صحيفة المثقف

فلسفة المصادفة عند السيد محمد باقر الصدر

الهدف من هذه المقالة هو أن نبين المراحل المختلفة لتطور مفهوم (الصدفة) والبحوث المرتبطة بهذا المفهوم في فكر الشهيد الصدر.

يمكننا أن نقول وبثقة: أن لمفهوم (الصدفة) عند الشهيد الصدر اكثر من معنى، وهذه المعاني تختلف فيما بينها باختلاف التطورات التي طرأت على فكر الشهيد الصدر في مراحله المختلفة، وفيما يلي عرض لمعنى مفهوم (الصدفة) عند الشهيد الصدر في ضوء المراحل التي مر بها هذا الفكر المبدع:

 

أولا – المرحلة الأولى:

وهي المرحلة التي كان فيها الشهيد الصدر فيلسوفا أرسطيا، وقد تجسدت تلك المرحلة بوضوح في كتابه الشهير (فلسفتنا) . وفي هذه المرحلة كان الشهيد الصدر – كما الأرسطيين – يرفض الصدفة والاتفاق؛ لأنه يؤمن بشكل قبلي بمبدأ العلية، فالعقل في ضوء الشهيد الصدر يرفض الصدفة والاتفاق، وهذا المعنى قد أكده الشهيد الصدر بشكل واضح في ما كتبه في (فلسفتنا) تحت عنوان (مبدأ العلية)، حيث كتب هناك ما نصه:

((إن من أوليات ما يدركه البشر في حالته الاعتيادية، مبدأ العلية القائل: إن لكل شيء سببا، وهو من المباديء العقلية الضرورية، لأن الإنسان يجد في صميم طبيعته، الباعث الذي يبعثه إلى محاولة تعليل ما يجد من أشياء وتبرير وجودها، وباستكشاف أسبابها، وهذا الباعث موجود بصورة فطرية في الطبيعة الإنسانية، بل يوجد عند عدة أنواع من الحيوان أيضا. فهو يلتفت إلى مصدر الحركة غريزيا ليعرف سببها، ويفحص عن منشأ الصوت ليدرك علته. وهكذا يواجه الإنسان دائما سؤال: لماذا --- ؟ مقابل كل وجود وظاهرة يحس بهما، حتى أنه إذا لم يجد سببا معينا، اعتقد بوجود سبب مجهول انبثق منه الحادث )). . (1)

وفي ضوء ما تقدم نجد أن من الطبيعي أن يعتقد الشهيد الصدر: أن إنكار العلية والإيمان بالصدفة يعني العجز عن تفسير كل النظريات والقوانين العلمية المستندة إلى التجربة، فقد كتب – قدس سره – في (فلسفتنا) تحت عنوان (العلية والنظريات العلمية) ما نصه: ((إن النظريات العلمية في مختلف ميادين التجربة والمشاهدة تتوقف بصورة عامة على مبدأ العلية وقوانينها توقفا أساسيا، وإذا سقطت العلية ونظامها الخاص من حساب الكون يصبح من المتعذر تماما تكوين نظرية علمية في أي حقل من الحقول. وليتضح هذا نجد من الضروري أن نشير إلى عدة قوانين من المجموعة الفلسفية التي يرتكز عليها العلم، وهي كما يلي:

أ – مبدأ العلية القائل: أن لكل حادثة سببا.

ب – قانون الحتمية القائل: أن كل سبب يولد النتيجة الطبيعية له بصورة ضرورية، ولا يمكن للنتائج أن تنفصل عن أسبابها.

ج – قانون التناسب بين الأسباب والنتائج، القائل: أن كل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة، يلزم أن تتفق أيضا في الأسباب والنتائج.

فعلى ضوء مبدأ العلية – مثلا – نعرف ----- ومن الواضح أن القانونين الأخيرين الحتمية والتناسب، منبثقان عن مبدأ العلية ---- وفي ضوء ما تقدم من نتائج يصبح من الطبيعي أن يرفض الشهيد الصدر بشدة الحملات التي شنت في الميكروفيزياء ضد قانون الحتمية، وبالتالي ضد مبدأ العلية بالذات، فقد رأى الشهيد الصدر أن جميع الشكوك والارتيابات العلمية التي أثارها العلماء في الميكروفيزياء حول العلية، ترتكز على فهم خاص لمبدأ العلية وقوانيها لا يعبر عن الفهم الحقيقي لهذا المبدأ وقوانينه، بالإضافة إلى قصور التجربة والمشاهدة العلميتين – في الميكروفيزياء –: إما عن ضبط الموضوع الملاحظ بجميع شروطه وظروفه المادية، وإما عن قياس التأثير الذي توجده التجربة نفسها فيه قياسا دقيقا. وكل هذا يقرر عدم إمكان الإطلاع على النظام الحتمي، الذي يتحكم في الجسيمات وحركاتها – مثلا – وعدم إمكان التنبؤ مضبوطا. ولا يبرهن ذلك على حريتها، ولا يبرر إدخال اللاحتمية إلى مجال المادة، وإسقاط قوانين العلية من حساب الكون)) . (2)

 

تنبيه:

الملفت للنظر في هذه المرحلة هو: أنه وعلى الرغم من أن الشهيد الصدر في هذه المرحلة كان فيلسوفا أرسطيا إلا أنه في تفسيره لكيفية سير الذهن من الجزئي إلى الكلي لم يدخل في الموقف – كما هو واضح مما تقدم – المبدأ العقلي القبلي الذي ينفي تكرر الصدفة على خط طويل، أي أنه لم يفترض قضية (الاتفاق لا يكون أكثريا) كأصل من الأصول العقلية الكلية التي تشترك في الأحكام التجريبية. وفي ضوء هذا نجد أن الشهيد الصدر ليس كبقية رجال المنطق الأرسطي الذين يؤمنون بإمكان التوصل إلى التعميم والانتقال من الجزئي إلى الكلي، ولكن لا دائما، بل فيما إذا أمكن تطبيق المبدأ العقلي القبلي الذي ينفي تكرر الصدفة على خط طويل، إذ يتالف عندئذ قياس منطقي كامل يستمد صغراه من الأمثلة والشواهد وكبراه من ذلك المبدأ العقلي.

قال ابن سينا: ((ولقائل أن يقول: ما بال التجربة تفيد الإنسان علما بأن (السقمونيا) تسهل الصفراء، على وجه يخالف في إفادته إفادة الاستقراء، فإن الاستقراء إما أن يكون مستوفي الأقسام وإما أن لا يوقع غير الظن الأغلب، والتجربة ليست كذلك --- فنقول في جواب ذلك: إن التجربة ليست تفيد العلم لكثرة ما يشاهد على ذلك الحكم فقط، بل لاقتران قياس به قد ذكرناه)) .

إن ابن سينا يشير بكلامه هذا إلى كلام سابق يشرح فيه كيف يقوم العلم والبرهان على أساس التجربة، إذ يقول: ((أنه لما تحقق أن (السقمونيا) يعرض له إسهال الصفراء، وتبين ذلك على سبيل التكرار الكثير، علم أن ذلك ليس اتفاقا، فإن الاتفاق لا يكون دائما ولا أكثريا)) .

والخلاصة: إنّ الشهيد الصدر قد تبنى في هذه المرحلة المفهوم الأرسطي عن (الصدفة والاتفاق)، إلا أنه لم يتفق مع الأرسطيين في افتراض قضية (الاتفاق لا يكون أكثريا) كأصل من الأصول العقلية الكلية التي تشترك في الأحكام التجريبية.

 

ثانيا – المرحلة الثانية:

وهي المرحلة التي كان فيها الشهيد الصدر مبدعا وصاحب مدرسة، وقد تجسدت تلك المرحلة بوضوح في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء)، فقد صرح فيه بوضوح عن تأسيسه لمذهب ثالث في نظرية المعرفة يقع في قبالة المذهب العقلي والمذهب التجريبي وقد أطلق عليه اسم (المذهب الذاتي في نظرية المعرفة).

وفي ما يلي من النقاط سوف نبين المفهوم الذي تبناه الشهيد الصدر عن الاتفاق في هذه المرحلة:

النقطة الأولى: لقد اكتفى الشهيد الصدر في المرحلة الأولى بتأييد المنطق الأرسطي في رفض الصدفة والاتفاق دون أن يقدم تحليلا مفصلا لهذا المفهوم، ولكنه في المرحلة الثانية قام بتحليل مفصل وعميق لهذا المفهوم، كما سيتضح فيما سيأتي من النقاط.

النقطة الثانية: سيتضح مما سيأتي أنه وعلى الرغم من التطور الكبير والاستقلال التام الذي تميز به فكر الشهيد الصدر في هذه المرحلة، إلا أنه ظل متبنيا للمفهوم الأرسطي عن (الصدفة)، فقد أكد الشهيد الصدر على أن معنى الاتفاق الذي بينه في القسم الأول من بحوث كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) تحت عنوان (معنى الاتفاق في المبدأ الأرسطي) هو المعنى الذي يتبناه عن الاتفاق.

يقول الشهيد الصدر: ((وأما المفهوم التجريبي للسببية فهو لا يعترف بعلاقة السببية، إلا بوصفها اطرادا في التتابع أو الاقتران بحادثتين، دون أن يضيف إلى هذا التتابع أو الاقتران أي فكرة عن الإيجاد والضرورة واللزوم. ومن الواضح أن رفض فكرة الضرورة واللزوم نهائيا يؤدي إلى أن وجود أي حادثة يعتبر صدفة مطلقة دائما (لأن الصدفة هي نقطة في مقابل اللزوم – كما عرفنا في القسم الأول من بحوث هذا الكتاب –)، وأن أي حادثة توجد عقيب حادثة أخرى فوجودها عقيبها صدفة ولا يعبر عن أي لزوم، فالغليان عقيب الحرارة والحرارة عقيب الحركة صدفة، كما أن نزول المطر عقيب صلاتك صدفة. والفارق بين الصدفتين: أن الأولى تتكرر على سبيل الصدفة بصورة مطردة، وأن الثانية لا توجد إلا أحيانا)). (4)

النقطة الثالثة: وفي ما يلي تحليل الشهيد الصدر لمفهوم الصدفة في ضوء وجهة النظر الأرسطية التي يتفق معها :

كتب الشهيد الصدر في القسم الأول من كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء)، تحت عنوان (معنى الاتفاق في المبدأ الأرسطي) ما نصه:

((وقبل كل شيء يجب أن نعرف المعنى الذي يقصده المنطق الأرسطي من كلمة (الاتفاق) في المبدأ الذي وضعه أساسا للاستقراء والذي يقول: إن الاتفاق لا يكون دائميا ولا أكثريا.

إن الاتفاق بمعنى (الصدفة)، والصدفة تعتبر نقطة في مقابل اللزوم، فإذا استطعنا أن نفهم معنى اللزوم أمكننا أن نحدد معنى الصدفة، بوصفه المفهوم المقابل للزوم والنقيض له.

واللزوم على نحوين: اللزوم المنطقي، واللزوم الواقعي.

واللزوم المنطقي: لون من الارتباط بين قضيتين أو مجموعتين من القضايا، يجعل أي افتراض للإنفكاك بينهما يستبطن تناقضا، كاللزوم المنطقي القائم بين مصادرات هندسة إقليدس ونظرياتها، نتيجة لاستبطان التفكيك بين هذه النظريات وتلك المصادرات للتناقض.

واللزوم الواقعي: عبارة عن علاقة السببية القائمة بين شيئين، كالنار والحرارة، أو الحرارة والغليان، أو استعمال الأفيون والموت. وهذه السببية لا تستبطن أي لزوم منطقي بالمعنى المتقدم؛ لأن افتراض أن النار ليست حارة، أو أن الحرارة لا تؤدي إلى الغليان لا يستبطن بذاته تناقضا.

فهناك – مثلا – فرق كبير بين افتراض أن المثلث ليس له ثلاثة أضلاع، وافتراض أن الحرارة لا تؤدي إلى غليان الماء، فإن الافتراض الأول يستبطن داخل بنائه الذهني تناقضا منطقيا، بينما لا يوجد أي تناقض منطقي داخل الافتراض الثاني؛ لأنه افتراض لا يناقض نفسه، وإنما يناقض الواقع الموضوعي للحرارة، ولهذا كان اللزوم بين المثلث والأضلاع الثلاثة منطقيا، وكان اللزوم بين الحرارة والغليان واقعيا فحسب لا منطقيا .

و (الصدفة) تعبير عن المفهوم المقابل للزوم، فإذا قيل عن شيء أنه (صدفة) كان معنى ذلك: عدم كونه لازما لزوما منطقيا أو واقعيا.

والصدفة قسمان: صدفة مطلقة، وصدفة نسبية.

فالصدفة المطلقة: هي أن يوجد شيء بدون سبب إطلاقا، كغليان الماء إذا حصل دون سبب.

والصدفة النسبية: هي أن توجد حادثة معينة نتيجة لتوفر سببها، ويتفق اقترانها بحادثة أخرى صدفة، كما إذا تعرض ماء معين لحرارة بدرجة مائة فحدث فيه الغليان، وتعرض ماء آخر في نفس الوقت لانخفاض في درجة الحرارة إلى الصفر فحدث فيه الإنجماد في نفس اللحظة التي بدأ فيها غليان الماء الأول.

ففي هذا المثال يعتبر اقتران انجماد هذا الماء وغليان ذلك الماء ووجودهما معا في لحظة واحدة صدفة. والصدفة هنا نسبية لا مطلقة؛ لأن كلا من الغليان والإنجماد وجد نتيجة لسبب خاص لا صدفة، وإنما تتمثل الصدفة في اقترانهما، إذ ليس من اللازم أن يقترن انجماد ماء بغليان ماء آخر، فإذا اقترن أحدهما بالآخر كان ذلك صدفة.

وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن الصدفة المطلقة: هي أن توجد حادثة بدون أي لزوم منطقي أو واقعي، أي بدون سبب. والصدفة النسبية: هي أن تقترن حادثتان بدون أي لزوم منطقي أو واقعي لهذا الاقتران، أي بدون رابطة سببية تحتم اقتران إحداهما بالأخرى.

والصدفة المطلقة مستحيلة من وجهة النظر الفلسفية الأرسطية، أو أي وجهة نظر أخرى تؤمن بمبدأ السببية بوصفه مبدأ عقليا قبليا؛ لأن الصدفة المطلقة تتعارض مع مبدأ السببية، فمن الطبيعي لكل من يؤمن بمبدأ السببية أن يرفض الصدفة المطلقة.

ومبدأ السببية هذا – برفضه للصدفة المطلقة – يشكل في الاتجاه الأرسطي واتجاه الفلسفة العقلية عموما، القضية العقلية القبلية التي تعالج المشكلة الأولى من المشاكل الثلاث التي يواجهها الدليل الاستقرائي. كما أن القضية التي يعالج الاتجاه الأرسطي بها المشكلة الثالثة من تلك المشاكل مستنبط من مبدأ السببية .

وأما الصدفة النسبية فليس فيها استحالة من وجهة نظر فلسفية ؛ لأنها لا تتعارض مع مبدأ السببية، فإن الاقتران بين انجماد ماء وغليان ماء آخر صدفة لا ينفي نشوء كل من الإنجماد والغليان عن سبب خاص، هو انخفاض درجة الحرارة إلى الصفر في الأول، وارتفاعها إلى مائة في الثاني. فهناك في هذا المثال ثلاث اقترانات، واحد منها تتمثل فيه الصدفة النسبية، وهو اقتران انجماد الماء بغليان الماء الآخر، واثنتان منها لا يعبران عن صدفة؛ لأنهما يقومان على أساس رابطة السببية، وهما اقتران الإنجماد بانخفاض الحرارة من ناحية، واقتران الغليان بارتفاعها من ناحية أخرى.

وهكذا نعرف أن الاقتران بين حادثتين قد يكون مجرد صدفة، ونطلق عليها اسم الصدفة النسبية، وقد يكون ناتجا عن رابطة سببية بين الحادثتين.

وهناك فارق ملحوظ – في تجاربنا جميعا – بين هذين القسمين من الاقتران، فالاقتران الناتج عن رابطة سببية مطرد دائما، فمتى حدث انخفاض في درجة الحرارة إلى الصفر اقترن ذلك بالانجماد، ومتى حصل برق وجد صوت الرعد، وأما الاقتران الذي يتمثل في الصدفة النسبية فإنه قد يحدث ولكنه لا يطرد ولا يتكرر باستمرار، فأنت قد يتفق لك أن تجد صديقك أحيانا حين تفتح الباب وتهم بالخروج من بيتك، ولكن هذا لا يطرد في كل مرة تفتح فيها الباب وتخرج من البيت على سبيل الصدفة، ولو اطرد ذلك لاستطعت أن تستنتج أن رؤيتك لصديقك كلما فتحت الباب ليس صدفة، بل نتيجة لحرص صديقك على أن يفاجئك دائما بنفسه في كل مرة تحاول فيها الخروج.

والمنطق الأرسطي ينطلق من هذه النقطة، فيقدم لنا المبدأ التالي: (إن الاتفاق لا يكون أكثريا)، بوصفه مبدأ عقليا قبليا، وهو يريد بالاتفاق الصدفة النسبية، ويقصد بهذا المبدأ التأكيد على أن الصدفة النسبية لا تتكرر باستمرار ويستهدف من وراء ذلك إلى استنتاج رابطة سببية بين كل ظاهرتين يتكرر اقترانهما باستمرار خلال الاستقراء؛ لأن اقترانهما لو كان مجرد صدفة نسبية لما تكرر باستمرار، لأن الصدفة النسبية لا تتكرر باستمرار بصورة متماثلة، فقد يتفق مرة أن تقترن الألف بالباء صدفة، وفي مرة ثانية وثالثة قد تقترن الألف بالباء صدفة أيضا، ولكن ليس من الممكن أن تقترن الألف بالباء في جميع المرات؛ لأن الصدف النسبية المتماثلة لا يمكن أن تتتابع.

ويريد المنطق الأرسطي – بالتأكيد على أن هذا المبدأ عقلي قبلي – وضع أساس منطقي للدليل الاستقرائي وربطه بالمعرفة العقلية المنفصلة عن التجربة بوصفه استنتاجا منطقيا قياسيا من تلك المعرفة)) . (5)

النقطة الرابعة: على الرغم من أن الشهيد الصدر – في هذه المرحلة – يتفق مع المنطق الأرسطي في (أن الصدفة تعتبر نقطة في مقابل اللزوم) وفي (استحالة الصدفة المطلقة) وفي (عدم وجود استحالة في الصدفة النسبية)، إلا أنه في هذه المرحلة – ليس كما هو في المرحلة الأولى – يعلن بكل صراحة ووضوح اختلافه مع المنطق الأرسطي حول قضية (الاتفاق لا يكون أكثريا) من جهتين:

الجهة الأولى: لقد ذكرنا فيما تقدم أن الشهيد الصدر في المرحلة الأولى لم يفترض المبدأ الأرسطي (الاتفاق لا يكون أكثريا) كأصل من الأصول العقلية الكلية التي تشترك في الأحكام التجريبية. وقد نبهنا إلى ان هذا الموقف يمثل نقطة خلاف بينه وبين المنطق الأرسطي وإن لم يصرح بذلك. ولكنه – قدس سره – في المرحلة الثانية قد صرح بما لايقبل الشك في أن الاستدلال الاستقرائي ليس بحاجة إلى افتراض مبدأ (الاتفاق لا يكون أكثريا) كمصادرة.

يقول الشهيد الصدر: ((وكل ما تقدم من مناقشة للمنطق الأرسطي حتى الآن كان يرتبط بواحدة من تلك القضايا الثلاث، أي بالقضية التي تقول: إن الصدفة النسبية لا تتكرر على خط طويل وقد استطعنا أن نعرف أن هذه القضية ليست عقلية قبلية، وبذلك لا تصلح أن تكون إحدى تلك المصادرات الثلاث التي يفتش عنها المنطق الأرسطي لدعم الدليل الاستقرائي.

وفي رأيي أن المنطق الأرسطي لم يخطيء فقط في الاعتقاد بطابع عقلي قبلي لقضية ليست من القضايا العقلية القبلية، بل أخطأ أيضا في الاعتقاد بحاجة الدليل الاستقرائي إلى مصادرات قبلية أيضا)) . (6)

الجهة الثانية: يختلف الشهيد الصدر بشكل جوهري مع المنطق الأرسطي حول أولية قضية (الاتفاق لا يكون أكثريا)، فهو يؤكد على ان المنطق الأرسطي قد أخطأ في تقييمه لهذه القضية .

كتب الشهيد الصدر في (الأسس المنطقية للاستقراء) تحت عنوان (النقطة الجوهرية في الخلاف) ما نصه: ((وهنا تكمن النقطة الجوهرية في خلافنا مع المنطق الأرسطي؛ لأننا نرى أن المبدأ الذي ينفي تكرر الصدفة النسبية باستمرار ليس معرفة عقلية قبلية، بل هو – إذا قبلناه – ليس على أفضل تقدير إلا نتاج استقراء للطبيعة، كشف عن عدم تكرر الصدفة النسبية فيها على خط طويل، وإذا كان هذا المبدأ بنفسه معطى استقرائيا فلا يمكن أن يكون هو الأساس للاستدلال الاستقرائي، بل يتوجب عندئذ الاعتراف بأن الأمثلة التي يعرضها الاستقراء كافية للاستدلال على قضية كلية وتعميم استقرائي، دون حاجة إلى إضافة ذلك المبدأ الأرسطي إليهـا))(7)

النقطة الخامسة: لم يكتف الشهيد الصدر بتأكيد اختلافه مع المنطق الأرسطي حول أولية قضية (الاتفاق لا يكون أكثريا) وبالإشارة إلى أن المنطق الأرسطي لم يقم أي دليل على هذا المبدأ؛ مكتفيا باعتباره من المعارف العقلية الأولية التي لا تحتاج – بطبيعتها – إلى دليل، ولا يمكن لأحد أن يبرهن عليها، بل أنه حاول أن يقدم دليلين لتدعيم رؤيته، وفيما يلي عرض سريع لهذين الدليلين:

الدليل الأول: يمكننا أن نبين هذا الدليل بالشكل التالي:

أ – يرى الشهيد الصدر أن المنطق الأرسطي قد توهم حينما اعتقد بأن لدينا علما عقليا قبليا بان (الاتفاق لا يكون أكثريا)، وعلى الرغم من أنه لا ينكر صحة هذا المبدأ من الأساس، بل يؤمن بصحته، إلا أنه لا يؤمن به إلا وفق شرطين أساسيين:

الشرط الأول: أن الشهيد الصدر يؤمن بهذا المبدأ على أساس أنه مبدأ مستنتج استقرائيا، ولا يؤمن به على أساس أنه مبدأ عقلي قبلي، كما هو واضح مما تقدم.

الشرط الثاني: إنه لا بد من إعادة صياغة المبدأ الأرسطي بشكل مختلف عن الصياغة التي طرحها المنطق الأرسطي لهذا المبدأ، فالشهيد الصدر يرى أن الصياغة الأرسطية لهذا المبدأ لم تكشف عن المحتوى الحقيقي لهذا المبدأ، ولذلك انصرف الشهيد الصدر – كما سيأتي – إلى الكشف عن حقيقة هذا المبدأ من خلال إصلاحه جذريا، وإعادة صياغته، وقد أطلق الشهيد الصدر على الصياغة الجديدة لهذا المبدأ اسم (قاعدة عدم التماثل) .(8)

ب – ولكي نثبت – بحسب الشهيد الصدر – أن المنطق الأرسطي قد أخطأ في الاعتقاد بالطابع العقلي لهذا المبدأ، وقد أخطأ في طريقة صياغته له نقول:

على افتراض أننا قبلنا المبدأ الأرسطي وفق الصياغة الأرسطية لهذا المبدأ، فإن هذا يعني – بحسب الشهيد الصدر – اننا بحاجة إلى أن نضع هذا المبدأ في صيغة محددة (9)، وهذا المعنى قد حاول الشهيد الصدر أن يثبته بشكل مفصل في (الأسس المنطقية للاستقراء) تحت عنوان (حاجة المبدأ إلى صياغة محددة). وخلاصة ما توصل إليه هناك ما عبر عنه بالقول التالي: ((وهكذا لا بد للمنطق الأرسطي أن يضع مبدأه في صيغة محددة، من قبيل أن يقول: أن الصدفة النسبية لا تتكرر خلال عملية الاستقراء في عشر تجارب باستمرار، أو في مائة، أو في أي عدد آخر يحدد، أكبر من ذلك أو أصغر)) . (10)

ج – إن قبولنا للمبدأ الأرسطي بصياغته الأرسطية المحددة يعني – بحسب الشهيد الصدر – أننا نرى أن هذا المبدأ يشكل علما إجماليا، لأنه علم بنفي غير محدد.

يقول الشهيد الصدر: ((عرفنا أن المبدأ الأرسطي المتقدم للاستقراء ينفي تكرر الصدفة النسبية في عدد معقول من التجارب والمشاهدات خلال الاستقراء، ولنفرض الآن – تيسيرا للتعبير – أن هذا العدد هو (عشرة)، فعلى أساس هذا الافتراض يعني المبدأ الأرسطي: أن (ألف) و (باء) إذا لم تكن بينهما رابطة سببية، وواجهنا الألف عشر مرات، فإن الباء سوف لا توجد في مرة واحدة – على الأقل – من هذه المرات؛ لأنها لو وجدت واقترنت بالألف فيها جميعا لكان معنى ذلك تكرر الصدفة النسبية في عشر تجارب، وهذا ما ينفيه المبدأ الأرسطي.

والمبدأ الأرسطي إذ يخبرنا بأن الظاهرتين اللتين لا ترتبط إحداهما بالأخرى برباط السببية سوف لن تقترنا في تجربة واحدة على الأقل من التجارب العشر، لا يعين لنا هذه التجربة التي لا تقترن فيها الظاهرتان، فقد تكون الأولى، أو الرابعة، أو أي تجربة أخرى من العشرة، وبذلك يكون المبدأ الأرسطي علما بنفي غير محدد، ونطلق على العلم بنفي غير محدد، وعلى أي علم بشيء غير محدد بالضبط اسم (العلم الإجمالي)، ونطلق على العلم بالنفي المحدد، وعلى أي علم بشيء محدد بالضبط اسم (العلم التفصيلي).

وعلى هذا الأساس يمكن أن نعتبر المبدأ الأرسطي تعبيرا عن علم إجمالي بالنفي)) . (11)

د – يعتقد الشهيد الصدر أن هناك نوعين من العلم الإجمالي لا ثالث لهما فـ: ((نحن إذا درسنا الظروف التي ينشأ فيها العلم الإجمالي، نجد أن هذا العلم يتولد في حالتين: ---- ونطلق على العلم بنفي غير محدد في الحالة الأولى اسم (العلم الإجمالي على أساس التمانع) وعلى العلم بنفي غير محدد في الحالة الثانية اسم (العلم الإجمالي على أساس التشابه والإشتباه) )) . (12)

هـ - في ضوء ما تقدم حاول الشهيد الصدر أن يثبت أن المنطق الأرسطي قد توهم حينما اعتقد بأن لدينا علما عقليا قبليا أوليا بـ (أن الاتفاق لا يكون أكثريا)، وتوضيح ذلك فيما يلي:

لقد تساءل الشهيد الصدر: إذا كان المبدأ الأرسطي علما إجماليا – كما تقدم – فهل هو علم إجمالي قائم على أساس التضاد والتمانع، أم أنه علم إجمالي قائم على أساس التشابه أو الاشتباه ؟ ولقد انتهى الشهيد الصدر من خلال هذا التساؤل إلى أن يكشف عن عدم وجود علم إجمالي بـ (أن الصدفة لا تتكرر على خط طويل) لدينا، فلو كان لدينا حقا علم إجمالي بذلك، لكان ذلك العلم الإجمالي: إما علم إجمالي قائم على أساس التضاد والتمانع، وإما علم إجمالي قائم على أساس التشابه والاشتباه، باعتبار أن كل علم إجمالي – بحسب الشهيد الصدر – لا يخرج عن هذين النوعين، ولما كان العلم الإجمالي الأرسطي بعدم تكرر الصدفة النسبية على خط طويل لا ينتمي إلى كلا النوعين، فإن هذا يعني – بالضرورة – أننا نتوهم بأن لدينا علما عقليا قبليا أوليا بعدم تكرر الصدفة على خط طويل، إذ لا وجود لمثل هذا العلم لدينا أصلا، فضلا عن وجوده كعلم أولي.

على أن نشير إلى أن الشهيد الصدر قد قدم لنا في (الأسس المنطقية للاستقراء) سبعة اعتراضات كلها تصب في اتجاه البرهنة على نفي العلم الإجمالي الذي يعبر عنه المبدأ الأرسطي .

يقول الشهيد الصدر: ((والاعتراضات التي سوف نوجهها إلى المبدأ الأرسطي تختلف في مدلولاتها ونتائجها، فبعضها يبرهن على نفي العلم الإجمالي الذي يعبر عنه هذا المبدأ، وعدم وجود كلا الأساسين اللذين يتكون على أساسهما العلم الإجمالي (أساس التمانع والتضاد، وأساس الاشتباه)، وبعضها يبرهن على نفي الأساس الأول لتكوين العلم الإجمالي وعدم وجود أي تمانع وتضاد بين الصدف النسبية المتماثلة، وبعضها يبرهن على على نفي الأساس الثاني لتكوين العلم الإجمالي وعدم وجود أي اشتباه يبرر نشوء علم إجمالي بنفي غير محدد )) . (13)

و – وعلى أساس ما تقدم رأى الشهيد الصدر: أننا إذا أردنا الاحتفاظ بالفكرة الجوهرية للمبدأ الأرسطي، فلا بد لنا من صياغته بشكل مختلف عن صياغة المنطق الأرسطي له. على أن نفهم أن تلك الصياغة الجديدة، التي أسماها الشهيد الصدر (قاعدة عدم التماثل) تؤكد على أن هذا المبدأ مستنتج استقرائيا، وليس علما عقليا قبليا أوليا.

تنبيــه: لقد تصور بعض الباحثين أن الطريقة التي عرض بها الدليل السابق للشهيد الصدر تبدو – في حقيقتها – خالية من جوهر الاعتراض الموجه إلى المبدأ الأرسطي، ولكي يثبت ذلك كتب ما نصه:

((وعليه أثبت أن المبدأ الأرسطي ليس قائما على كلا النوعين السابقين للعلم الإجمالي، وكشف عن هذه الحقيقة من خلال توجيه عدة اعتراضات إلى المبدأ الأرسطي، حيث تبين أنه ليس من العلم القائم على التمانع، ولا من العلم القائم على التشابه. ومع أن من الصحيح اعتبار المبدأ الأرسطي لا ينتمي إلى العلمين الآنفي الذكر، لكن الطريقة التي عرضت تبدو – في حقيقتها – خالية من جوهر الاعتراض الموجه إلى ذلك المبدأ.

إذ يمكن أن نتساءل: هل أن العلم الإجمالي ينقسم فقط إلى القسمين المشار إليهما سلفا، وهما التمانع والتضاد، والتشابه والاشتباه ؟ وبعبارة أخرى: ألا توجد أقسام غير هذين القسمين ؟ ذلك أنه إذا كان العلم الإجمالي ينقسم إلى القسمين السابقين، فكيف لا يكون المبدأ الأرسطي – وهو من العلم الإجمالي – لا يمت بصلة إلى كل منهما ؟ وإذا كان هناك قسم آخر للعلم الإجمالي ينتمي إليه المبدأ الأرسطي فلماذا لم يذكر مع أن البحث مرتبط به ارتباطا صميما ؟!

ذلك إلى أن عدم التعرض إلى تحديد ما عليه المبدأ الأرسطي من علم إجمالي، يجعل الاعتراضات عليه في هذا الخصوص، غير واردة )) . (14)

وفيما يلي نود أن نسجل الملاحظتين التاليتين على ما تقدم:

الملاحظة الأولى: لقد تصور صاحب النص المتقدم أن الشهيد الصدر قد آمن بالمبدأ الأرسطي، وكونه علما إجماليا ! والحق: أن الشهيد الصدر لم يؤمن بالمبدأ الأرسطي، وفق الصياغة الأرسطية – كما تقدم – فضلا عن كونه يؤمن به كعلم إجمالي.

إن ما أراد أن يقوله الشهيد الصدر – ولم يتنبه له المعترض –: أننا إذا قبلنا المبدأ الأرسطي فلا بد أن نقبله كعلم إجمالي، ولكننا لا نستطيع قبول المبدأ الأرسطي كعلم إجمالي، باعتباره يفقد الشروط التي على أساسها يكون العلم علما إجماليا، وهذا يعني: أننا مضطرون إلى: إما أن نرفض المبدأ الأرسطي أصلا، وإما أن نجري عليه إصلاحات، والثاني هو الذي اختاره الشهيد الصدر، كما هو واضح مما تقدم.

الملاحظة الثانية: من الغريب حقا أن يفهم المعترض أن الشهيد الصدر يؤمن بالمبدأ الأرسطي كما هو، على الرغم من علمه بأن الشهيد الصدر قد أدخل إصلاحات جذرية على ذلك المبدأ، وأنه قد صاغه صياغة جديد أسماها (قاعدة عدم التماثل)، وأنه كشف بهذه الصياغة عن المحتوي الحقيقي لهذا المبدأ. انظر إلى قوله التالي:

((هناك إصلاح جذري للمبدأ الأرسطي أجراه عليه المفكر الصدر، وينص هذا الإصلاح بالقول: --- وهذا بمثابة ان الصدفة لا تتكرر باستمرار ما دامت الظروف متحركة وغير ثابتة، وقد سمى هذه القاعدة بـ (قاعدة عدم التماثل) عوض تسميتها بـ (مبدأ عدم تكرر الصدفة أكثريا ودائميا)، لما في ذلك من إصلاح وتعديل للمبدأ الأرسطي))، (15)

الدليل الثاني: ويمكننا أن نبين هذا الدليل بالشكل التالي:

أ – ابتدأ الشهيد الصدر بالتساؤل التالي: هل أن المبدأ الأرسطي ينفي تكرر الصدفة النسبية على مستوى الوقوع فحسب، أي أنه ينفي وقوع هذا التكرار، أو أنه ينفي الإمكان ويقرر استحالة تكرر الصدفة النسبية. (16)

ب – ولقد رأى الشهيد الصدر أن المبدأ الأرسطي إذا كان ينفي تكرر الصدفة النسبية في عالمنا الذي نعيشه، مع الاعتراف بإمكان تكررها، فمن الطبيعي أن لا يكون هذا المبدأ من المباديء العقلية الأولية المستقلة عن التجربة؛ لأن هذه المباديء – حينما تنفي أو تثبت – تستند دائما إلى الاستحالة والضرورة. (17)

جـ - أما إذا كان المبدأ الأرسطي يقرر استحالة تكرر الصدفة النسبية، كما يقرر مبدأ عدم التناقض استحالة التناقض، فإن الشهيد الصدر يرى: أنه من السهولة بمكان أن ندرك أن هذا المبدأ غير موجود في عقولنا؛ لأنا جميعا نميز بين مبدأ عدم التناقض ومبدأ عدم تكرر الصدفة النسبية، فإن عالمنا الواقعي الذي نعيش فيه وإن لم يوجد فيه تناقض ولا تكرر مستمر في الصدفة النسبية على خط طويل، ولكننا ندرك أنه ليس بالإمكان أن يوجد التناقض فيه؛ لأنه مستحيل، ولهذا لا يمكن أن نتصور عالما تتعايش فيه الأشياء مع أعدامها في وقت واحد. وليس كذلك التكرر المستمر في الصدفة النسبية، فإنه – رغم عدم وقوعه في عالمنا هذا – لا ندرك استحالة مطلقة فيه، وبإمكاننا من الناحية النظرية أن نتصور عالما تتكرر الصدفة النسبية فيه باستمرار، وتتعايش فيه تلك الصدف المتكررة بسلام. (18)

النقطة السادسة: وعلى أية حال وبغض النظر عن المناقشات التي يمكن إثارتها حول أدلة الشهيد الصدر في عدم أولية المبدأ الأرسطي، يمكننا تلخيص ما تقدم من موقف الشهيد الصدر من مفهوم (الصدفة) كالآتي:

أ – يتفق الشهيد الصدر مع المنطق الأرسطي في أن الصدفة تعتبر نقطة في مقابل اللزوم.

ب – يتفق الشهيد الصدر مع المنطق الأرسطي في استحالة الصدفة المطلقة.

ج – يتفق الشهيد الصدر مع المنطق الأرسطي في أن الصدفة النسبية ممكنة من وجهة نظر منطقية.

د – يتفق الشهيد الصدر مع المنطق الأرسطي حول مضمون المبدأ الأرسطي الذي يؤكد على أن الصدفة النسبية لا تتكرر على خط طويل.

هـ - على الرغم من أن الشهيد الصدر يتفق مع المنطق الأرسطي حول مضمون المبدأ الأرسطي، إلا أنه يختلف معه حول أوليته، فبينما يرى المنطق الأرسطي أن المبدأ المذكور هو مبدأ عقلي قبلي، يرى الشهيد الصدر – وبالأدلة – أن هذا المبدأ ليس معرفة عقلية قبلية، بل هو نتاج استقراء للطبيعة.

و – على الرغم من أن الشهيد الصدر يتفق مع المنطق الأرسطي حول مضمون المبدأ الذي يتبناه، إلا انه يرى أن هذا المبدأ بحاجة إلى الإصلاح وإعادة الصياغة.

النقطة السابعة: في هذه النقطة سوف نحاول الوقوف على الأسباب التي دعت الشهيد الصدر لرفض الصياغة الأرسطية للمبدأ الأرسطي، ونحاول أيضا دراسة الصياغة التي اقترحها الشهيد الصدر لذلك المبدأ من خلال الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: يعتقد الشهيد الصدر أنا إذا افترضنا مجموعة من الحوادث يساوي احتمال أي واحدة منها احتمال نفيها، فسوف تنشأ قيم احتمالية متساوية لكل الصور الممكنة لافتراض وجود تلك الحوادث أو عدمها، أو وجود بعضها وعدم بعضها الآخر. وتمثل هذه الصور الممكنة مجموعة أطراف (العلم الإجمالي 1)، ولكن رغم ذلك تنفرد بعض تلك الحالات الممكنة بمواجهة عامل مضاد ناتج عن علم إجمالي آخر يجعلها أصغر قيمة من سائر الحالات الأخرى .

ومثال ذلك ما إذا القيت قطعة النقد عشر مرات، ففي كل مرة من المحتمل أن يظهر وجه الكتابة، ومن المحتمل أن لا يظهر. وهذان الاحتمالان متساويان، وبضرب الاحتمالين الممكنين في كل رمية لقطعة النقد بالاحتمالين الممكنين في الرميات الأخرى نحصل على 1024 حالة محتملة، وهذه الحالات تشكل مجموعة الأطراف لـ (لعلم الإجمالي 1).

ولو كان هذا العلم منفردا بالتأثير لوزع قيمه الاحتمالية على هذه الحالات بالتساوي، فمثلا: حالة أن يظهر وجه الكتابة في المرة الأولى والرابعة والتاسعة والعاشرة فقط، وحالة أن يظهر وجه الكتابة في جميع المرات، يجب أن تكونا متساويتين في قيمتيهما الاحتمالية ما دمنا نتكلم في نطاق (العلم الإجمالي 1)، ولكن رغم ذلك نعلم جميعا بأنا إذا لاحظنا فعلا وقوع الحالة الثانية من هاتين الحالتين فسوف نستغرب ذلك بدرجة كبيرة، بينما لا نجد في نفوسنا أي استغراب إذا لاحظنا فعلا وقوع الحالة الأولى، وهذا معنى أن هناك عاملا آخر يجعل قيمة احتمال الحالة الثانية أصغر من قيم احتمالات سائر الحالات الأخرى . وهذا العامل هو الذي يمثل تدخل العلم الإجمالي الآخر في تحديد قيم (العلم الإجمالي 1)، فما هو هذا العامل؟. (19)

تنبيه: لقد رأى بعض الباحثين – معترضا على موقف الشهيد الصدر – أن الحالة الثانية ليست هي الحالة الوحيدة التي تفضي إلى ظاهرة اللإستغراب. بل لو جعلنا أي حالة من الحالات التوافيقية – وهي 1024 حالة – محلا للنظر والتنبؤ قبل إجراء اللإختبار، وصادف أن ظهرت الحالة المشخصة، لأصابتنا – أيضا – دهشة كبيرة. فلا فرق في الدهشة بين هذه الحالة والحالة الأولى التي تظهر فيها الواقعة في جميع المرات، وكذا الحال فيما لو ظهرت الواقعة على التناوب ابتداء من الأولى وحتى العاشرة.

وعلى أساس هذا الفهم فسروا حالة الاستغراب التي تحصل لدينا عند تحقق الحالة الثانية على أساس عامل نفسي، ورفضوا أن يكون العامل في ذلك الإستغراب هو وجود علم إجمالي كما يرى الشهيد الصدر. (20)

نحن نرى أن هذا الموقف المبني على أساس فهم معين للصدفة – يكاد يتطابق تماما مع مفهوم (كورنو) عن الصدفة – بحاجة إلى إعادة النظر فيه .

لقد فات هؤلاء الباحثين: اننا لو جعلنا حالة تكرر الواقعة في جميع المرات محلا للنظر والتنبؤ، وصادف أن ظهرت هذه الحالة، فإننا سوف لن نصاب بدهشة واحدة حتى نقول أن هذه الدهشة تتساوى فيها هذه الحالة مع أي حالة أخرى من الحالات التوافيقية، وإنما سنصاب بالدهشة مرتين: فمرة: سوف نصاب بالدهشة نتيجة تطابق تنبؤاتنا مع ظهور الحالة، وهذه الدهشة هي التي تتساوى فيها هذه الحالة مع أي حالة أخرى من الحالات التوافيقية حينما نجعلها محلا للنظر والتنبؤ ونصادف ظهورها، ومرة أخرى: سوف نصاب بالدهشة نتيجة تكرر الواقعة في جميع المرات، وهذه الدهشة هي التي تختلف فيها هذه الحالة مع أي حالة أخرى من الحالات التوافيقية، وهي التي تنشأ من وجود علم إجمالي آخر كما يرى الشهيد الصدر.

الخطوة الثانية: بعد أن استفهم الشهيد الصدر في نهاية الخطوة الأولى عن طبيعة ذلك العامل الذي يمثل تدخل العلم الإجمالي الآخر في تحديد قيم العلم الإجمالي الأول حاول أن يستعرض لنا إجابة المنطق الأرسطي عن هذا الاستفهام، حيث أوضح:

((إن هذا العامل هو الذي دعا المنطق الأرسطي إلى الاعتقاد بأن اجتماع عدد كبير من الصدف المتماثلة مستحيل، فقد رأى المنطق الأرسطي نفسه يرفض إمكانية تكرر الصدفة بصورة متماثلة في عدد كبير من التجارب: فلا يستسيغ – مثلا – أن يظهر وجه الكتابة في ألف رمية متتابعة لقطعة النقد. وهذا جعله يتصور: أن هناك مبدأ عقليا قبليا يحكم بأن تكرر الصدفة بصورة متماثلة في عدد كبير من المرات المتتابعة أمر مستحيل )). (21)

الخطوة الثالثة: وبعد أن استعرض الشهيد الصدر تفسير المنطق الأرسطي لطبيعة العامل الذي يمثل تدخل العلم الإجمالي الآخر في تحديد القيم الاحتمالية في (العلم الإجمالي 1)، رفض هذا التفسير الذي يقوم على أساس وجود مبدأ عقلي قبلي وبين أنه كان قد رفضه – وبالأدلة – فيما سبق، ثم بين أن هذا العامل يقوم على أساس حساب الاحتمالات.

يقول الشهيد الصدر: ((والمنطق الأرسطي وإن أصاب في رفضه لافتراض ظهور وجه الكتابة – مثلا – في ألف رمية متتابعة، ولكنه أخطأ في تفسير هذا الرفض، فإن استبعاد هذا الافتراض لا يقوم على أساس مبدأ عقلي قبلي، كما برهنا عليه في القسم الأول من بحوث هذا الكتاب، وإنما يقوم على أساس أن حالة ظهور الكتابة في كل المرات – وبتعبير أعم: حالة تكرر الصدفة بنحو واحد – تواجه عاملا خاصا يضعف بحساب الاحتمالات قيمتها الاحتمالية إلى أبعد حد.

ويمكن توضيح هذا العامل بالبيان التالي:

إن الحالات المتتابعة التي وقعت في كل واحدة منها تجربة – رمية قطعة النقود مثلا – إذا قارنا بينها واستطعنا أن نستوعب كل ظروفها وملابساتها، فسوف نجد أنها تختلف في عدد كبير من الملابسات والظروف، بينما قد لا تشترك إلا في جزء ضئيل جدا من تلك الملابسات والظروف: فوضع الهواء، ونوع تحركه، ووضع الكف التي تقذف قطعة النقد، ووضع القطعة النقدية في الكف وهي تقذف، وأوضاع سائر الأشياء التي قد تتدخل في تغيير اتجاه قطعة النقد، إن كل هذه الأوضاع تختلف من حالة إلى أخرى، ولا يظل شيء منها ثابتا ومشتركا بين الحالتين إلا أحيانا وبقدر يسير.

وعلى هذا الأساس نعرف أن افتراض تكرر نفس الصدفة بظهور وجه الكتابة مرات عديدة يعني: افتراض أن نفس ذلك الجزء الثابت من مجموع الملابسات والظروف في جميع الحالات هو السبب الذي يتحكم في تعيين الوجه الذي سوف يبدو للعملة النقدية، دون الجوانب المتحركة وغير الثايتة ؛ إذ لو كان ظهور وجه الكتابة في المرة الأولى نتيجة لأحد هذه الجوانب المتحركة لما تكرر ظهوره في المرة الثانية، فتكرر ظهوره في جميع المرات لا يمكن أن يفترض إلا إذا افترضنا أن العامل المسبب لظهور وجه الكتابة هو الجانب الثابت من الظروف والملابسات، إذ بحكم كونه ثابتا يتكرر أثره في كل مرة فيظهر وجه الكتابة.

وهذا افتراض لا يملك إلا قيمة احتمالية ضئيلة جدا؛ لأن الجوانب المتحركة وغير الثابتة من الملابسات والظروف أكثر من ذلك الجانب الثابت بدرجة كبيرة جدا، وكل واحد من هذه الجوانب المتحركة يحتمل أن يكون له دور في تحديد الوجه الذي سيبرز. وبكلمة مختصرة: كلما كان دور الجزء الثابت أكبر كان ترقب تكرر نفس الظاهرة مرات عديدة أقوى، وكلما كان دور الجزء المتحرك أكبر كان ترقب اختلاف الظاهرة أقوى. ولما كانت احتمالات سببية الجزء المتحرك أكثر نتيجة لكون عناصر الحركة في الظروف والملابسات أكثر من عناصر الثبات، فمن الطبيعي أن يكون احتمال تكرر نفس الوجه في كل المرات ضعيفا جدا )). (22)

الخطوة الرابعة: وبعد أن أوضح الشهيد الصدر – في الخطوة السابقة – خطأ المنطق الأرسطي في الكشف عن طبيعة العامل الذي مثل تدخل العلم الإجمالي الآخر في تحديد القيم الاحتمالية لـ (العلم الإجمالي 1)، ومحاولته الكشف عن طبيعة هذا العامل من خلال مثال (رمي قطعة النقد عشر مرات) والإيضاحات التي صاحبت هذا المثال، حاول الشهيد الصدر بعد ذلك أن يقدم مزيدا من الإيضاح في إطار مثال آخر:

يقول الشهيد الصدر: ((ولنأخذ مثالا آخر: نفرض أنا أقمنا دعوة لخمسين شخصا من الأصدقاء، وحاولنا مسبقا أن نتنبأ بلون الملابس التي سوف يرتدونها عند مجيئهم إلى الدعوة، فسوف نجد أن قيمة احتمال أن يجيء الجميع صدفة بلون واحد ضئيلة جدا، فهي أصغر من قيمة أي احتمال آخر. والسبب في ذلك هو السبب في مثال رمي قطعة النقود، فإن اختيار كل واحد من الخمسين للون ملابسه يرتبط عادة بمجموعة من الظروف والملابسات، ونحن نعلم الاختلاف الشديد بين هؤلاء الخمسين في ظروفهم وملابساتهم، وعدم وجود اشتراك في الظروف والملابسات بينهم إلا بقدر ضئيل جدا، فإذا كان هؤلاء سوف يأتون جميعا بلون واحد فهذا يعني: أن الذي تحكم في موقف كل منهم هو ذلك القدر الضئيل المشترك من الظروف والملابسات ولهذا اتحد موقف الجميع، ومن الواضح أن افتراض انفراد هذا القدر الضئيل المشترك بالتأثير وعدم وجود تأثير لسائر الجوانب المختلفة من حياة هؤلاء، لا يملك إلا قيمة احتمالية ضئيلة جدا، وبذلك يصبح احتمال مجيء الجميع بلون واحد ضعيفا إلى أقصى حد )). (23)

الخطوة الخامسة: وفي هذه الخطوة يستخلص الشهيد الصدر من الخطوات السابقة أن حقيقة المبدأ الأرسطي القائل: (إن الصدفة لا تتكرر بصورة متماثلة ومتتالية) إنما هو محور لتجمع كبير من القيم الاحتمالية يجعل احتمال تكرر الصدفة بصورة متماثلة ومتتالية أصغر من احتمال أي صورة أخرى من الصور الممكنة.

يقول الشهيد الصدر: ((وحقيقة الأمر – في المثالين – هي أن هناك علما إجماليا بأن سبب ظهور وجه الكتابة – أو اختيار اللون الأصفر مثلا – هو إما هذا الجزء من ملابسات تلك الرمية – وهذا الشخص – أو الجزء الآخر، أو الجزء الثالث ----- وهكذا.

وعدد أطراف هذا العلم الإجمالي الذي نعبر عنه بـ (العلم الإجمالي 2) أكبر كثيرا من عدد أطراف (العلم الإجمالي 1) ؛ لأن (العلم الإجمالي 1) استمد أطرافه من الصور الممكنة لظهور وجه الكتابة إيجابا وسلبا في المرات العشر مثلا، وأما هذا العلم فيستمد أطرافه من عدد الملابسات والظروف التي تكتنف الرمية الأولى مضروبا بعدد الملابسات والظروف التي تكتنف الرمية الثانية، وهكذا إلى الرمية العاشرة.

وحيث أن الظروف والملابسات المتحركة والمتغيرة من مرة إلى مرة أكثر جدا من الظروف والملابسات التي قد يفترض كونها ثابتة، فمن الطبيعي أن تتجمع قيم احتمالية كثيرة جدا من (العلم الإجمالي 2) ضد احتمال أن يتكرر نفس الوجه في جميع المرات.

وهكذا نصل في هذا الضوء إلى حقيقة المبدأ الأرسطي القائل: (إن الصدفة لا تتكرر بصورة متماثلة ومتتالية)، فليس هذا المبدأ قاعدة عقلية قبلية على مستوى القواعد المنطقية المستقلة عن التجربة، وإنما هو محور لتجمع كبير من القيم الاحتمالية يجعل احتمال تكرر الصدفة بصورة متماثلة ومتتالية أصغر من احتمال أي صورة أخرى من الصور الممكنة )). (24)

الخطوة السادسة: وعلى أساس ما تقدم كله، أي على أساس إيمان الشهيد الصدر بمضمون المبدأ الأرسطي، ورفضه لصياغة وتفسير المبدأ الأرسطي لهذا المضمون، وجد الشهيد الصدر أن من الضروري وضع صياغة جديدة للمبدأ الأرسطي.

كتب الشهيد الصدر في (الأسس المنطقية للاستقراء) تحت عنوان (صياغة جديدة للمبدأ الأرسطي، ونتائجها) ما نصه:

ويمكننا – على هذا الأساس – أن نصوغ المبدأ الأرسطي صياغة جديدة، بعد أن ننتزع منه الطابع الغقلي القبلي المزعوم، وذلك كما يلي:

أ – نعلم بوجود عدد كبير من التباينات بين أي نقطة زمنية والنقطة الزمنية التالية لها، وبين أي حالة طبيعية وحالة طبيعية أخرى معاصرة لها.

ب – ونعلم بوجود عدد ضئيل من التوافقات بين النقطتين أوالحالتين.

ج – وهذا يجعل قيمة احتمال أن يكون للتباينات تأثير فيما ينجم عن نقطة زمنية معينة أو حالة طبيعية معينة كبيرة جدا.

د – فإذا أدت النقطة الزمنية الأولى، أو الحالة الطبيعية الأولى، إلى ظاهرة معينة ولم نعرف سببها، فسوف يكون ترقبنا لأداء النقطة الزمنية التالية أو الحالة الطبيعية المعاصرة لنفس الظاهرة صدفة، بدرجة أقل بكثير من ترقبنا لأداء النقطة أو الحالة الأخرى إلى نتيجة مختلفة ولو كانت محددة. ولنطلق على المبدأ الأرسطي بعد وضعه في هذه الصياغة (قاعدة عدم التماثل).

الخطوة السابعة: في هذه الخطوة يحاول الشهيد الصدر أن يبين ان (قاعدة عدم التماثل) تستبطن افتراضا مسبقا بـ (أن تدخل التباينات والعناصر المتغيرة في توليد الحادثة، يستلزم تنوعها واختلافها من حالة إلى أخرى)، وأن هذا الافتراض المسبق المستبطن في (قاعدة عدم التماثل) يمكن إثباته استقرائيا.

يقول الشهيد الصدر: ((ويجب أن نلاحظ بهذا الصدد: أنا افترضنا مسبقا: أن تدخل التباينات والعناصر المتغيرة في توليد الحادثة، يستلزم تنوعها واختلافها من حالة إلى أخرى، ولهذا اعتبرنا قيمة احتمال تكرر الحادثة على نهج واحد مساوية لقيمة احتمال تدخل الجانب الثابت – التوافقات – في إيجاد نوع الحادثة دون الجوانب المتغيرة.

وهذا الافتراض المسبق يمكن إثباته استقرائيا بملاحظة أن التباين بين شيئين يقترن دائما بالتباين بين النتائج. والإثبات الاستقرائي لهذا الافتراض إن افترض بدرجة اليقين فهذا يعني: أنا طبقنا الشكل الأول لمصادرة الاستقرائية الثانية، وعن طريقه وصلنا إلى العلم بتلك القضية الاستقرائية. ولكن ليس من الضروري لتفسير اختلاف قيم أطراف (العلم الإجمالي 1) أن نفترض الإثبات الاستقرائي لتلك القضية على مستوى اليقين، بل يكفي أن تكون ثابتة باحتمال استقرائي كبير وفقا للمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي، فإن هذا يعني: أن افتراض تأثير التباينات والجوانب المتحركة في الحادثة – بدرجة ذلك الاحتمال الاستقرائي الكبير – عدم تكرر الحادثة على نهج واحد في كل المرات، وهذا يكفي لكي يجعل احتمال هذا التكرر أضعف من احتمال أي حالة أخرى من الحالات التي يشملها (العلم الإجمالي 1) )). (25)

الخطوة الثامنة: في هذه الخطوة يحاول أن يبين الشهيد الصدر أن اكتشاف حقيقة المبدأ الأرسطي وارتكازه على أساس تجمع الاحتمالات جعلنا نفسر عدة نقاط غامضة في طريقة تطبيق هذا المبدأ لم يكن من السهل تفسيرها بدون اكتشاف المحتوى الحقيقي لهذا المبدأ، من خلال إيضاح:

أولا: أن هذا المبدأ – أو بالأحرى: أن قاعدة عدم التماثل – إنما تجعل احتمال تكرر الصدفة بصورة متماثلة أبعد من أي احتمال آخر، فيما إذا كان التماثل المفترض في هذا الاحتمال تماثلا حقيقيا لا تماثلا مصطنعا.

وأقصد بالتماثل الحقيقي: ذلك التماثل الذي يكشف عن سبب واحد مشترك، فحينما يظهر وجه الكتابة في المرة الأولى وفي المرة الثانية معا يعتبر هذا تماثلا حقيقيا ؛ لأنه يكشف عن أن السبب الذي أدى إلى ظهور وجه الكتابة في المرة الأولى أدى – أيضا – إلى ظهوره في المرة الثانية، وهذا يعني أن السبب لظهور وجه الكتابة في المرة الأولى هو ذلك الجزء المشترك من الظروف والملابسات بين المرة الأولى والمرة الثانية، ولما كانت الأجزاء غير المشتركة أكثر جدا فسوف يكون احتمال سببية الجزء المشترك وبالتالي ظهور وجه الكتابة في كل مرة، أضعف من سائر الاحتمالات.

وأما التماثل المصطنع فاقصد به التماثل الذي لا يفرض وجود سبب مشترك. فإذا افترضنا – مثلا – أننا كنا نلقي قطعة النقد، وكان هناك شخصا يتنبأ اعتباطا في كل مرة بالوجه الذي سيظهر، فقال عن الرمية الأولى: إن الكتابة سوف تظهر، وقال عن الرمية الثانية: إن الصورة سوف تظهر، ونفس الشيء قاله عن الثالثة والرابعة --- وهكذا إلى العاشرة.

ففي هذه الحالة يوجد تماثل بين ظهور وجه الكتابة في المرة الأولى، وظهور وجه الصورة في المرة الثانية، وظهور وجه الكتابة في المرة الثالثة، وظهور وجه الصورة في المرة الرابعة --- وهكذا ؛ لأن هذه الفروض كلها متماثلة في كونها محققة لنبؤة ذلك الشخص، إلا أن هذا التماثل مصطنع، فهو لا يفرض أن يكون السبب الذي أدى إلى ظهور وجه الكتابة في المرة الأولى هو بنفسه يؤدي إلى ظهور وجه الصورة في المرة الثانية. وعلى هذا الأساس لا يكون احتمال صدق نبؤة ذلك الشخص صدفة في جميع المرات أضعف من أي احتمال آخر من احتمالات كذبه.فكما أننا لو لم نواجه نبوءة من هذا القبيل للاحظنا أن احتمال ظهور وجه الكتابة في المرة الأولى والثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة، وظهور وجه الصورة في الباقي، يساوي احتمال ظهور وجه الكتابة في المرات الخمس الأولى وظهور وجه الصورة في الباقي، كذلك نلاحظ فعلا بعد النبوءة: تساوي الاحتمالين، دون أن تكون النبوءة نفسها – بسبب ما تخلق من تماثل مصطنع – سببا لهبوط قيمة الاحتمال الأول عن قيمة الاحتمال الثاني.

وسبب الفرق بين التماثل الحقيقي والتماثل المصطنع: أن افتراض تكرر الصدفة بصورة متماثلة تماثلا مصطنعا لا يعني: افتراض أن يكون السبب في كل مرة هو ذلك الجزء المشترك من الظروف والملابسات، بل قد يكون السبب ثابتا في نطاق التباينات المعلومة بين الحالات المتتالية؛ لأن التماثل المصطنع لا يفترض وحدة السبب. (26)

ثانيا: أن قاعدة عدم التماثل تضعف قيمة احتمال تكرر الصدفة بصورة متماثلة إذا كان التماثل حقيقيا – كما عرفنا -، وكلما كان التماثل بين الصدف المفترضة في هذا الاحتمال أوسع وأعمق، كانت فاعلية قاعدة عدم التماثل في تضعيف قيمة هذا الاحتمال أكبر وأقوى.

فإذا قيل: إن زيدا سافر خلال عشرة أشهر عشر مرات، وفي كل سفرة منيت السيارة التي كان راكبا فيها بحادثة اصطدام، كان ذلك غريبا. ولكن إذا قيل لنا: إنه سافر في شهر واحد عشر مرات ووقعت له حادثة اصطدام في كل مرة، فسوف يبدو ذلك أغرب.

وإذا قيل لنا: أن زيدأ أقام مأدبة لعشرة من أصدقائه، فاتفق صدفة أن أصيبوا جميعا بالصداع فلم يحضروا، كان ذلك أغرب بكثير من أن يقال لنا: إن زيدا أقام خلال عشرة أشهر عشر مأدبات دعا إليها أصدقاءه العشرة، فتخلف عن الدعوة في المأدبة الأولى فلان، وتخلف في المأدبة الثانية فلان --- وهكذا، وكان سبب التخلف في كل مرة الصداع. فنحن في كلتا الحالتين نواجه صدفا متماثلة ولكنها في الحالة الأولى أشد تماثلا، على أساس أنها وقعت جميعا في زمان واحد.

وهذا يعني: أنه كلما كان التماثل حقيقي بين الصدف المتماثلة أشد كان احتمال وجودها جميعا أضعف.

والسبب في ذلك أن مجموعة الحالات التي تكتنف كل واحد من المدعوين العشرة ليست ثابتة، بل هي في حالة حركة وتغير، وفقا لما يتجدد في حياة كل واحد منهم من عوامل مادية ونفسية و وعلاقات متنوعة ونشاطات مختلفة. كما أن التباينات بين مجموعة الحالات التي تكتنف في لحظة معينة هذا الشخص وجموعة الحالات التي تكتنف في اللحظة نفسها شخصا آخر أكثر من التوافقات. وعلى هذا الأساس يبدو من الغريب أن يصاب العشرة في وقت واحد بالصداع، رغم التباينات الكثيرة وضآلة القاسم المشترك بين حالات كل واحد منهم وحالات الآخرين. ولكن أقل من ذلك غرابة أن يصاب أحدهم بالصداع في شهر، ويصاب آخر به في الشهر الثاني --- وهكذا ؛ لأن مجموعة الحالات التي تكتنف كل شخص لما كانت في حركة وتغير، فليس من البعيد أن يمر أحد المدعوين في شهر بحالات معينة تؤدي به إلى الصداع، ولا تكون هذه الحالات موجودة في تلك اللحظة بالنسبة إلى شخص آخر من المدعوين، ولكنه يمر بنفس تلك الحالات في الشهر الثاني بحكم الحركية والتغير في مجموعة الحالات التي تكتنف أي إنسان. (27)

 

ثالثا – المرحلة الثالثة:

وهي المرحلة التي أدخل فيها الشهيد الصدر إصلاحات جوهرية على مذهبه – (المذهب الذاتي في نظرية المعرفة) – الذي كان قد أرسى دعائمه في المرحلة الثانية في (الأسس المنطقية للاستقراء)، وقد تجسدت سمات هذه المرحلة بوضوح في كتابه (بحث حول المهدي).

في هذه المرحلة طرأ تغيير كبير على مفهوم (الصدفة) عند الشهيد الصدر، فلقد أوضح الشهيد الصدر أنه من غير الصحيح أن نعتبر (الصدفة) نقطة في مقابل (الضرورة أو اللزوم)؛ لأنه أدرك في هذه المرحلة أن فرضية (الضرورة أو اللزوم) ليست هي الفرضية الوحيدة المحتملة في مقابل (الصدفة)، باعتبار أن هناك فرضية أخرى محتملة في مقابل (الصدفة)، فكما يمكننا أن نتصور – مثلا – أن اقتران الظاهرتين قد يكون نتيجة (الصدفة)، وكما يمكننا – أيضا – أن نتصور أن اقتران الظاهرتين قد يكون نتيجة لوجود علاقة ضرورية بينهما، كذلك يمكننا أن نتصور أن اقتران الظاهرتين قد يكون نتيجة حكمة دعت منظم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار.

يقول الشهيد الصدر: ((وأما على ضوء الأسس المنطقية للاستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في أن الاستقراء لا يبرهن على الضرورة، ولكنا نرى أنه يدل على وجود تفسير مشترك لاطراد التقارن والتعاقب بين الظاهرتين باستمرار. وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار )).(28)

هكذا يتضح أن الشهيد الصدر – في هذه المرحلة – يعتقد أن (الصدفة) نقطة في مقابل التفسير المشترك، وليس نقطة في مقابل (الضرورة)؛ لأن (الضرورة) – بحسب هذا النص – ليس الأمر الوحيد الذي يمكن احتماله في مقابل الصدفة، وإنما هناك أمر آخر يمكن احتماله أيضا، وبالتالي فإن ما يكون في مقابل (الصدفة) هو التفسير المشترك الجامع لكلا الامرين المحتملين، وليس (الضرورة) التي إحدى الأمرين المحتملين.

إن هذا التطور الجوهري في مفهوم (الصدفة) عند الشهيد الصدر كان هو العنصر الأساسي الذي أدى إلى كل التطورات التي طرأت على الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر في هذه المرحلة. ولولا خشية الإطالة لأثبتنا ذلك بالتفصيل، ولكننا نستطيع أن نبين على سبيل المثال وبإيجاز: أن الشهيد الصدر كان – في المرحلة الثانية – يعتقد بقدرة الاستقراء على إثبات علاقة (الضرورة)؛ باعتبار أن (الضرورة) لما كانت هي الفرضية الوحيدة المحتملة في مقابل (الصدفة)، ولما كان الاستقراء قادر على نفي (الصدفة)، فهذا يعني أن الاستقراء قادر على إثبات (الضرورة)، واما في هذه المرحلة، فبالرغم من أن الاستقراء – بحسب الشهيد الصدر – قادر على نفي احتمال (الصدفة)، إلا أنه – وبما يملكه من أدوات ووسائل – عاجز عن تنمية احتمال أي فرضية من الفرضيتين (الضرورة والحكمة)، باعتبار أن الفرضيتين هما – في الحقيقة – غيبيتان، وفي ضوء ذلك يكون من المنطقي أن يبقى الاستقراء محتفظا لنفسه بقدرته في البرهنة على التفسير المشترك الجامع لكلا الفرضيتين وساكتا عن ترجيح إحداهما على الأخرى.

تنبيــه: إن هذا التطور الجوهري في مفهوم (الصدفة) عند الشهيد الصدر، وإن جاء متأخرا إلا أنه وعند التأمل بعمق جاء متسقا مع مجمل بنائه الفلسفي.

أنظر بتأمل إلى ما أورده الشهيد الصدر في كتابه (اقتصادنا): ((يسير التفسير العلمي لظواهر الكون المتنوعة في خط متدرج، فهو يبدأ بوصفه فرضية، أي تفسيرا افتراضيا للواقع الذي يعالجه العالم، وحاول استكشاف أسراره وأسبابه. ولا يصل هذا التفسير الافتراضي إلى الدرجة العلمية، إلا إذا استطاع الدليل العلمي أن يبرهن وينفي إمكان أي تفسير آخر للظاهرة موضوعة البحث عداه، فما لم يقم الدليل على ذلك، لا يصل التفسير المفترض إلى درجة اليقين العلمي، ولا يوجد مبرر لقبوله دون سواه من الافتراضات والتفاسير، فمثلا: قد نجد شخصا معينا، يلتزم في ساعة معينة بالعبور من شارع خاص، وقد نفترض لتفسير هذه الظاهرة: أن هذا الشخص يسلك هذا الطريق بالذات في كل يوم؛ لأن له عملا يوميا في معمل يقع في منتهى الشارع. وهذا الافتراض وإن كان يصلح لتفسير الواقع غير أن ذلك لا يعني قبوله مادام من الممكن أن نفسر سلوك هذا الشخص في ضوء آخر: كما إذا افترضنا أنه يزور صديقا له، يسكن بيتا في ذلك الشارع، أو يراجع طبيبا يقطن في تلك المنطقة، ليستشيره في حالة مرضية، أو يقصد مدرسة معينة تلقى فيها المحاضرات بصورة رتيبة )). (29)

إن من يقرأ هذا النص يجد أنه غير متسق مع مفهوم الشهيد الصدر عن (الصدفة) الذي تبناه في المرحلتين الأولى والثانية، إذ ما هو المبرر لافتراض أن (الصدفة) تعتبر نقطة في مقابل اللزوم، مادام بالإمكان افتراض فرضية أخرى تقع (الصدفة) في نقطة مقابلة لها أيضا. إن هذا النص يتسق تماما مع ما تبناه الشهيد الصدر في المرحلة الثالثة عن مفهوم (الصدفة).

وما قلناه في النص السابق الذي أورده الشهيد الصدر في كتابه (اقتصادنا) يصدق أيضا على النص التالي – الذي أورده الشهيد الصدر في (الأسس المنطقية للاستقراء) –:

((وتوجد علامة فارقة ثالثة، وهي: أن القضية الاستقرائية مهما كان الاستقراء الذي يدعمها شاملا، لا يمكن أن تكون القضية مطلقة صادقة على أي عالم من العوالم المفترضة، وإنما يختص صدقها بالعالم الخارجي المعاش الذي وقع الاستقراء فيه، بينما تتمتع القضية الأولية القبلية بصدق مطلق لا يختص بهذا العالم، بل يمتد إلى أي عالم يمكن افتراضه.

فالقضية القائلة: (كل نارة حارة) قضية استقرائية؛ لأنها رغم وضوح صدقها على حقائق هذا العالم الخارجي المعاش، ليس من الضروري أن تكون صادقة على أي عالم آخر مفترض، بل بالإمكان أن نفترض عالما توجد فيه نيران غير حارة، ولا يوجد في نفوسنا رفض لهذا الافتراض. وأما القضية القائلة: (إن النقيضين لا يجتمعان)، أي أن النفي والإثبات لا يصدقان معا، فهي تصدق على أي عالم نفترضه. وليس بإمكاننا أن نحتمل وجود عالم يتعايش فيه النفي والإثبات. وهذا يعني أنها قضية منفصلة عن الاستقراء ؛ لأن الاستقراء لا يمكن أن يعطي هذا التعميم في الصدق، وإنما يبرهن على الصدق في إطار العالم الذي يمارس الاستقراء فيه.(30)

إن هذا النحو من التفكير المنطقي والفلسفي لا يمكن أن يتسق مع تفكير يتبنى المفهوم الأرسطي عن (الصدفة). إنه وبلا شك تفكير يتفق مع تفكير يتبنى المفهوم الذي تبناه الشهيد الصدر عن (الصدفة) في المرحلة الثالثة.

وفي ضوء ما تقدم يتضح – وبشكل لا لبس فيه – أن القول بوجود تطورات طرأت على الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر يساوي القول بأن فلسفة الشهيد الصدر فلسفة متسقة. أما عدم التنبه بشكل أكيد إلى التطورات الاستقرائية عند الشهيد الصدر فإنه يساوي القول بأن فلسفة الشهيد قد تشكو من عدم الاتساق في بعض جوانبها.

 

رضا حسن الغرابي

......................

الهوامش:

1 – فلسفتنا، محمد باقر الصدر، دار الفكر، ط2، ص278 – 279 .

2 – المصدر نفسه، ص287 – 290 .

3 – الأسس المنطقية للاستقراء، محمد باقر الصدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، ص51 – 52 .

4 – المصدر نفسه، ص307 – 308 .

5 – المصدر نفسه، ص56 – 60 .

6 – المصدر نفسه، ص89 – 90 .

7 – المصدر نفسه، ص63 – 64 .

8 – المصدر نفسه، ص454 .

9 – المصدر نفسه، ص60 .

10 – المصدر نفسه، ص62 .

11 – المصدر نفسه، ص67 – 68 .

12 – المصدر نفسه، ص

13 – المصدر نفسه، ص69 – 71 .

14 – الاستقراء والمنطق الذاتي، يحيى محمد،الانتشار العربي ص122 – 124 .

15 – الا ستقراء والمنطق الذاتي، ص116 .

16 – الأسس المنطقية للاستقراء، ص65 .

17 – المصدر نفسه، ص66 .

18 – المصدر نفسه، ص65-66 .

19 – المصدر نفسه، ص449 – 450 .

20 – الاستقراء والمنطق الذاتي، ص420 – 427 .

21 – الأسس المنطقية للاستقراء، 450 – 451 .

22 – المصدر نفسه، 451 – 452 .

23 – المصدر نفسه، 452 – 453 .

24 – المصدر نفسه، ص453 .

25 – المصدر نفسه، ص454 – 455 .

26 – المصدرنفسه، ص455 – 456 .

27 – المصدر نفسه، ص457 – 459 .

28 – بحث حول المهدي، السيد محمد باقر الصدر، لاحظ ما كتبه الشهيد الصدر تحت عنوان المعجزة والعمر الطويل .

29 – اقتصادنا، السيد محمد باقر الصدر، دار الفكر، ص58 – 59 .

30 – الأسس المنطقية للاستقراء، ص542 – 543 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم