صحيفة المثقف

الدلالات اللغوية في شعر النابغة الذبياني .. دراسة فنية (1)

sadam alasadiالنابغة هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني، يكنى ابو امامة ويلقب النابغة (وذلك لنبوغه في الشعر واكثاره منه بعدما احتنك)[1] قال عنه ابن رشيق القيرواني (هو احد شعراء الطبقة الاولى المقدمين على سائر الشعراء)[2] وهو احد الاشراف الذين غض الشعر منهم [3] وكان يضرب له قبة من ادم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه اشعارها وقد عده ابن سلام في طبقاته (بعد امرؤ القيس وقبل زهير والاعشى وكان عمر بن الخطاب (ر ض) يعده اشعر العرب)[4] وقد وصف النابغة من بين الشعراء احسنهم ديباجة لفظ وجلاء معنى ولطف اعتذار، وهو لم يتكسب بشعره الا في مدح ملوك العرب [5] وهو من اشراف ذبيان وقد اتصل بملوك الحيرة ومدحهم وطالت صحبته للنعمان بن المنذر الذي ادناه منه واتخذه جليسا ونديما ووصله بجوائزه السنية حتى صار لا يأكل ولا يشرب الا في صحاف الذهب والفضة ومما جاء في اخباره ان انقطع الى مناذرة العراق ثم الى غساسنة الشام فكان شاعر بلاط موفورا جانبه مرغوبا في مدحه، ولكنه لم ينس في حالتيه قومه واحلافهم[6] وكان النابغة رجلا محنكا مجربا وحكيما كاملا وقد عاش الى ما بعد مقتل النعمان ودليلنا بذلك ما جاء في كتاب الاغاني (لما نعي النعمان الى النابغة وحدث بما صنع به كسرى قال طلبه من الدهر طالب الملوك ثم تمثل بابيات، اما مقتل النعمان فكان نحو 602م واذن فقد لا نخطئ اذا اخذنا بقول بعض المؤرخين ان النابغة قد توفي 604م)[7] وقد نقل لنا المؤرخون ان النابغة من المعمرين كبار السن وكان شيخا ابيض الشعر كما قال بنفسه، وقد اختلف الرواة في لقبه (النابغة) وقد شرحه بعضهم شروحا مختلفة ولقد زعم بعضهم ان دعي النابغة لأنه استعمل لفظة نبغ في قوله:

وحلت في بني القين بن جسر فقد نبغت لهم منا شؤون [8]

نشأ النابغة ف الوسط من قومه ولا يعرف عن شبابه سوى ما نقله دي برنال من مزاحمته حاتم الطائي .

ورجلا اخر على امرأة اسمها ماوية وقد اخفق في ذلك[9] ونقل عن الخليفة عمر بن الخطاب (ر ض) قال لمعشر غطفان من الذي قال من الشعراء:

اتيتك عاريا خلقا ثيابي على خوف تظن بي الظنون

قلنا النابغة قال الخليفة ذلك اشعر شعرائكم [10]

وروى ابن مؤمل قال قام رجل الى ابن عباس (رحمه الله) حبر الامة وابن عم الرسول المصطفى (ص) قال اي الناس اشعر ؟ قال ابن عباس: اخبره يا ابا الاسود الدؤلي قال الذي يقول:

فانك كالليل الذي هو مدركي وان خلت ان المنتأى عنك واسع [11]

و اتفق الرواة على ان النابغة اشتهر بالقصيدة المتجردة التي خص بها زوجة النعمان وذكر فيها خصائص لا يليق ذكرها في صفات المتجردة وحلاوة جسمها وقد استغل الشاعر المنخل اليشكري تلك القصيدة حجة للانتقام من النابغة لان اليشكري كان يحب المتجردة فخاف النابغة من عقاب النعمان وهرب الى قبيلته فاغتنم الاقارع فرصة غيابه ونظموا قصيدة هجو الى النعمان واوصلوها اليه فزادوا نقمته على النابغة [12] ولكون النابغة سيدا من سادات القبيلة يرجع اليه في الخطوب والشدائد ولم يسلم من حسد بني قومه لعفته ومنزلته فتضايق منهم وانطلق الى الغساسنة في الشام وقد نزل بعمرو بن الحارث الاصغر فمدحه ومدح اخاه النعمان ثم انقطع بعد موت النعمان الغساني الى اخيه عمرو ولبث عنده الى ان رضي عنه النعمان بن المنذر وسامحه وبقي في بلاط المناذرة وكانت شاعريته مشهورة يعرض عليه الشعراء قصائدهم فكان اول من انشده في احد المواسم الشعرية الاعشى ثم حسان بن ثابت الانصاري ثم الخنساء اخت صخر التي قالت له:

و ان صخرا لتأتم الهوات به كانه علم في رأسه نار [13]

فقال النابغة (و الله لولا ان ابا بصير (الاعشى) انشد في انفا لقلت انك اشعر الجن والانس فقام اليه حسان فقال (و الله لانا اشعر منك ومن ابيك) فقال النابغة يا ابن اخي انك لا تحسن ان تقول:

فانك كالليل الذي هو مدركي وان خلت ان المنتأى عنك واسع [14]

و قد حدث حسان عند قدومه الى النعمان ليمدحه رأى النابغة بعد هروبه من المناذرة وقد كلف جارية ان تغني للنعمان قوله:

يا دار مية بالعلياء فالسند اقوت وطال عليها سالف الابد[15]

فلما سمع النعمان ذلك قال (اقسم بالله انه لشعر النابغة)

و قد نقل الرواة عن موت النابغة انه قد اسن وكبر وتوفي في السنة التي قتل فيها النعمان بن المنذر وكانت وفاته 604م لميلاد المسيح عليه السلام وسنة 18 قبل الهجرة النبوية .

ان حياة النابغة لم تستقر في مكان فقد قضاها بين الحيرة وقرى الغساسنة، كما نقل الرواة لنا انه مدح امراء المناذرة منهم ابن ماء السماء (505م) وكذلك اتصل النابغة بقابوس (570م) وقد اكد ابن قتيبة في الشعر والشعراء كان النابغة مع النعمان بن المنذر ومع ابيه وجده وكانوا له مكرمين)[16]

و كان النابغة مشغولا بأحداث قومه وهنا مثل الشاعر السياسي لان قومه تعرضوا الى مشاكل مع حلفائهم واحتاجوا الى النابغة ليمثل لسان حالهم وقد اشتدت حرب السباق وداحس والغبراء سنة 568م وكان هم النابغة (ان يحفظ لقومه الذبيانيين حلف بني اسد وبني تميم كي يقروا على مقاومة العبسيين واحلافهم من بني عامر)[17] ومن يطالع ديوان النابغة يرى تلك الصورة الحربية وصراعات القبائل وكلها تمثل تاريخا امينا لقدرة النابغة السياسية ومقدرته في المناظرات والمساجلات والدفاع عن قومه والحلفاء بالشعر .

و قد نقل الرواة صفات النابغة بانه حسن الهيئة مهيب النظر يترك له ضفيرتين تتدليان على كتفيه وكان ذا عفة وشرف وانفة طالما حسد عليها [18] حتى انه كان يترفع عن مدح السوقة [19] اما معيشته كانت على جانب من الترف والبذخ وخاصة من عطايا النعمان، وقد نقل لنا البستاني عن صفاته ايضا انه (كان رزينا ذا بصر بالأمور، جمع الاختبار والحنكة الى دقة الملاحظة والحكمة فنال مركزا ساميا في قلوب قومه)[20] وكما كان يلجأ الناس اليه في مشاكلهم الاجتماعية والسياسية وكانوا يحكمونه في مشاكلهم الادبية والرواة يجمعون على انه كان يرأس محفل عكاظ لما خص به من حسن الذوق ودقة النظر وصواب الحكم فتضرب له قبة من ادم [21] فيفاضل بينهم ويحكم فينزلون عند حكمه في الغالب اما دين شاعرنا فمن المرجح انه كان النصرانية لكثرة ما نراه في شعره من الشواهد الدالة على توحيده فحسب كما ذكر صاحب تاج العروس المرتضى الزبيدي قوله الاتي: ظلت اقاطيع انعام مؤبلة لدى صليب على الزوراء منصوب[22] وقال صاحب التاج ايضا (قيل سمي النابغة العلم صليبا لانه كان نصرانيا، اما مذهبه فقد اشار اليه البستاني مرجحا انه يعقوبي مذهب الغساسنة بدليل مدحه هؤلاء بصحة دينهم واهتماهم بإقامة شعائره[23]

اما اول من جمع شعر النابغة فهو الاصمعي عبد الملك بن قريب فاختار له 24 قصيدة زاد عليها الطوسي بضع قصائد وكلها موجودة في دواوين الشعراء الجاهليين وممن شرح ديوان النابغة الوزير ابو بكر البطليوسي وقد نشره الاب شيخو في مجموعته (شعراء النصرانية) عام 1890م .

وقد جمع النابغة حسب اراء النقاد عناصر الشعر الى درجة سامية فهو ذو شعر رقيق تظهر مفاعيله وعاطفته قوية وحماسة ورهبة لديه وتميز كذلك بالاعتذارات التي نرى فيها حزنا عميقا مقرونا بقلق مضطرب وقد صاحبه التشاؤم من الحياة وما ميل كثير من الادباء والامراء والتعلق بشعره وتفضيله الا دليل على شاعريته المتقدمة وتنوع موضوعاته وقد وصفوه لا يرمي الا صائبا [24]

و له قدرة عرفها بنفسه اذ قال مقابلا بينه وبين غيره من الشعراء ببيت من اثرى ما قاله:

يصد الشاعر الثنيان عني صدود البكر عن قرم الهجان [25]

و مهما يكن من خلاف فان النابغة ذو شخصية معروفة في الشعر معدودة من رجال المعلقات ومما جعل له منزلة كبيرة في عصره وما بعد دخوله في غرض السياسة والادب فكل ممثل قبيلته في بلاط الملوك وحكم الادباء في سوق عكاظ وما كانت هذه لديه لولا منزلته الرفيعة بين الشعراء .

و اذ نتوقف في بحثنا هذا موجز بين شخصية النابغة لابد ان نتوقف في المبحث الثاني باحثين عن علاقة النابغة بالنعمان وما نهاية تلك العلاقة .

 

علاقة النابغة بالنعمان بن المنذر:

تكاد جميع الروايات تجمع على ان النابغة قد اتصل بالنعمان بن المنذر وصادقه واخلص له الود وصار شاعر الملك فترة من الزمن حتى غضب عليه الملك لأسباب مختلفة اختلفت فيها الروايات [26] .

لقد قال صاحب الاغاني (قالوا جميعا فلما صار النابغة الى غسان نزل بعمرو بن الحارث الاصغر بن الحارث الابرح فمدحه النابغة ومدح اخاه النعمان ولم يزل مقيما مع عمرو حتى مات وملك اخوه النعمان فصار معه)[27].

و قد جاء ايضا في مصدر اخر (ان سبب غضب النعمان على النابغة ما نصه (قال النعمان للنابغة يا ابا امامة صف المتجردة في شعرك فقال قصيدته هذه ووصف فيها بطنها وروادفها وفرجها فلحق المنخل من ذلك غيرة فقال للنعمان ما يستطيع ان يقول هذا الشعر الا من جرب فوقع ذلك في نفس النعمان وبلغ النابغة فخاف وهرب الى غسان)[28].

ان الناشرين لديوان النابغة لم ينسبوا سوى هذه القصيدة لملك من ملوك الحيرة جاء قبل النعمان بن المنذر وسائر قصائد الحيرة بعد هذه تنسب جميعا الى النعمان فما لدينا من شعر للنابغة ما يثبت انه كان على صلة بملوك اخرين من ملوك الحيرة ممن سبقوا النعمان بن المنذر وعلى الاخص قصيدته الميمية:

اتاركة تدللها القطام وضنا بالتحية والكلام [29]

وهذه القصيدة لم تكن موجهة لعمروا بن هند، واذا رجعنا الى ملوك غسان وبدء اتصال النابغة بهم نلاحظ ان النابغة اكثر من اسم الامراء غسان فقد ذكر عمروا بن الحارث الغساني في اكثر من موضع:

دعاك الهوى واستجهلتك المنازل وكيف تصابي المرء والشيب شامل [30]

و كلنا يعلم لن قبيلة غسان قد نزحت في الجنوب الاقصى لجزيرة العرب واستقرت في محل سليح وهم اول عرب اسسوا مملكة في الشام، وقد اتخذوا لغة الشام الارامية لغة لهم وقد اعتنق الغساسنة مذهبا من مذاهب المسيحية وقد اشار النابغة الى ذلك:

محلتهم ذات الالة ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب [31]

و قد اعجب النابغة بقوة الغسانيين ومهارتهم الحربية واظهر هذا الاعجاب في مواضع كثيرة في شعره وقد قال الدكتور العشماوي ان للنابغة في غسان عشر قصائد وجه بعضها الى عمرو بن الحارث الغساني ووجه البعض الاخر الى النعمان بن الحارث الغساني [32].

وعن علاقته بالنعمان كانت ذات بداية معقدة فان النابغة (لم يجرؤ ان يدخل راسا على النعمان لانه لم يكن قد امن وعيده ولا قرار على زأر من الاسد وهو لا يريد ان يأتيه مجرما بل محبا فاخذ يبرر نفسه ويقدم اليه تلك الاعتذاريات الرائعة، ولما رأى حسان بن ثابت رضى النعمان عن النابغة شعر بانتهاء حظوته فحسده)[33]

ومهما يكن من امر فان النابغة كان شاعر النعمان الخاص ولم يكن لاحد حظ من الملك سواه حتى ان مركزه اوغر صدور منافسيه حسدا فاخذوا يفسدون العلاقة وكان اشدهم طيشا (عبد القيس بن خفاف التميمي ومرة بن سعد السعدي وقد نظما على لسان النابغة هجاءا سفيها يذكران في بعضه جده لامه وكان صائغا .

و لعلنا نجمع الراي المتفق عليه في سبب هذا الخصام بين النابغة والنعمان هو المتجردة زوجة النعمان وملخص الحكاية ان النعمان قد تزوج بامرأة ابيه المتجردة وكانت من اجمل نساء العرب في عصرها وكان النعمان قبيحا ابرش دميما ولكنه شديد الغيرة عليها وحدث ان النابغة راها مرة فسقط حجابها فاستترت بيدها فقال عند ذلك:

سقط النصيف ولم ترد اسقاطه فتناولته واتقتنا باليد [34]

وهذه القصيدة طويلة فيها وصف خليع شهواني يتجاوز حدود الاخلاق فبلغت النعمان عن طريق (مرة القريعي) والمنخل اليشكري الشاعر وكان نديما للنعمان ويميل الى المتجردة فأوشى الى النعمان بذلك وقد اشار النابغة في قصائده ان الاقارع من اوشوا به الى النعمان وقد قالوا ان النعمان عرف بمدائح النابغة الى اعداءه واعداء ابائه فكره النابغة وغضب عليه وقد بلغ النعمان حاجبه (عصام الجرمي) وكان صديقا للنابغة ان سنذره، فهرب النابغة الى ملوك غسان .[35]

وهكذا كانت الاعتذاريات اشهر شعر النابغة بلا خلاف قالها يعتذر بها للنعمان بن المنذر عن تركه اياه ورحيله الى بني غسان ويتبين مما رمي به وقد رضي عنه النعمان على اثر ذلك وقد عد التبريزي قصيدة يا دار مية من القصائد العشر لان الشاعر جمع فيها فنونا مختلفة من وصف ومدح وقصص واعتذار وسوف ناتي عليها لدراستها في الفصل الثاني .

 

قبل الدلالات مقدمة في اغراضه الشعرية

في البدء وقبل الخوض في اغراضه الشعرية بالتفصيل ينبغي ان نشير الى ان الشعر العربي قبل الاسلام قد احتل مكانا بارزا في دائرة العلوم العربية التي نضجت في العصور التالية للعصر الجاهلي بوصفه منفذا رئيسا لها وبمعنى اخر ان نضج هذه العلوم كان اساسه وبذرته الاولى الشعر الجاهلي حيث اعتمد عليه علماء اللغة في علومهم والنقاد في تكوين دراساتهم النقدية وعلماء الانساب في معرفة انساب القبائل كما كان له الفضل الكبير في نشر الثقافة ونقل تقاليد العرب وقيمهم واعرافهم فكيف نعرف كرم حاتم لولا الشعر وكيف نعرف حب وعذرية جميل لولا الشعر وكيف نعرف قصة المتجردة مع النابغة لولا الشعر ايضا وبما ان شاعرنا الذبياني يعد من قدماء الشعراء الجاهليين فقد كان شعره في صدارة ما يشهد به في مختلف كتب اللغة والنقد ولعلي انقل ملاحظة استشفها من خلال متابعتي الادب ان بعض شعر النابغة قد ضاع اغلبه وقد اختلط بشعراء غيره ونبرر بهذا ان التأليف كان قليلا وقد اعتمد على الرواية والسماع وان الانسان معرض للنسيان وخلط الافكار وعلى الرغم من ذلك فقد استشهد بشعر النابغة في مواقف عديدة منها كتب النقد مثل فحولة الشعراء والشعر والشعراء وكتاب الصناعتين وزهر الاداب وسر الفصاحة وكذلك في كتب الاختيارات والحماسات منها البصرية والاشباه والنظائر من اشعار المتقدمين الجاهليين وكذلك كتب التاريخ منها مروج الذهب وتاريخ العرب قبل الاسلام ولابد من التأكيد على ان بواعث شعر النابغة لا تكاد تخرج من كونها بواعث محصورة بالاطار القبلي اكثر من الذاتي وان معاناة النابغة لم تكن فردية بحته بل هي هواجس وازمات اجتماعية رافقت تطلعه الى هموم قبيلته وبهذا نستطيع ان نقول بان شعر النابغة قد حصر بالتعبير عن الوجدان القبلي العام من خلال التغني بأمجاد وبطولات قبيلته ومواقف الملوك فان النابغة حين يفخر بنفسه فانه يستمد هذا الافتخار من محيطه القبلي بكل قيمه واعرافه كما اشارت الدكتورة عائشة عبد الرحمن في كتابها القيم (قيم جديدة في الادب العربي القديم والمعاصر ولكن الابداع الذي تميز به النابغة قد توازن مع تلك الاسباب)[36].

ولابد ان ندخل في تلك الاغراض دارسين بواعثها:

1- المديح: يعد المديح من الموضوعات الرئيسة في الشعر العربي قبل الاسلام لاتصاله بالقيم الخلقية الاصيلة التي كانت تشكل جزءا مهما من نفسية العربي في ذلك العصر وقد نتلمس ونحن نتابع شعر النابغة في مديحه وفخره تسجيله تلك القيم الخلقية التي يصف بها الرجال وهي تختلط بين الفخر والمديح وكانهما غرض واحد مع التاكيد على عناصر الشجاعة والكرم والمروءة والحماسة في المواقف وقد كان مدحه لعمرو بن الحارث الملك الغساني اكثر من غيره حين لجأ اليه بعد ان نقم عليه النعمان ابو قابوس، وقد اكرم مثواه وجعله من ندمائه كما ذكرنا في الفصل الاول فكان مما مدحه به النابغة قوله:

وللحارث الجفني سيد قومه ليلتمسن بالجيش دار المحارب

وثقت له بالنصر اذ قيل قد غزت كتائب من غسان غير اشائب

بنو عمه دنيا وعمرو بن عامر اولئك قوم باسهم غير كاذب

اذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم عصائب طير تهتدي بعصائب[37]

وقد نلاحظ في تلك الابيات كيف ان الشاعر مدح الحارث مشيرا اليه بانه سيد قومه ومن داره تبدأ الحروب وقد وصف ثقته العالية بنصره على الاعداء اذ وقفت كتائبه من بني عمه ويقودهم عمرو بن عامر وهم بواسل في القتال وقد لمح الشاعر ايضا الى عزيمتهم وبسالتهم وحين يغزون اعداءهم فانهم يأخذون معهم الطيور الجائعة لكي تشبع من جثث قتلى اعداءهم اللذين يتركونهم غذاءا للطيور وقد يصور حالة الطيور في انتظار نتيجة المعركة قائلا:

تراهن خلف القوم قررا عيونها جلوس الشيوخ في ثياب الرانب[38]

ثم يصف الابطال بعد الملك ببيت مشهور يتردد على الالسن دائما:

ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

وهنا يشير الى تعرض سيوفهم للثلمات من كثرة القتال وقد تتكسر لشجاعة وقوة الفرسان وليس هذا عيبا بل مدحا لانهم لا عيب فيهم بل تعبت سيوفهم من الضرب وقد مدح النابغة بني اسد عندما قتلت بنو عبس فضلة الاسدي فقتلت بنو اسد رجلين من عبس فقال النابغة:

اذا حاولت في اسد فجورا فاني لست منك ولست مني

فهم درعي التي استلأمت فيها الى يوم النسار وهم مجني

و هم ردوا الجفار على تميم وهم اصحاب يوم عكاظ اني

شهدت لهم مواطن صادقات اتيناهم بود الصدر مني

وهم ساروا الحجر في خميس وكانوا يوم ذلك عند ظني

وهم زحفوا لغسان بزحف رحيب السرب ارعن موجحن

بطل مجرب كالليث يسمو على اوصال ذيال رفن [39]

و من ممدوحات النابغة حين كب على الحارث بن ابي شمر يكلمه في اسرى بني اسد وبني فزارة فأعطاه اياهم واكرمه فقال النابغة:

قاد الحياء من الجدلان قائظة من بني منعله تزجي ومجنوب

حتى استغاثت باهل الملح ما طمعت في منزل طعم نوم غير تأديب [40]

و هنا يظهر لنا في البيتين وصف الحارث بانه قاد الجياد في وقت الصيف الشديد ليأخذ حقه بالقوة من اعداءه وقد استغاثوا به طالبن النجدة فكان كريما في داره وقراره وقد علمهم درسا في الاداب .

و قد اختلط المديح عند النابغة مع الاعتذار وخاصة للنعمان ابي قابوس في تلك القصيدة المشهور(يا دار مية) وقد خاطب الملك قائلا:

و من عصالك فعاقب معاقبة تنهي الظلام ولا تتعد على ضمد

الا لمثلك او من انت سابقه سبق اعداء اذا استولى على الامد

الواهب المائة العكاء زينها سيدان توضع في اوبارها اللبد

انبئت ان ابا قابوس اوعدني ولا قرار على زأر من الاسد

مهلا فداء لك الاقوا كلهم وما اثمر من مال ومن ولد [41]

و تظهر الابيات دقة الاعتذار واختلاطه بالمديح فان الشاعر قد استسلم ضعيفا معتذرا من الملك طالبا العقوبة تحسم القطيعة مع النعمان فقد عرض النابغة لظلم ولا ينفع بعد الذل وقد مدح الملك قائلا (الا لمثلك) ويريده بنفسه وقد مدح اباه ومن خرج من صلبه الى اخر الامد ومن مدائح النابغة حين اغار النعمان بن وائل على بني ذبيان وسبى عددا كثيرا من غطفان واسر عقرب بنت النابغة فقالت حين سألها من انت؟ قالت انا بنت النابغة فقال لها: ما احد اكرم علينا من ابيك ثم اطلق سراحها ولاجلها اطلق اسرى غطفان فقال النابغة:

يقودهم النعمان منه بمحصف وكيد يغم الخارجي مناجد

و شيمة لا وان ولا واهن القوى وجد اذا خاب المفيدون صاعد

فاب بابطار وعون عقائل اوانس يحميها امرؤ غير زاهد

تخب الى النعمان حتى تناله فدى لك من رب طريقي وتالدي

فسكنت نفسي بعدما طار روحها والبستني نعمى ولست بشاهد

و كنت امرأ لا امدح الدهر سوقة فلست على خير اتاك بحاسد

سبقت الرجال الباحثين الى العلا كسبق الجراد احطاء قبل الطوارد

علوت مجدا نائلا ونكاية فانت لغيث الحد اول زائد[42]

وتظهر قوة مديحه في اخر الابيات فقد وصف النعمان بانه قد سبق الرجال الطالبين المعالي مثلما يسبق الحصان القوي وقت الصيد بقية الخيول ويحصل على فريسته وقد فاق الملك قبائل معد ونائل وهو صاحب الفضل والكرم وقد وصف بالغيث الماطر سقيا وعطاءا وهو رائد ومؤسس السماح والفضيلة.

2- الحكمة: لقد خبر الشاعر الجاهلي الحياة بكل صورها من خلال معاناته الذاتية وتجاربه الشخصية التي عمقت في نفسه الجانب الفكري حين اودع ذلك في عمله الابداعي وقد وجد ان (القصيدة الجاهلية على الرغم من انشدادها الى تفاصيل الحدث اليومي تتيح للشاعر ان يسوق تفاصيل طموحه الفكري في هذه اللمحات التي اصطلح عليها الديوان فيما بعد على تسميتها بابيات الحكمة)[43]

و ما دام الشاعر الجاهلي قد استمد صوره من بيئته وقد وقع نظره على ما يراه ويسمعه ويتفاعل معه انبثقت من هذا كله طموحات ومفاهيم فكرية وتأملية تستجلي الرؤى الدالة على علاقات بين الناس ناتجة عن تفاعل وتباعد وخصام وفرح وحزن يطرح من خلالها الشاعر تجربته ضمن حكمة مميزة نافعة تترددها الالسن، وقد جاءت الحكم كثيرة في شعر النابغة منها ما يؤكده على قصة مثل زرقاء اليمامة التي تسمى فتاة الحي وقد ذهبت قصتها مثلا بين الناس قال فيها:

احكم كحكم فتاة الحي اذ نظرت الى حمام شراع وارد الثمد[44]

كلنا نعرف خبر زرقاء اليمامة عندما رأت جماعة من القطا طائرة فعدتها وكان لها قطاة فقالت ليت ذا القطا لنا مع نصفه الى قطانا فيتم لنا مائة فنظروا فاذا عدد القطا ست وستون واراد بهذه الحكمة الفائدة من دقة البصر وكرامة المرأة ودورها في الحياة وقوله مخاطبا النعمان مقدما اليه حكمة ترددها الالسن:

فلا تتركني بالوعيد كأنني الى الناس مطلي به القار اجرب [45]

وهذا ما اراد قوله برفضه ان يكون كالبعير الاجرب المطلي بالقطران فترفضه وتبتعد عنه الناس لمرضه ويؤكد في حكمة على الصداقة والتوافق بين الاصحاب دون ملحة ومقصده اذ يقول:

واستبق ودك للصديق ولا تكن قتبا يعض بغارب ملحاحا

فالرفق يمن والاناة سعادة فتأن في رفق تنال نجاحا

و اليأس مما فات يعقب راحة ولرب مطعمة تعود زياحا[46]

وتظهر الحكمة واضحة في تلك الابيات الثلاثة حيث يؤكد في البيت الاول على بقاء المحبة للصديق وعدم الالحاح على المقاصد من خلالها ثم يوصي بان الرفق مسرة وسعادة وان التأني وعدم العجالة طريق للنجاح ثم يختم حكمة ان اليأس اذا فات عليه الزمن يكسب المرء بعده راحة ولرب مذبوحة كانت تذبح غيرها بدوافع القوة والغلبة .

و في غرض النصح والعظة والارشاد يضع الذبياني حكمة في الاهد قائلا:

المرء يأمل ان يعيش وطول عيش قد يضره

تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره

و تخونه الايام حتى لا يرى شيئا يسره[47]

و تكون تلك المقطوعة الشعرية بأبياتها الثلاثة حكمة واحدة مفادها ان الحياة لا تدوم لاحد والسرور غير خالد والايام غدارة بأصحابها وهنا نظرة فلسفية الى الحياة والموت ويكرر النابغة تحذيره من تصديق الايام لأنها لا تثبت على حالة واحدة وان كل شيء زائل اذ يقول:

ولست بذاخر لغد طعاما حذار غد لكل غد طعام

تمخضت المنون له بيوم اتى ولكل جاملة تمام[48]

و هكذا تكون الحكمة عظة وارشادا ونصحا للناس يراد به الهداية وعدم الغرور وكف الاذى وحب الناس .

3- الوصف: لا يخلو شعر من الوصف ولكن هذا الغرض ند النابغة قد اخذطابعا متميزا ودقيقا يدخل ضمن سياقات الطلل والرحلة وقد تشترك الطبيعة بنوعيها المتحركة والجامدة في تنقلات الشاعر وقد يكون المكان اول ما يبدأ بوصفه الشاعر:

عفا ذوحا من فرتنا فالنوارع فجنبا اريك فالتلاع الودافع

توهمت ايات لها فعرفتها لستة اعوام وذا العام سابع[49]

و في البيتين نجد اشارة المواضع (ذوحا) وفرتنا اسم امرأة ثم اريك اسم جبل اما التلاع فهي مجرى الماء في اعلى الوادي وهنا نرى طغيان الطبيعة في البيت الاول اما البيت الثاني فقد اشار الى بقايا الاثر (ايات) علامات ثم اراد ان يحددها بالزمن فقال ستة اعوام وثم ختمها بالعام السابع .

وفي القصيدة نفسها يأتي وصفه لذاته وخاصة الشيب:

على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت الما اصح والشيب وازع[50]

وهنا يصف حالته وكبر سنه بدلالة الشيب .

و قد يصف الحيوانات والحشرات في كثير من قصائده وهي من الطبيعة المتحركة اذ قال في وصف الافعى:

فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في انيابها السم ناقع[51]

ان تلك الافعى يصفها نحيفة في كلمة ضئيلة دقيقة اللحم في كلمة الرقش وهي من الافاعي المنقطة بنقط سود وبيض وثم يصف سمها الناقع اي الطويل المكوث لاستمرارية نقعه .

و قد يجمع بين وصف غير العاقل مع بعضه في قوله:

خطاطيف حجن في حبال متينة تمد بها ايد اليك نوازع [52]

الخطاطيف جمع خطاف وهي الحديدة المنعرجة وكأنها شدت بالحبال والايدي التي تسحبها وتبذل جهدا في نقلها وهذه حال النابغة في تعقيد صورته الوصفية .

و للناقة عند النابغة وصف مميز يركزه مع سرعتها ولم يكتفي بوصفها بل يربط صورته بالطيور وهنا كما اشرنا في بداية البحث من الطبيعة المتحركة اذ يقول:

حذاء مدبرة سكاء مقبلة للماء في النحر منها نوطة عجب

تدعو القطا وبها تدعى اذا نسبت يا حسنها حين تدعوها فتنتسب[53]

ان الحذاء وصف للناقة السريعة في السير والسكاء هي القصيرة الاذن والنوطة الورمة التي تكون في رقبتها وهنا ندرك ذلك الوصف القائم على تعدد صور الناقة (سريعة قصيرة مورمة) ثم يأتي على سرعتها كسرعة الطير وهو طير القطا الذي يمتاز بالنظام في طيرانه وترحاله وكذلك تلك الناقة التي تناديها فتستجيب النداء .

ويبقى وصف الطلل من اهم لوحاته الوصفية وهكذا اعتاد جميع الشعراء فالطلل يمثل لهم رمز الانتماء وهو قدحة الصراع الانساني بين الموت والحياة فهو ذكرى الاهل ومنزل الاحبة ومأوى الحيوان ومكان اللقاء بين الحبيب وحبيبته .. يذكر الشاعر بالحلم والامس والذكريات وان نفسية الشاعر الجاهلي ترتبط به دون تصنع وان الافتتاح به بات من اهم لوحات الشعر الجاهلي الدالة على القدرة الابداعية عند الشعراء ونستطيع ان نقول وهذا رأي لنا ان لوحة الافتتاح تمثل عند الشعراء الجاهليين نافذة ذاتية يطل بها الشاعر على امسه المنصرم وقد بات الطلل باعثا جعله يصب ذلك الالهام الشعري ليثبت للناس انه ما زال متعلقا بطلله ولذا نرى دلالات ذلك التمسك تبدأ بفعال الامر (عوجوا، قفوا) نظير قوله:

عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ماذا تحيون من نؤى واحجار

اقوى واقفر من نعم غيره صبوح الرياح بهابي المترب موار

وقفت فيها سراة اليوم اسألها عن ال نعم امونا عبر اسفار[54]

قد بدأ الشاعر قصيدته بالأمر بالوقوف (عوجوا)

امام الدار لألقاء التحية ثم ينكر على نفسه الوقوف بالاثار اذ ليس عندها لسان للاجابة عليه .

 

ا. د. صدام فهد الاسدي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم