صحيفة المثقف

امتِـناعٌ لامـتِـناع

saida taqiللبداية حكاية زرقاء: قبل أيام قليلة، وفي فورة الحشد الذي كانت تعرفه جدران الفيسبوك ضد بث الشريط السينمائي الأخير لنبيل عيوش، كتبت على صفحتي:

لنتحدث قليلا بعيدا عن التشنجات والاصطفافات والانتماءات.

إن الأمر في نهاية المطاف لا يتعلق بشريط سينيمائي لـ"نبيل عيوش" أو بأغـنية لـ"زينة الـداودية" أو لـ"سعـد لمجرد" أو فيديو لـ "الساطة الفٌلانية" أو لـ "لشيخ العلاني" أو بمقال للإعلامي المعـرَّف أو للـمُصلحة المعـروفة.. الأمر لا يتعلـق بهذه الظـواهر المخصوصة، وإن كان في المنطلق نابعاً عن ما أثارته وتثـيره من جدل وضجيج ونجاح في الاستقطاب والترويج والإثراء.. الأمر يتجاوز تقييم تلك الحالات الفردية أو نقدها إلى تقييم الفـكر الذي يقف خلف إنـتاج تلك الـظـواهر "الخاصة"، ويقـف خلف استقـطابها للاهـتمام ونجاحها في استدعاء الصخب في كل إطلالة أو عبور أو تثاؤب..

والأمر بعد ذلك يتعلق بالفكر الذي قد يتلقّى ويقيِّم ويحلِّل خارج الوصاية التي تفرضها وسائل الإعلام والإشهار والتشهير، وخارج الظواهر التي تمارس صخبها دون أن تغيِّر شيئا في واقع يستسلم بألفة لقواعد الجمود ويرقص لكل نغمة شاردة ويصفِّق لكل نكتة مهما كانت سخيفة.

الأمـر لا يتعلـق بـإنـتـاج (قد يكـون فنيّـاً أو لا يكـون،) لم يـدرك بعد السـبـل الصحـيحة والسامية والجميلة التي عليه أن يسلكها، قصد الارتقاء بالذائقة الفنية خارج استغلال القبح بشكل فج. فلا يمكـن للذي يتغـنى (من الغـناء طــربـاً أو بصيغ أخرى) بقـيم يـمجُّها الـذوق ويرفضها العقل وتقرف منها الروح، ويروِّج لها في كل فعل أو افتعال تجاري،لا يمكن له أن يسيِّر كل النقاشات، ويوصف بالفنان، وتؤمَّن له مسالك النجاح فوق كل ذلك، لكي يواصل المكاسب ويترك الخسائر لسجل القيم المنكوبة.

الأمر يتعلّق بالإضافة إلى كل ذلك بشروط للتلقي تتصالح في نهاية السهرة مع كل مطرب لا يطرب.. وتدعو له بالتوفيق، وتنتظر بلهفة ما سيقدمه من جديد.

و تتجدد المواسم والحلقات والنجوم..

لم تعد الأمور في اللحـظة الرقـمية التي نحياها مرتـبطة بقدرة على إنتاج النقد الرصين ولو خارج الأدوات المنهجية، فالكل يـدَّعي أنـه يمتلك من القدرات "المعرفية" و"الفـكرية" و"لاجتماعية"، ما يؤهـله لصياغة وصـلات نـقد سلـيط اللـسان يميّـِز الجيـد من الـرديء.. والقافلة تسير و"النقاد" يروِّجون هنا وهناك وهنالك. لكن كم من نقد كانت وظيفته مثل الوصلة الإشهارية المجانية التي تسعى إلى تعرية العيوب، لكنها في العمق تضع ما كان خارج التغطية داخلها..

كل ظاهرة جديدة وأنتم في غفلة عن الإشهار والتشهير والاستشهار.

 

لبياض أكثر:

ذلك ما كان قبل أيام، ولمن فاتته وصلات الأخذ والرد والحكم والتقييم التي صالت فيها كل الأقلام، ولم تشهد غير حرية التعبير على حق متاح وحق ممنوع، الأمر لم يكن مرتبطا بموجة رفض اعترت قاطني الفضاء الأزرق ضد الشريط السينيمائي إياه، مما أوهم كلَّ المشاركين فيما بعد صدور القرار الرسمي القاضي بمنع بث الشريط وتسويقه، بأن سلطة أخرى ملوَّنة بالأزرق قد شرعت في تثبيت حقِّها في مواجهة كل القضايا والملفات بصوت مسموع وسلطة نافذة.

و بعيدا عن كل الألوان الأخرى كذلك، القرار لم تكن له علاقة بمصادرة شريط سينيمائي تسرَّبت بعض مشاهده خارج السياق، أو شوهد كاملا قبل الترويج، أو صعقـتْ لقـطاتُه المخـتارة للإشهار والإخبار(البرومو) ذائقة المُشاهد. الأمر بكل بساطة كان قرارا سياسياً دون أي إضافات ملوِّنة أو مواد مُحافِظة.

و لمن أراد أن يواصل تذوُّق المشهد بنكهات أخرى، قد يكون مثيراً للتأمل فتح الوصلات المتعدِّدة على روابط حرية التعبير أو نوافذ حق التعبير الموصَدة.

ففي عـمق المـنع الاخـتــيـاري والانتـقـائي دون قانـون واضح المـعـالم والإكـراهـات والتوصيفات، ودون هيئة رسمية يفوَّض لها بموجب المؤهلات الفنية التي تحتكم إليها أن تعيِّن ماهية العمل الفنّي وأن تسمي العمل غير الفني بتلك الصفة، ستكْـمُن نزواتٌ ومقاصد وإرادات تتكئ على كل الخرائط السياسية ولا تُعلِن في الجهر سوى أحكام القيمة المكيَّفة وفق الوقائع والحيثيات الملابسة.

و بافتراض المنع المؤسَّس بموجِب القانون وصلاحيات الهيئة المانعة وتوصيفات نص المنع الواضحة والموضوعية، سيُمكِن لحق حرية التعبير أن يعلي شواهد قبور عديدة باسم الإبداع والمقاومة والمعارضة والتفكير والتنوير وغير ذلك مما تُحتَمَل مصادَرته عنوة قيد الضبط والحصر والتنفيذ، دون أن يلحق المصادرةَ أيُّ اعتراض أو احتجاج أو أخذ ورد، حيث سيقال ببساطة "القانون فوق الجميع"، وإن كانت جل القوانين في بلداننا لا تَنْبتُ ولا تُسْتنْبَتُ بمقاصد حقوقية سليمة النوايا والهياكل والأجزاء أو بُغية بياضٍ أكثر.

 

لِذهَبٍ ليس خالصاً تماماً:

بعيدا عن مغرب شمال إفريقيا وقريبا من مشرقها هناك في لبنان لم يكن ذهب جوائز الموريكس خالص اللمعان. ففي عمق التتويج والاحتفاء والتكريم مرَّت فوق "السجاد الأحمر" أغانٍ باهتة فنياً، لكن ذائقة لجان التحكيم رصدت فيها، مثلما قد رصدت المجتمعات المُنتِجـة اقتصادياً أو المتذوِّقـة موسيـقـياً أو المتـضامِنة وطـنياً ملامح إبداع يستحق التتويج والفوز.

حينما يتم فـرز تلك الأغـاني أو لنقل أغنية ما محدَّدة ومعلَّـمة بعيدا عن الاندفاع الحماسي (اقتصـاداً/إشـهـاريا أو تذوقـا/مـوسيقـياً أو تحـيُّزاً/وطـنياً) من حيث نص الكلمات وإبداعية اللحن وخواص التوزيع الموسيقي وطربية الغناء أو الأداء، ستتعرى مقولة توصيف لا علاقة له بالفن أو بالموسيقى أو بالطرب، إن تلك الأغنية قد تحقق نسب مشاهدة عالـية وقيـاسية على اليوتوب، وقد تـروِّج لها بنجاح كبير كل وسائـط الإعـلان والإعلام والترفيه، وقد تتفوَّق في استمالة أفئدة الشباب وأصوات الناشئة التي تبحث عن أي نجاحٍ أو شهرة لترصد خطاها وتتقفى آثارها. وقد تكتسـح تلك الأغنية أو غيرها كل علب الليل والمراقص والنوادي، وقد تتيح للمنتشين بجميع الأشكال وسيطاً ملائما لرفع منسوب الإصدارات الجسدية، لكن بعـيدا عن كل مصنَّفات الطرب أو الغناء أو الموسيقى أو الفن.. وبعيدا عن كل قيم الرقي أو السمو أو الإبداع.

قد يكون من الصعب التخلُّص من أحكام القيمة، لكن لسبب بسيط جدا يسمى الفن فنّاً بالفعل، ولسبب أبسط نتساءل أمام بعض الأعمال الفجة التي تدَّعي أنها في خدمة الفن، عن أي فنٍّ يتحدَّثون؟!

 

قيد التساؤل أو المساءلة:

قد تكون للحكاية بدايات زرقاء متعددة.. وقد تكون حجج الألوان في الازدحام أمام الرقعة الواحدة حافزاً للبحث عن صفاء أكبر ووضوح أقوى وبياض أكثر.. وقد يكون لمعان ذهب الموريكس ليس صافيا بما فيه الكفاية، وليس شفيعاً لتسيـيد قيمة فنية لأغنية تدَّعي الفن دون أن تعلِّمه.

لكن لنستعِذ بالفنِّ من كل الرَّداءة المستبدَّة، ولْـنَقُل بوضوح وتأمل: إن التخلُّف بنية اسفنجـية تمتص الرداءة ببساطة مُمعِنة في التصالح مع الواقع. فهي بنية لا تملك أدوات المـقـاومـة أو المـمانعـة الأولـية التي من شأنها أن تعـفيها من الانغـمـاس في كل ما يـشيع أو يتراكم أو يسود باسم وسـائط الإعـلام والإعـلان المستشرية أو باسم قيم الربح الأسرع والأسهل ولو كان الثمن تشوُّه روح الإنسان أو تشويهها. وإن الفن لا يمكن أن يكون إنـتاجا مـباشراً يقول الأشياء مثلما هي دون أدنى وساطة فنية أو إبداعية أو جمالية، يكـرِّر الواقـع بشكـل فـج وقـاتـل، ويستنسخه بحرفية ممعنة في الولاء لكل قبح ويدّعي بعد ذلك وقبله التزام الواقعية..

 

سعيدة تاقي

ـ كاتبة من المغرب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم