صحيفة المثقف

جدلية القلق والجنون عند ابي القاسم الشابي

sadam alasadiمنذ ان قال هيرقلطس (هيهات ان يسبح الانسان في النهر مرتين بدأ الفكر يرخي حبل غاربه على سفينة الزمن التي طوت المراحل المستمر في حركتها وشكلت تناقضا ً فيما بينها، موت وحياة، زهر وشوك، شباب وشيخوخة،هموم وغيم، وهكذا سمت الالفاظ تقترب من نظائرها لتعطي دلالات متغايرة فبرزت الجدلية في الحياة والممارسة وكانت في العلوم المتنوعة، ومنها جدل القلب الذي يعنى بولع النفس الانسانية بالصور الجميلة وتجاوزها الى التأمل، وقد خصبت ارض لغتنا العربية بتلك التأملات الرائعة، وكان للشعراء الكبار دور في رصد تلك المعاني، فعندما نقرأ جدلية ابي تمام نقف منبهرين امام تلك الرؤى:

فأني رأيت الشمس زيدت محبة ً الى الناس اذ ليست عليهم بسرمد

وحين يصف جملا يرعى في الفيافي ، يصور سمنه وضعفه معا ً فالسمن نتيجه الرعي، والضعف نتيجة الجهد الذي يبذله لجوب القفار فكأنما رعته بعدما رعى نبتها:

رعته الفيافي بعدما كان حقبة رعاها وماء الروض ينهل ساكبه

واذا كان هذا الشاعر العبقري قد اطلع على الوان الفكر في عصره الذهبي – عصر العمالقة – فلا يفاجئنا ابدا ً بجدليته ولكن كيف استطاع شاعر حديث لم يعبر الثلاثين من عمره ان يأتي بتلك الجدلية وقد تفوق في مداركها مقدمة على ضدين هما القلق والجون، انه الشاعر العربي التونسي الرائد ابو القاسم الشابي الذي لم يخطئ من يحسب بيته الخالد،

اذا الشعب يوما ً اراد الحياة، فلا بد ان يستجيب القدر

وقد يدرس المهتمون بالادب حياته واثاره والاستاذ محمد الحليوي والسيدة ريتا عوض، وفي العراق درس الشابي ضمن رسالة الماجستير عام 1989 من قبل الباحث لطيف محمد حسن، زد على ذلك ديوان الشاعر بتقديم الاستاذ امين الشابي، ولم يلتفت احد منهم الى جدليته الرائعة مثال ذلك:

ولو لا شقاء الحياة الاليم   لما ادرك الناس معنى السعود

ولعل الشاعر يفصح عن تعادلية لابد وان تتكافئ وتتزن فلولا الشقاء لما عرف الناس طعم السعادة وقد سبقه كثيرون قائلين (لابد دون الشهد من ابر النحل)       (ومن طلب العلا سهر الليالي) وقوله:

كم قلت صبرا ً يا فؤاد الا تكف عن النحيب

فإذا تجلدت الحياة تبددت شعل اللهيب

هكذا زرع الشابي جدلية رائدة تستحق الانتباه، كلما تجلدت الحياة فأن شعلة التحدي ستضعف امامها وهنا يلفت انظارنا الى القوة فهي المعادل الموضوعي لها، وان الحياة بدروسها الحزينة مهما قست فلن تتوقف تلك الارادة وهو يعاني من الضعف الجسدي الذي صار قوة روحية تحدت مناقضها (المقشعم)

وكذلك قوله: فما حبب العيش الا الفناء     وزانه غير خوف اللحود

انها نظرة معرية في فلسفة معروفة ترتبط بجدلية البقاء والرحيل وكلاهما متتابعان

ان التشاؤم والحزن العظيم اللذان يكمنان خلف تلك الجدلية كان مبعثهما المرض     (العبقرية) الذي عبر عنه وفهمه الشابي (القلب) قائلا ً:

اه يا قلبي انت مبعث الامي ومستودع احزاني

من الالم شكل نسبة مهيمنه في معجمه الشعري وما انتظم خلف الالم من الفاظ (الدمع، الشقاء، الانين ، الصمت، الحرمان، البلوى، الحسرة) وهذا يدل على ان الشاعر يحمل حزنا ً كبيرا ً يكتنف الالم حياته بأقصى حالات القلق، فشعره جاء طافحا ً بالشك والقلق واليأس والعزلة والغربة والحنين حتى ليكاد من يقرأ احزانه الممضة ان يجن، بل حتى عناوين قصائدة فاحت برائحته الحزن مثال ذلك (الكآبة المجهولة، السآمة، اغنية الاحزان، الاشواك التائهة، شكوى اليتيم، دموع الالم، نشيد الاسى، الزنبقة الذاوية) كلها قلق وسواد وموت وفانء كيف استطاع الشاعر من كل هذه الصدمات ان يصنع شعرا رائعا ً ان يبلور جدلية في الهوس والجنون وهو القائل بعظمة لسانه (لقد ضعت ذرعا ً بالحياة والا اخالني اليوم لا ذاهبا الى القبر او في سبيل الجنون) وقد صدق الشاعر بقوله هذا ، فقد رحل وظل جنون عبقريته يفيض حكما ص خالدة مع الزمن، اليك منها:

الويل في الدنيا التي في شرعها   فأس الطعام كريشه الرسام

هكذا معادلته الثنائية دائم ً ترصد صورتين (الفأس و الريشة) و الموجه البنائي (الراصد) واحد هو الشرع، الحكم، القانون .... الخ)

وهذه صورة واقعية في مدارك حياتنا التي لا تفرق بين التبر والتراب .

وقال ايضا ً: فما لك ترضى بذل القيود (وتحني لمن كبلوك الجباه !!) وفي تلك الحكمة المتحركة، ترى المخاطب والمقيد والمحني معا فرحا ً مستانا ً مرحبا عن كبله، وهذا هو الاستسلام، وجدلية الخوف وفرض القوة على العاجز .

ان الشابي حكيم شخص للواقع خطاياه و وضع النقاط على الحروف وكلنه عاش في زمن لا يفهم مداركه، لذا ضاعت عبقريته امام جيله سدى، وهو ينظر اليهم ويصفهم بالقردة وهم يستحقون:

وبنو الارض كالقرود وما   اضيع عطر الورد بين القرود !!

و رائ الشابي هيكل الحياة منظم فلا يحق للكافر ان يدخل في منبعه القدسي وهنا دلالة دينية تنم عن فكر مضيء متوهج فأبعدا الكفار الخبيث عن الهيكل وبتمعن ورقة يرى اهرامه الثلاثة التي قامت عليها جدليته، اولها (قلبه) الذي كان سبب نجاح شعره وسرعه موته، فقد فجأه المرض صغيرا بالقلب، حتى جعل منه شاعرا ً، ذلك القلب الذي لم يترك صفة الا نسبها اليه، حتى صار قبرة وليس قلبه:

فأن قلبي قبر مظلم قبرت   فيه الاماني فما عادت تناغيني

حتى وصف قلبه بـ (شقي مظلم، مخضل الدموع، أناقه واهية، مغمور الجراح، عش فارغ، كهف مظلم، قبر اسود، عود بلا اوتار) وكاننا امام مشرحة في غرفة العمليات ما فيها الا القلوب واذا ما اجبره الوزن قال (الفؤاد)

ففؤادي وهو مغمور الجراح   بتباريح الحياة الباكية

وهرمه الثاني (الموت) بهذا لا يفاجئنا الشاعر وقد سبقه الشعراء في نظراتهم المتفحصة للموت، والشابي ما ترك مفردة تحس بالموت الا وذكرها (اللحد، الرمس، القبر، الضريح، الجدث، المرقد، المضجع) وصور الموت صورتين، الموت المفزع المارد الجبار الذي يلوي رقاب الانسانية .

والموت كالمارد الجبار منتصب في الارض يخطف من قد خانه الامل .

 

الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي    

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم