صحيفة المثقف

الهجرة إلى الشمال في الرواية المغربية

الرموز السردية للذات الجنوبية / الرموز السردية للذات الشمالية

همسة في آذان الرجال للروائية : "لطيفة الرخاء شهام " نموذج

 

1 ـ سأستهل هذا العرض أولا بتسجيل بعض الملاحظات - حول الرواية العربية التي اتخذت من الهجرة إلى الشمال موضوعا لها، - بما فيها الرواية المغربية - وهي ملاحظات تتكرر كثيرا حتى كادت تضحي من مميزات رواية الهجرة نحو الشمال

2 سأقف ثانيا عند رواية " همس في آذان الرجال " لصاحبتها " لطيفة الرخاء شهام باعتبارها أركز على محوري الجنوب /الشمال من خلال الرموز السردية التي مثلت كلا منهما

3 – أنتهي ثالثا وأخيرا إلى استنتاجات

أولا

***

يسجل قارئ الرواية العربية، التي تناولت موضوع الهجرة ـ منذ موسم الهجرة الى الشمال الطيب صالح مرورا بالحي اللاتيني لسهيل إدريس وانتهاء إلى مرايا لمصطفى شعبان ثم ملاذ لإدريس اليزيدي من المغرب عدة ملاحظات حول رمز التمثيل السردي للشخصية الجنوبية من جهة ورمز الشخصية الشمالية من اخرى

1ـ إذ غالبا ما يجد القارئ الرمز السردي الممثل للذات الجنوبية مهاجرا من جنس ذكرٍ يهاجر بدافع طلب العلم وتحسين المستوى الثقافي أو الرفع من المستوى الاقتصادي ... فيرتاد آفاق الحرية ما أُُحِل منها وما حرمته ثقافته الجنوبية، كأن حكم التحريم أو المنع أو الحظر لا يسري مفعوله إلا في البيئة الجنوبية وكأن الأحكام تتغير بتغير المكان ... وتؤازر هذا الرمز السردي في هذا التمثيل للذات رموز كثيرة أغلبها يظل في الجنوب ... وعلى رأسها المرأة الجنوبية التي تظل مستبعدة يواريها على الأنظار لا يذكرها إلا في نفسه على سبيل الاسترجاع عندما يشتد عليه أمر التحاور مع الشخصية الشمالية ويصعب عليه ممارسة هجومه على خوفه منها أو عندما يصاب بالفشل في ذلك نتيجة للفوارق بينهما في مستويات عدة ....

في الوقت الذي دأبت (الرواية العربية) على اتخاذ جنس حواء رمزا سرديا للهوية الغربية/الشمالية والرمز الوحيد لها في أغلب الروايات (مريلان والجدة في مرايا وكريستين وصديقتها والجدة في ملاذ ...) ومن ثمة يلاحظ أن الرمز التمثيلي للهوية الجنوبية يخوض غمار الصراع جنوب /شمال لإثبات الذات عن طريق ممارسته لعبته الأزلية المتمثلة في قمع خوفه من المرأة متخذا من فحولته وسيلة وكأنها خاصية أساسية للذات الجنوبية وجب الذود عنها : مصطفى سعيد كما ورد في رواية (موسم الهجرة الى الشمال) الطيب صالح، هاجر الى انجلترا غازيا مدججا تستهدف صواريخه السفن الشقراء تخترقها وقد تحرقها . السارد في (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس ينسى ابن خالته المنذورة له .. يدخل أرض الشمال لاهثا خلف الجنس، منذ أن وطئت قدماه باريس بل منذ أول ليلة، ... وها هو ذا يحيى في (ملاذ) لإدريس اليزيدي يضرب بعلاقته العاطفية مع راوية عرض الحائط،.... وهو لا يزال في ألميريا بأرض اسبانيا يفكر في شقراء بلجيكية وسرعان ما يدخل في علاقة عاطفية بل جسدية مع كريستين التي تعرف عليها في أحد مقاهي أنفرس، لتحمل منه ... وصالح في مرايا لمصطفى شعبان يفسخ خطوبته على هنية ويلقي بالخاتم على لأرض ؟و في الصفحة السابعة من الرواية نجده قد أوقع مريلان في شباكه في حديقة من حدائق باريس

(والسؤال هو ما الداعي إلى هذا الرمز السردي العربي للذات الجنوبية بهذه الخصائص ؟؟ أهي تلك العلاقة الأزلية بين الجنسين ؟ أم علاقة أملتها وكرستها الثقافة الجنوبية بمختلف روافدها؟ وإذا صح ذلك هل انتهى من ممارسة لعبة التجهيل على المرأة الجنوبية حتى آمنت بأن لا حقوق لها في الحياة فأدت له مراسيم الولاء، وأضحت وسيلة وأداة، لا يأبه لها إلا عند الحاجة ويهملها بعد ذلك مهما كانت درجة قداسة العلاقة، واطمأن أنها لم تعد مصدر خوفه هاجر نحو الشمال ليستكمل فتوحاته ويحقق انتصاراته يخضع المرأة الشمالية ويأسرها في قمقم خوفه .. يسعى إلى وأدها حتى على الورق كما وأدها في الفضاء الجنوبي؟.

2 ـ الملاحظة الثانية يلاحظ المتلقي أن الرمز السردي للذات الجنوبية هو من تخول له في الرواية العربية عموما رسم صورة رمز الشخصية الشمالية يحركها وفق منظور ثقافي جنوبي ... فالصورة التي يرسمها لها هي ثمرة نسق ثقافي جنوبي تحكمه نظرة ترسخت على مدى أجيال لا عن طرق الممارسة اليومية فحسب بل عن طريق الموروث الثقافي الذي يمتح من تشبع بالمعتقدات في تناقضاتها من الاعتقادات الخرافية والسحر والشعوذة في ترسباتها العميقة بالأمثال والحكايات والنظم والقص الذي صاغه الرجل نفسه لغرض ضرب قوة المرأة وسلب شخصيتها حتى أضحت مقتنعة بأنها تابعة له تمشي خلفه تقتفي خطاه حتى ترسخ في الذاكرة نسق فكري له بمكونات غائرة ٍ في الماضي، متوارية في أعماق النفس الجنوبية واللا شعورها وفي الآنا الجمعية، الشيء الذي ينتج صورة لرمز الذات الشمالية بألوان جنوبية محضة، وهي صورة تجانب الصواب، ولا تستجيب لتمثيل الهوية الشمالية (مريلان في مرايا رمز الذات الشمالية) ببساطة شديدة تقبل تتنازل مجانا أن تستبدل باسمها اسما عربيا مؤقتا لفترة عطلتها وذلك لمجرد إرضاء الوسط العائلي لصالح في حين عندما تعلق الأمر بتسمية الوليد المرتقب وهو من صلب صالح العربي أصابها الجنون وتعصبت للاسم الشمالي وهذه صورة لرمز الذات الشمالية مردودة، فهو بهذا الرسم يغفل لون حرية واستقلالية رمز الذات الشمالية في شقيها المادي والمعنوي التي نحتتها عقب معارك نضالية طويلة

3ـ وعندما تتحاور الذات الشمالية مع الذات الجنوبية تكشف تدريجيا عن مكونات الشخصية الجنوبية عموما والركائز التي تقوم عليها وتستند إليها غالبا ما يمثلها الالتصاق بالماضي بسيئاته وحسناته بما رث من أسماله، بغثها، وسمينها كما أن أغلب سلوكات الرمز السردي الجنوبي في الفضاء الغربي لا تمت بصلة للشخصية الجنوبية الحقيقية إذ يمارس الزنى ويتعاطى الخمرة ويقامر بل يمارس ما تتبرأ منه الشخصية الجنوبية لتكتشف هشاشة واقع الشخصية الجنوبية والأمثلة من الروايات المذكورة كثيرة ...و تأسيسا عما سبق غالبا ما يسفر الحوار جنوب شمال عن تباعد وعدم تواصل وقد يؤدي الى العنف ( نتيجة لماضي يحيى كما عرفته كريستين كان الهجر رغم محاولات يحيى... ظل وضع صلاح وماريلان في مفترق الطرق وقد حصل هذا مع السارد في الحي اللاتيني لسهيل ادريس، وقنديل ام هاشم ليحيى حقي وغيرهم كثير)

هذه ثلاث ملاحظات تكاد تكون خصائص للرواية العربية المرتبطة بالهجرة إلى الشمال إلى درجة قد يُعتقد معها أنها خاصيات أجناسيةً داخل جنس الرواية العربية ككل، حتى إذا لفت انتباه القارئ عنوان رواية يوحي بالهجرة إلى الشمال تكونت لديه فكرة مسبقة أو لاح أفق انتظار يتحددٍ في مهاجر خرج للدراسة التقى بفتاة غربية عاشا قصة عاطفية ثمرتها وليد مع ميلاده تبدأ الاختلافات

******

ثانيا: إلا أن رواية " همسة في آذان الرجال" للروائية المغربية : لطيفة الرخاء شهام ... خرجت عن تلك القاعدة فتلك الملاحظات التي قلنا عنها تكاد أن تصبح خصائص أجناسية اختفت أو كادت تختفي فالرمز السردي الأساسي للشخصية الجنوبية في هذه الرواية هو السارد نفسه لم يعد من جنس الرجل كما عهدناه من قبل بل أضحى من بنات حواء ... فهل ترى كيف ستمثل الذات الجنوبية؟

ولدت (الرمز للتمثيلي للذات الجنوبية) بإحدى الواحات جنوب المغرب حيث قضت السنوات الأولى من طفولتها .... نقلت على مضض إلى باريس حيث عاشت ونمت وتعلمت وترعرعت ودرست ...، ورغم عدم الاستقرار النفسي نتيجة اقتلاعها من الواحة حيث خلفت جذور شخصيتها وإرغامها على الانخراط في حياة غريبة تفتقد فيه أدنى شروط التواصل ورغم الفوضى التي كانت تعم البيت نتيجة الخلاف بين والدها الحسين/الجنوب وزوجته جاكلين/الشمال وانقسام البيت فيما بعد إلى حلفين، ورغم الضغط الذي مارسته عليها جاكلين ؛ حصدت ضفائرها التي طالما تعهدتها أمها هموشة وجدتها يزة بالحناء جزء من كيانها جزء من الشخصية الجنوبية .. بل راحت تلقي ملابسها المغربية أو التي اقتنيت بالذوق الجنوبي في القمامة بعشوائية وازدراء، بدعوى أنها لا تناسب البيئة الفرنسية لتجعل فاصلا بين عهدين ص 65 .... فرضت عليها جاكلين أسلوب الحياة الشمالية تجردها من شخصيتها الجنوبية ... وكلما عنّ لها الصراخ من داخل ضعفها، تذكرت وعدها لوالدها الذي وقع هدنة مع جاكلين من مقتضياتها تسليم أمر فاطنه لجاكلين حتى تروض وتقبل عضوا في العائلة...

فكيف رسمت الرواية صورة الشخصيتين الجنوبية والشمالية هل من زوايا مختلفة أم من نفس الزاوية أو بمعنى آخر هل اقتفت الساردة أثر السارد العربي في تقديم رموز الذات الشمالية بمنظار جنوبي أم أنها استطاعت أن ترصدها بعين العارف الخبير تتيح لها رسم الشخصية وفق شروط موضوعية ... وتبعا لذلك هل حافظت على الهوة وعدم التقارب بين الذاتين لتعلن الذات الجنوبية الانسحاب من طاولة الحوار عند مستوى معين، كما عهدنا من قبل؟ أم أن رسمها للذاتين من زواية مختلفة مكنها من الوصول إلى نتائج مختلفة؟

الذات الشمالية، لم تقتصر الرواية على نموذج واحد كرمز سردي بل حاولت الإحاطة بهذه الشخصية من خلال ثلاثة نماذج متكاملة : جاكلين/ الأم المربية – ابنتها/ نادية- وبيير / الصديق

جاكلين الفرنسية زوجة الحسين المهاجر المغربي ابن الواحة، أبو فاطنه، زواجها بالحسين من جهة وقبولها بالطفلة فاطنه تحت سقفها يوحي بوجود مبدأ تقبل الآخر لكن على أي أساس؟ يبدو من خلال نمو الحدث متمثلا في تجريد فاطنه من ضفائرها ولباسها وتعليمها أساليب الحياة الفرنسية ..وتعليمها القراءة والكتابة بلغة الشمال .. وإعادة تربيتها وفق مقتضيات الحياة الغربية كالجلوس الى الطاولة وإمساك الشوكة 68 كل هذا تحت أنظار الحسين وهو يصفق لكل تغيير، شخصيته ذائبة في شخصية جاكلين / السعي إلى تذويب الذات الجنوبية وإصهارها في بوثقة الذات الشمالية، (تحويل فاطنه إلى فاتي) إلا أنها لم تكن تعي ما الذي كانت تسديه للذات الجنوبية (فاطنه) من خدمة

هذه جاكي التي أصبحت من بعد،ــ وخاصة لما اشتد عود فاطنه وأصبحت مرجعا لجاكي نفسها وابنتها تنظر للحسين وفاتي ــ تنظر نظرة تعال تحط من قدر الإسلام والمسلمين تزهو بمسيحيتها ص 139 بل قسمت الغرفة غرفتين هجرت الحسين 140 وأولت كل اهتمامها لنادية ابنتها... زواجهما يحتضر يأخذ طريقه القانوني نحو المقبرة " عجيب كيف تعايشت المسيحية والإسلام تحت سقف واحد كل فترة الزواج،أصبحت جاكي تواضب على الذهاب للكنيسة كما أصبح بالحسين يصلي الاوقات الخمس ص146

كل من جاكي والحسين لم يكونا في مستوى الحوار وتقريب وجهات النظر

 

 

نادية ابنة جاكلين التي ظلت فاطنه تعتقدها أختا لها من أبيها الحسين، أقبلت على ممارسة حياتها بحرية تامة بعيدا عن كفالة الوالدين وعن كل وازع ديني أو أخلاقي وعن القيم الفاضلة المتعارف عليها،منذ مراهقتها أرخت العنان لنزواتها وراحت تسابق شهواتها بدعوى الحرية التي يكفلها لها القانون، فشلت في الدراسة سادت علاقتها بالعائلة تشنجات ص80 تمارس العداء والعنف اللفظي على فاتي، وأحيانا يحكم علاقتها بها مد وجزر حسب تقلب درجة الغيرة ... تخلت عن الدراسة بحجة ميولها للموسيقى فانخرطت في كوكبة ممارسي موسيقى الصخب على مسامع الثملة ..أدمنت الحشيش تدعي الانفلات من الواقع والتحليق في عالم روحاني بل أدمنت حقنات المخذرات، بعد عناء عثرت عليها فاتي أدخلت المصحة، ص95 بعد فترة التحقت بالشارع، تعود إلى الشارع ص98 لتعيش الضياع وتنخرط في جماعة الفرسان الجهنمية التي تعتبر أسس المجتمع قمامة بالية 105 وتحمل وتصاب بالسيدا107 ..

نلاحظ في هذه المرحلة وعند استنجاد نادية بفاتي أن الحرية الجامحة أحد مكونات الشخصية الشمالية عادت لتطلب النصح من الاتزان والتعقل والعلم المرصع بالذات الجنوبية، وبفضل التعامل الحضاري الراقي استطاع رمز الذات الجنوبية الحقة/فاطنه الإحاطة بموضوع الذات الشمالية الجامحة في الحريات ومساعدته على استتباب وضعه النفسي ...تستنجد ب/ فاتي لتخرجها من الحصار المفروض عليها من طرف الجماعة،إلى غاية إيصالها إلى مؤسسة تستقبل حاملي الفيروس، بل تتعهدها بالرعاية عن طريق الزيارات والسند المعنوي والنفسي

بيير : طالب فرنسي مجد، محيط بجميع مجالات المعرفة من عائلة عريقة ثرية، زميل فاتي في الدراسة، موسوعة متنقلة يحيط بأسباب المعرفة، يؤمن بالقيم النبيلة أنى كان مصدرها يسبقها بسنه يلتقيان في الحرم الجامعي يتحدثان في جميع صنوف المعرفة كان قدوة لفاتي تعلمت منه ومعه، رفقة بيير اكتشفت انها لا تعرف شيئا عن الأديان عموما وعن دينها الإسلام خصوصا ص91 فشعرت بالخواء الداخلي وهي بين حضارتين متناقضتين ص 92 أقبلت بنهم على البحث إلى أن أصبحت تناقش بيتر في مختلف جوانب الدين الإسلامي، وخاضا في موضوع الحجاب يعتز بصداقة فاتي التي تطورت لديه إلى حب عفيف طاهر، ظل يركض خلف حبها، بل طلب يدها للزواج وقد تمنعت لأسباب الاختلاف في الهوية وخاصة مكونها الديني،

 

الشخصية الجنوبية

الحسين رمز سردي لأحد مكونات الذات الجنوبية رسمتها الساردة من خلال ثلاث صور إحداها في الجنوب حيث يبدو ربَّ العائلة الماسك بجميع بزمام الآمور، صاحب الآمر والنهي والأب المستبد، لا تقف حريته إلا عند حدود آنا المجتمع أما الثانية فالتي ظهر عليها في الشمال هي الخضوع والاستسلام لسلطة الشخصية الباريسية يرضخ لجاكي، يذوب ملبيا رغبات زوجته يطمس الفوارق بينهما... كلما رغبت فاطنه في الحديث إليه يقول لها انظري مع جالكين حتى تبين لها أن الحسين باعها لجاكلين .. حتى ضاعت صورة فاطنة وحلت محلها فاتي ص69... أما الثالثة فمنذ بدأت الهوة تتسع بين بالحسين وجاكلين ...أصبحا غريبين تحت سقف واحد كل واحد يبحث عن هويته متخذا جميع الوسائل لتأكيدها ولإظهار معالمها .لقد أصبح لا ينطق الا بالعربية والأمازيغية وعلى جاكي تعلمهما فلا يهم هل تفهم أو لا تفهم .... شخصية نمت على شكل حلقة بدأت من تمثيل للذات الجنوبية ونمت لتستسلم للذات الشمالية ثم لا تلبث أن تعود لأصالتها ونظرا لوزن الذات الأصل استطاع أن يساهم في عودة فاطنه إلى فضائها الأصلي، حيث روح الأسرة والتحامها وتماسكها ومحافظتها على سلمها الإداري المنحدر عن النظام العشري سلطة الحسين رب العائلة وأوامره المطاعة رغم غيابه وسلطة الجدة المسير الفعلي للأسرة في غياب الحسين واستلام هشومة زوجة الحسين مقاليد القيادة بعد الجدة في غياب الحسين طبعا .ص 9 وما بعد .. وعودة هموشة إلى وضعها مع وفاة زوجة أحماد وعودة الحسين لاستلام سلطته الفعلية بعد ان مورست في غيلبه بالنيابه

ومن جهة أخرى تتمثل في المعتقدات البالية الناجمة عن الجهل المطبق المتوارث الذي يقيد كل الآفاق ولعل الرمز السردي الذي مثل هذا الجانب بشكل جلي العم احماد الذي ظل يحمل مسؤولية إنجاب الإناث لزوجته ويهددها ... ا حماد عالَم محدود بجغرافية القرية ومرعى القطيع والفضاء الذي يكنفه يمتهن الرعي الشيء الذي يوحي بآفاقه المعرفية رغم تردده على مسجد القرية في مرحلة كهولته، المعلمة العلمية الدينية ومجاورة الفقيه اعلم الناس بالقرية ومعلمهم أمور دينهم ودنياهم ظل على جهله وغيه أو بعبارة أخرى لم تستطع هذه المؤسسة استئصال جهله فزوجته وبناته بالنسبة له مجرد أطياف تمر أمامه ولا يراهن، ينزعج لسماع أصواتهن، ويثور،وتصيبه نوبات .. يأكلن متسترات لا حق لهن ص 185 في مشاركته الطعام ... علم عن طريق أخيه الحسين الذي حاول إقناعه أن الجنس ليس بإرادة الزوجين أو بالأحرى ليست الزوجة مسؤولة عنه .. .. اختفى من الواحة لمدة احتجاجا على هذا الواقع يرفض أن يزدان فراشه بصبية ويجن عندما سمع أن الرجل هو المسؤول عن جنس الجنين ...و لما علمت زوجته بحقيقة جنس حملها عن طريقه وإقدامه على تنفيذ وعيده ارتكبت جريمة الانتحار في حقها وجريمة الوأد في حق بناتها الأربعة جهلها بأمور الدين والدنيا،ص 227و 228، هذا أحد مكونات الشخصية الجنوبية وهذي النتائج المترتبة عنه إلى جانب وضعية الزوجة الجنوبية وقد رمز لها التمثيل السردي أيضا بهموشة التي لم تبد أي رد فعل تجاه زواجها الموقوف لمدة عشرين سنة،أمام هجرة وحيدتها إلى فرنسا مع عودة الحسين تستقبله في غرفتها على فرشتها بكل عفوية وكأنه لم يغب عنها لحظة وكاني بها لا تعرف شيئا عن علاقته بجاكلين .. ترضى بما يجود عليها ولما يهجرها تستأنس بذكراه ص 162 .... وإذا أضيف إلى كل هذا واقع الفتاة كما جاء على لسان أحماد، أن والدتها هي مدرستها تعلمها أمور حياتها من طبخ ومسح وحلب وصر ص 202 ...تراءت لنا صورة الذات الجنوبية كما تعكسها الرواية

ذكورية بامتياز، وترى الرواية أن العامل في هذا هو خوف الرجل من المرأة في الذاكرة الإنسانية 204 يدرك مدى حاجته إليها طفلا وزوجا وأبا ملتمسا رضاها وحنانها وفي كل هذه المراحل يعتم على خوفه بالهجوم، يتخذ لتحقيق ذلك استراتيجية محكمة ترسخت حتى أصبحت قناعة المرأة قبل الرجل ولذلك حرص على أن يبقي هذا العفريت في قمقم ويعمل جاهدا على مداراة ضعفه بكل ما أوتي من وسائل لينمي ويكرس إحساسها بحاجتها الدائمة والمستمرة إليه ... يعمق الفارق بينه وبينها أقنعها أنها مجلبة لعارٍ هو الأصل فيه يحرص على تجهيلها لا ترتاد غير مدرسته التي هو شيخها لإبقائها مريدا له ولعل اعتماد الرواية على الأمثال الشعبية بشكل لافت دليل على أن الظاهرة ظلت تترسخ جيلا بعد جيل " عز المرأة خيمتها " وهذا ما يفسر النظر الشزر الذي يوجهه أحماد إلى فاطنه وهي تتحدث إلى بيير عندما زارها بالواحة، فهي مجرد وليه فكيف تسمح لنفسها بذلك وهو أحد أوليائها ... ومن جهة أخرى حاجة المرأة عقلية صاغتها آلاف السنين

أما الشق لوضاء في الشخصية الجنوبية فمثلته الساردة الطفلة فاطنة ابنة الواحة جنوب المغرب التي أرغمت على غربة مزدوجة ترك والدتها وجدتها وقريتها والفضاء الذي رتعت فيه من جهة، والحلول ببيت غريب لم تلق منه ترحابا، في عالم ضيق تزاحم امتداد البصر فيه العمارات الشاهقة ...وجدت نفسها بين تلاطم حضارتين، تتقاسمها شخصيتان فاطنه المغربية وفاتي الفرنسية، وضع يفكك الهوية ويخرب الشخصية، ازدواج الشخصية مبعث اضطراب 97 فأخذت تبحث لنفسها عن مرجعية تعلمت العربية جدّت في البحث حتى أصبحت تجادل بيير الموسوعة المعرفية في أمور الدين وتقارع الحجة بالبرهان ص 93 أصبحت أكثر التصاقا بالذات ..عقب عودتها الى الواحة سألها بيير أعز الناس إلى قلبها هل قضت حياتها في التحصيل العلمي لتبقى في الواحة إلى جانب الأبقار والأغنام فلا مستقبل هنا والحياة لم تبرمج للرجوع إلى الوراء بل للتوجه دائما إلى الأمام وكان جوابها: أنا مع أبي أهلي وعشيرتي لا تنس هذا ص 164 .. والأمام ليس هناك فقط كما تعتقد فشهادتي تخولني للعمل هنا كما تخولني للعمل هناك ص 164 .. تبقى على اتصال بالحياة الشمالية عن طريق محادثة بيير والتواصل مع نادية ...

أضحت فاطنه/فاتي رمُز الذات الجنوبية في التمثيل السردي محورا وقطب الرحى ...كل مَن حولها من العائلة الشمالية في حاجة إليها، فيها المواساة وفيها العزاء فيها فلسفة الحياة تنير الطريق وتجلي العتمة حديثه فاتي مع كل من بيير وجاكلين ص 169 اعتراف الشخصية الشمالية بالذات الجنوبية المقنعة : نستمع لتعليق جاكي لم تضيق بنفسها ولا تعرف لها اتجاها وتجد الى جانبها فاتي : تبسيطك للأشياء يبعث الطمانينة في النفس، ويزود بالطاقة للإقبال على الحياة ..

في قبول فاطنه ملازمة والدها لها أنى رحلت بل في رغبتها في ذالك قناعة بالولاية اذ كان يقيم معها بالبيضاء وقلما يذهب لتفقد أحوال البلد يقضي معهم أسبوعا فيقفل راجعا حتى لا تظل وحيدة ص192 ..الاختلاط

...ناقشت مع بيير عزم والدها على اصطحابها للبلد رغم منطق الأشياء كما يرى بيير لم تخالف لوالدها امرا " طاعة الوالدين في الإسلام تأتي مباشرة بعد الإيمان بالله وطاعته وخصوصا البنت قبل أن تتزوج ص153 فالإسلام دين ودولة يقنن الحياة العامة والخاصة

استطاعت الهوية الجنوبية المؤسسة على العلم والمعرفة وعلى الإيمان الصادق أن تقنع الشخصية الشمالية بنضوجها أنها أهل لمعانقتها والإيمان بها والمزاوجة بين الجنوب والشمال ص 233 – 234 كيف استطاعت أن تؤالف بينهما وتبرز الحب والسلام أسمى ما يصبو إليه الإنسان –

 

ثالثا:

ـ رسم صورة واضحة المعالم للشخصيتين معا

بالنسبة للشمال

لم يعد رمز الذات الشمالية هو تلك المرأة التي يفوز بها المهاجر الرمز السردي للذات الجنوبية بسهولة " لكونه هو من رسمها وفق نسق ثقافي جنوبي بل، قصدت رواية " همسة في آذان الرجال" إلى تجاوز هذا الرمز واكتفت بحصره في مجال أحد مستويات الثمثيل السردي للذات الفرنسية في شخص جاكلين التي تزوجت المهاجر الحسين مع كل الاختلافات والفوارق فعاشا في فوضى عارمة وانهتيا الى الفراق،

لم تقف الرواية عند هذا المستوى من التمثيل للذات الشمالية بل راحت ترسم الرمز وفق نسق ثقافي شمالي متكامل ضم الإيمان بالحياة المؤسسة على الحريات الفردية والجماعية وحتى المغالى فيها إلى درجة الفوضى " تجربة ناديه" وصولا إلى رمز الشخصية الشمالية المؤسسة على العلم والمؤمنة بالاختلاف والمسلحة بالمعرفة والقيم الإنسانية والحب في أسمى معانيه من خلال شخص "بيير "

بالنسبة للجنوب

كما رسمت الصورة الحلم للذات الجنوبية والرمز الأساسي فتاة منحدرة من جنوب المغرب أرغمت على الاغتراب في الديار الفرنسية تسلحت بالعلم والمعرفة وتحلت بالصبر والاتزان وتفقهت في أمور دينها ودنياها لم تسمح لنفسها بالارتماء في أحضان الحياة الباريسية بل عاشت عفيفة طاهرة جادة مجدة خدومة نصوحا حتى استأثرت بقلوب من أكنوا ومن أظهروا لها العداوة والكراهية من قبل، واستطاعت أن تثبت أن الجنوب المكان لا يقل أهمية عن الشمال ولا الشخصية الجنوبية أدنى مستوى من الذات الشمالية بل أظهرت أنها أرقى من الشمالية وأسمى ولا أدل على ذالك من لهث بيير الرمز السردي الشمالي في البيضاء وفي الواحة خلف الرمز السردي الجنوني فاطنه

لعل الخطاب الموجه من ثنايا الرواية متعدد الجوانب منه :

ـ تصحيح مفهوم العلاقة بين الشمال والجنوب فهي ليست علاقة تضاد وتنافر وسخط ونفور وعداء، بل كانت هي علاقة تكاملية أساسها الاحترام والتقدير ولا أدل على ذلك مما حدث مع الرمزين فاطنه وبيير وأن الحوار الهادف والبناء بين مختلف الذوات بمكوناتها المختلفة الدينية منها والحضارية والتواصل المؤسس على المعرفة والتسامح واحترام الأخر سبيل التعايش وتذويب الخلافات رغم الاختلاف

ــ تصحيح النظرة الجنوبية للذات الشمالية من خلال ضرورة رسم الذات الشمالية وفق نسق فكري شمالي بدل اعتماد الألوان الجنوبية و النسق الثقافي الجنوبي

ــ إعادة الاعتبار للمرأة الجنوبية " لولية "التي قضت حياتها تخلص الولاء للأب ثم للاخ بعد ثم للزوج ثم للابن بعده فأصبحت تدين لهم بالاحترام بدل الولاء، أعلنت استقلاليتها الشخصية وأثبتت ذاتها بقوة العقل والعمل

 

كل التقدير والاحترام للروائية التي عالجت موضوع الهجرة من زاوية أرقى وبطريق حضارية استطاعت أن ترفع الوأد بجميع أنواعه لا عن المرأة الجنوبية بل عن حواء كممثل للشخصية الجنوبية في الرواية العربية إذ لم تتعامل معها من منطلق الأنثى الراضخة لإرادة الرجل الجنوبي ..الذي ظل هاجس الخوف من المرأة يقض مضجعه وكرس تاريخه لطمس ملامح المرأة وضعها تحت رحمته وضيق عليها حتى ينمو ويرسخ لديها الإحساس أنها "ولية" عليها الولاء للأب والأخ والزوج والابن

 

عيسى حموتي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم