صحيفة المثقف

هل تجاوز التاريخ شعار دولتان لشعبين؟!

nabe  odaأثار مقال عبدالله أبو شرخ الهام "لماذا يجب المطالبة بدولة واحدة؟؟!" الذي نشره في الحوار المتمدن (يمكن الوصول للمقال عبر غوغل) حوارا جادا وواسعا.

قبل عدة سنوات نشرت مقالا طرحت فيه فكرة دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين، ولم اقل بوضوح أني أحبذ دولة عربية – يهودية مشتركة تضمن المساواة الكاملة لجميع مواطنيها.

هناك حلم فلسطيني جميل، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة. هل هو قابل للتنفيذ؟ هل الواقع السياسي متاح لطرح هذه الفكرة الطوباوية إلى حد بعيد؟

سيثور سؤال: لماذا أقول ان فكرة دولة فلسطينية مستقلة هي فكرة طوباوية؟ أول من سيهاجمني هو اليسار. مشكلة اليسار انه يعيش على أوهام تلاشت من عالمنا. والمشكلة الأكثر تأصلا وخطرا على مستقبل الشعب الفلسطيني هي التيارات الأصولية الدينية التي تتعامل مع المشكلة من منظار ديني يرى بالانتماء القومي خروجا عن الدين، حتى لو لم يعلنوا ذلك بوضوح.

التيارات اليسارية بطرحها لشعار دولة فلسطينية هي محاولة لتجديد مكانة اليسار التي تضعضعت ، مع الأسف ، في العقود الأخيرة.. وأكاد لا أجدها في الخارطة السياسية الفلسطينية.

هل يعتقد اليسار انه قادر على استعادة مكانته السياسية عبر طرح فكري فات وقته؟

إذا كان الطرح يعني دولة ديمقراطية علمانية للشعب الفلسطيني إلى جانب دولة إسرائيل، عبر ترابط اقتصادي، فنحن ندخل في طرح ضروري وواقعي، لأن شريحة واسعة من الشعب الفلسطيني لن تقبل أي شكل آخر للدولة الفلسطينية العتيدة ، على نسق "دولة" غزة مثلا . . وتختار بالتأكيد أي خيار آخر إلا نظام "غزستان".

حسنا. لا تريدون سماع شيء عن دولة يهودية ... عواطفنا ومشاعرنا معكم . لكن الواقع لم تخلقه العواطف، لم تشكله المشاعر، أصبح الشيء الذي لا نريد ذكر اسمه والإقرار بوجوده ( إسرائيل )، هو الأكثر حضورا وثباتا ، هو الأكثر قدرة على فرض واقع شرق أوسطي، هو القوة القادرة على فرض رأيها، هو النظام الوحيد الذي يتمتع سكانه ( بما فيهم العرب الفلسطينيون في إسرائيل) بحقوق سياسية ديمقراطية واسعة ، بتأمينات وضمانات اجتماعية وطبية راقية، بنظام وحيد في الشرق الأوسط مبني على مؤسسات مستقلة للحكم، على رقابة مستقلة لإدارة شؤون الدولة، على اقتصاد متطور يتجاوز بقوته اقتصاديات كل الدول العربية المحيطة به، مجتمع طور علوم وتكنولوجيا من أرقى المستويات في العالم وقوة عسكرية ضاربة بأسلحة تقليدية وغير تقليدية ...يكفي ان اذكرة ان حصة الفرد من الإنتاج القومي الاجمالي تبلغ 38 ألف دولار سنويا. بينما الواقع في الدول العربية بعيد جدا عن هذا المستوى من الدخل، طبعا ما عدا إمارة قطر!!.

ربما فكرة الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين كانت أقرب للقبول في سنوات الثلاثين من القرن الماضي ، ولكن منذ سنوات الثلاثين حدثت تطورات أضحت معها هذه الفكرة نوعا من التغطية على الفكر اليساري الذي لم ينجح بأن يشكل البديل لأنظمة الفشل والفساد العربية ، لأنظمة الطوائف الحديثة المتهاوية ...

المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس ، في كتابه عن حرب العام 1948 ، يكشف وثائق هامة عن ملابسات النكبة الفلسطينية، يفضح تعاون الملك عبدالله مع الوكالة اليهودية واتفاقه معها على تقسيم فلسطين. عندما اضطر الملك عبدالله إلى "خوض" الحرب ضد الدولة اليهودية، لم يهاجم المستعمرات اليهودية ، لم يتحرك جيشه إلا ضمن الحدود المقررة حسب قرار التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة لأرض فلسطين، أي لم يدخل المناطق المخصصة للشعب اليهودي حسب قرار التقسيم، نفس الأمر مع الجيوش العربية الأخرى، وننوه انه أوكل بالقيادة العامة للجيوش العربية. بكلمات أخرى كان أمينا لإتفاقه مع الوكالة اليهودية على تقسيم فلسطين، ليس حسب قرار الأمم المتحدة فقط ، إنما حسب اتفاق التقسيم بين الوكالة اليهودية ( ممثلة بغولدا مئير) والمملكة الأردنية ( الملك عبدالله ).

من هنا يتضح التآمر العربي على الشعب الفلسطيني الذي لم يتوقف اليوم أيضا.

أعرف من المرحوم والدي ان الجيش العراقي أيضا لم يدخل المناطق المقررة لليهود حسب قرار التقسيم وكان جواب قائد الجيش العراقي للمقاتلين في الفولة (العفولة اليوم) الذين طلبوا مدهم بالسلاح والذخائر، وكان الجيش العراقي قد انسحب من الناصرة (كما انسحب من مواجهات عديدة أخرى) إلى جنين التي تبعد عن الفولة ثلث ساعة سفر: " موكو أوامر " ( لا توجد أوامر) ، وبالتالي سقطت الفولة كما سقطت سائر المواقع الفلسطينية.

الناصرة كان لها رئيس بلدية عقلاني هو يوسف الفاهوم، انسحاب الجيش العراقي والجيوش العربية التي تخلت عن القتال الفعلي، جعلته يقرر التوقيع على استسلام يضمن حقوق مواطني المدينة كمواطنين متساوي الحقوق في دولة إسرائيل،يمنع التهجير ويمنع ارتكاب مجازر تدفع المواطنين للفرار. انتقدت خطوته من قوى تدعي الوطنية، وهوجم من المفتي الحاج أمين الذي غادر فلسطيني واستقر في القاهرة منذ عام 1937( بعد زيارته المؤسفة لألمانيا النازية) ولكن التاريخ أثبت انه أنقذ الناصرة من مصير طبريا والمجيدل وحيفا و 500 بلدة عربية أخرى. رابط مقال : "رئيس البلدية عام 48- يوسف الفاهوم - أنقذ الناصرة من التشريد والضياع" (يمكن الوصول للمقال عبر غوغل).

الحقيقة الأخرى ان الاستيطان اليهودي في فلسطين كان بتشجيع قيادات فلسطينية محلية، وبتعاون وتغطية من أوساط فلسطينية ، جرت عمليات بيع مئات آلاف الدونمات من الأراضي منذ العام 1917 ، وتقدر المساحة التي نجحت الحركة الصهيونية في شرائها حتى العام 1936 ب : 1.7 مليون دونم - راجعوا كتابين هامين ومؤلمين للقراءة ،للباحث اليهودي من جامعة القدس الدكتور هيلل كوهن ، الأول "عرب طيبون" صدرت ترجمته بالعربية . والثاني "جيش الظلال " الذي آمل ان يترجم لتطرح الحقائق أمام الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وأعترف أنها حقائق مذهلة وغير قابلة للتصديق، قراءة الكتاب الثاني كانت بالنسبة لي كانت معاناة وتمزق داخلي ، لكن حان الوقت لنعرف الحقيقة المرعبة والكاملة وراء نكبتنا، بما فيه دور قيادات وشخصيات فلسطينية مختلفة ..يكشف الباحث عن الشخصيات العربية الخنوعة التي باعت كرامتها ومصير شعبها مقابل بعض الفضة، وسمسرت لحساب الحركة الصهيونية ضد شعبها، بل وجندت فرق مقاتلين عرب لتحقيق الانتصار الصهيوني في العام 1948.

لا أرى ان الواقع تغير كثيرا اليوم ، ربما أصبح أكثر سوءا مع ابتعاد العرب عن التغريد الذي طرشونا به سابقا عن فلسطين. والأهم مع سقوط فكرة القومية العربية وصعود عقيدة الأمة الإسلامية.. لا اعرف اليوم ، هل توجد قومية عربية ؟ هل الظروف الاجتماعية الفكرية في العالم العربي مؤهلة لتطوير قومية عربية بدون تطوير اقتصادي؟ هل يمكن ان تنشا قومية بدون اقتصاد مشترك؟ ها هي أمامنا التجربة الإسرائيلية، تطوير اقتصاد مشترك يعتبر اليوم من أقوى الاقتصاديات في العالم وتطوير العلوم، أنتج شعب يهودي من يهود الشتات.. ليس الدين هو ما يوحد الشعب اليهودي بل الانتماء إلى مجتمع متطور اقتصاديا وعلميا.. متطور حضاريا. نظام ديمقراطي ليبرالي. طبعا تواجه هذا المجتمع(حسب رؤيتي ورؤية الكثيرين من المفكرين ورجال الأدب اليهود)مشاكل ومصاعب بعضها من صنع يديه وتشكل خطرا على ديمقراطيته واستمرار تطوره، وأعني الاستيطان الذي أصبح خطرا على دولته نفسها، حيث يحذرون من سيطرة دولة المستوطنات على دولة إسرائيل، وخطر ثقافة الاحتلال والعنف على المجتمع الإسرائيلي!!.

عندما يطرح مشروع سياسي، مثل دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين، يفترض ان الواقع السياسي جاهز للتعامل مع هذا الطرح. ان الأزمة في الواقع الإسرائيلي أيضا حادة، بحيث يبحث القادة الإسرائيليون عن مخرج لأزمتهم، لأزمة الكيان اليهودي.

ما أراه ان الطرح يقع في باب الانشغال بما هو غير قابل للطرح السياسي ، إلا في أذهان مأزومة ، وتبحث عن مخرج من أزمة واقعها السياسي وتجديد شرعيتها السياسية بطرح جديد ( قديم ) مغاير عما يدور التفاوض حوله اليوم.

حتى اليوم لم يقم نظام عربي واحد يستحق الاحترام ، الأنظمة العربية ينخر فيها العفن والفساد وتفتقد لكل أشكال إدارة الحكم الحديثة، دول دمرتها الديكتاتوريات العسكرية، شعوب عربية مقهورة ومقموعة، التنمية الوحيدة التي يمكن الإشارة اليها، هي تنمية القمع والسجون والمقابر الجماعية وزرع ثقافة الارهاب ضمن برامج التعليم والتشدد الديني، وتحويل الإرهاب الى المادة الخام الثانية في التصدير العربي بعد النفط.

ما تطرحه حماس اليوم يرفضه معظم الشعب الفلسطيني، لا تطرح دولة ديمقراطية، ولا أقول علمانية، الديمقراطية بالنسبة لحماس وكل المنظمات الشبيهة في العالم العربي، لها اتجاه واحد، الوصول إلى السلطة، ثم يقفل الباب وتستبدل بحكم الفقيه.

إذن من بقي ليشتري فكرة دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين ؟

الأمر الحاسم اليوم في جعل هذا المشروع قابلا للبحث، ليس الموقف الفلسطيني أو العربي أو الدولي، إنما الموقف الإسرائيلي.

هل تتوقعون ان تثيروا حماس إسرائيل لمثل هذا المشروع ؟ هل تتوقعوا ان تثيروا اهتمام المجتمع الدولي بهذا الاقتراح ؟ وهل هناك قوة عربية قادرة على جعل هذا الاقتراح قابلا لمجرد التداول السياسي؟ هل أخذتم باعتباركم الشروط المطلوبة الأولية لجعل هذا الطرح أكثر من مجرد توهج لا يستمر لأكثر من لحظة في عمر التاريخ؟

هل هناك برنامج مطروح لشكل تركيب هذه الدولة ومؤسساتها المختلفة؟

الفكرة جميلة، إنسانية، ولكنها مجرد أضغاث أحلام، وأتمنى لو كان واقعنا السياسي ملائما لمثل هذا الطرح.

لا بد من تساؤلات صعبة: هل الدولة الفلسطينية المستقلة ولنفترض أنها دولة ديمقراطية علمانية للشعب الفلسطيني، هي الأمر الممكن حتى بواقع وجود "دولة غزستان".. ؟؟

المطروح اليوم ان لا تضيع الفرصة مرة أخرى، نتيجة الانقسام الكارثي الذي أوجدته حماس، والموضوع لم يعد حماس وفتح، إنما مصير الشعب الفلسطيني ومستقبله، من هنا رؤيتي ان الفرصة أقرب لدولة مشتركة، ولا استهتر بالمعارضة الإسرائيلية، من شعار دولة دولتان لشعبين.

 

نبيل عودة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم