الأسس المنطقية للاستقراء، ص160-168 .

27 – المصدر السابق، المقدمة .

28 – المصدر السابق، 409-410 .

29 – المصدر السابق، ص168 .

30 – المصدر السابق،ص160 .

31 – المصدر السابق، ص171 .

32- المصدر السابق، ص409 .

33 – محاضرات تأسيسية، ص42-44 .

34 – المصدر السابق، ص50-51 .

35 – المصدر السابق، ص41 .

36- المصدر السابق، ص44-45 .

37 – الأسس المنطقية للإستقراء، ص398 .

38 – محاضرات تأسيسية، ص52-53 .

39 – نظرية المعرفة بين الشهيدين مطهري والصدر، ص35 .

40 – المصدر السابق، ص54-55.

41 – المذهب الذاتي في نظرية المعرفة، السيد كمال الحيدري،ص255، دار فراقد، الطبعة الثانية، 1426ه – 2005م.

42 – لاحظ: تطورات في الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر في (ما بعد الأسس المنطقية) و ولاحظ أيضا:الاستقراء في ضوء الشهيدين الصدر ومطهري، السيد رضا حسن الغرابي، ص18-35، دار الكتاب العربي، بغداد، الطبعة الأولى.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم