صحيفة المثقف

قبلاتٌ على الجدار

saida taqi بقلبٍ واجف ويدين مرتعشتَيْن أنْعِـيني لأوّل مرة. حينما سكنتُ ذلك الجدار في أوّل الأمر، لم أكُن مجرَّد صورة فوتوغرافية وبعض الأحلام.. كنت أظنني أكثر من ذلك بكثير.. ولذلك رفضت بسيادة مطلقة أن يشاركني أحد موقعي الأثير. كنت أراقبهم يمضون قريباً مني.. أحيانا يرسلون إلي تحـاياهم وقبلاتهم.. وأحيانا يفطنون متأخرين إلى أنني هنا أتلصَّصُ على عبورهم الصّامت وأفعالِهم المُختَلَسة. لم يجرأ أحد في البداية على محادثتي..

لكن مع مرور الزمن غدا وجودي وسطهم مألوفاً.. حكوا لي عن أيامهم وأفراحهم. كشفوا لي أحلامهم وشاركوني أحزانهم وأطلعوني على قصص حبّهم.. لم يكن أي منهم ينتظر تعليقي على حديثه أو إعجابي بموقفه أو مشاطرتي لحلْمه.. كانوا يكتفون بإفراغ ما في جعبتهم، ثم يمضون مسرعين إلى محادثات أخرى وانشغالات أكثر استعجالاً من جمودي الذي لا يغيِّر شيئاً.

في البداية لم أكن أشعر بالاختلاف.. لم أكن أعي التغيُّر الطارئ على علاقاتهم بي.. لكن مع مرور الأسابيع والأشهر بدأ الشك يعتور طمأنينتي المسالِمة.. أراهم يكبرون والزمنُ لا يختبِرُني.. أراهم يسافرون والجدارُ يعتقِلني.. أراهم يهاجرون والرحيل لا يبلُغُني ريحُه. قبل قليل اعتلى الصغير عُمر الكرسي الخشبي وقبّلني على الجبين.. لقد كبر كثيراً، لكنه ما زال الأصغر.. حين نزل عن الكرسي وحمل حقائبه الكثيرة وأغلق الباب خلفه.. انتظرته أن يعود ويحملني معه.. لكنه لم يعد. تركني وسط بيت على مقاس الذكريات وقبر ليس على مقاسي، وغادر هو الآخر.

أصل أخيراً إلى حقيقتي المرّة..

بقلبٍ واجف ويدين مرتعشتَيْن أنْعِـيني لأوّل مرة أنا الصورة المعلَّقة على الجدار.

 

سعيدة تاقي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم