صحيفة المثقف

طبيب يداوي الناس وهو عليل

ali jabaralfatlawiيقول الشاعر:

عين الرضا عن كل عيب كليلة .. وعين السخط تبدي لك المساويا

هكذا خلقنا كبشر، لا نرى سلبياتنا أولا ولا نرى سلبيات من نحب ثانيا، وحتى لو رأيناها نتغاضى عنها أو نخلق المبررات لها، وكذلك عندما نكره شخصا لا نرى ايجابياته، وأي ايجابية نراها نستصغرها أو نتجاوزها، ونحن غيرمنزهين عن الخطأ المقصود وغير المقصود، عدا الأنبياء والأئمة فقد عصمهم الله تعالى عن الخطأ من أجل التبليغ، ومن أجل أن يقتدي الناس بسلوكهم وأفعالهم، هكذا اقتضت الحكمة الآلهية، وحساب الخطأ المقصود يختلف عن حساب غير المقصود، وهذا معروف في الشرائع الالهية والوضعية، ففي القانون الوضعي من يقتل متعمدا تختلف عقوبته عن القاتل بطريق الخطأ، سمعنا بعد إعلان الدكتور حيدر العبادي، أن اللجنة البرلمانية المكلفة بالتحقيق في سقوط الموصل قد رفعت تقريرها إلى رئاسة البرلمان، وفي رأيي يفترض القول تقرير تسليم الموصل إلى داعش، وليس تقرير سقوط الموصل لأن السقوط نستوحي منه أن معركة وقعت بين طرفين، فيخسر أحدهما وينتصر الآخر، في حين لم تجرِ معركة في الموصل، بل جرى تسليم وتسلم بسبب خيانة متفق عليها مسبقا.

بقي تقرير تحقيق تسليم الموصل إلى داعش يراوح في أروقة مجلس النواب لأكثر من سنة تقريبا، لكنه تحرك بقوة بعد إعلان الدكتور العبادي لحزمة من الإصلاحات التقشفية، إذ لم تلمس الجماهير وهي في الاسبوع الثالث من التظاهرات إجراءات حقيقية لمحاربة مافيات الفساد، لقد جاءت إصلاحات الدكتور العبادي استجابة لدعوات المرجعية من أجل الإصلاح ومحاربة الفساد، واستجابة لمطالب المتظاهرين الذين سئموا من الوعود الفارغة في الإصلاح، والتخلف في الخدمات واستشراء حالة الفساد الإداري والمالي وانتشار المحسوبية في أعلى مفاصل الدولة، إذ نرى الفساد يتسلسل من القمة حتى يصل إلى المستويات الأدنى، في تقديري لن يقضى على الفساد باجراءات ترقيعية وتجميلية مع ترك رؤوس الفساد الكبيرة تعبث في الأموال والممتلكات وبعض المفسدين يوظف فساده لخدمة الإرهاب، وجوهر المشكلة هو في وجود نظام المحاصصة المزروع من الأمريكان في جسد الدولة العراقية، هذا النظام الذي سمح للسيئين واعداء العملية السياسية بالتغلغل في مفاصل الدولة، وسمح للمفسدين بتولي المناصب المهمة، والكثير من المسؤولين الشرفاء يرون المفسدين يمارسون فسادهم ولا يستطيعون التأثيرعليهم بسبب المحاصصة المقيتة التي تمنع كشف المفسد أو كشف أدلة الإثبات عليه، لقد حولت المحاصصة جسد الدولة العراقية إلى جسد خاو منخور، والمشكلة أن الكثير من السياسيين في منظومة الدولة ومن مختلف الاطياف مرتاحون لنظام المحاصصة لأغراض شتى، لذا نرى الكل يتحدثون عن الفساد والكل يدينونه، فيبقى المواطن في حيرة من أمره متسائلا: من هو المفسد إذن؟؟

أرى أن علة الفساد والإرهاب هو نظام المحاصصة الذي لوّث وألغى امتيازات الحكم البرلماني، فلا حكم ديمقراطي بوجود المحاصصة، لقد تحول الفساد إلى عامل مساعد للإرهاب، ويعد القضاء على الفساد خطوة مهمة في طريق القضاء على الارهاب، ولن ينتهي الفساد إلا بنهاية المحاصصة في الحكم، ويصار إلى حكم الاغلبية السياسية الفائزة في الانتخابات، وتشكيل حكومة كفاءات لا حكومة ولاءات .

إن قضية الموصل ليست عسكرية بل سياسية، تعاونت دول في المنطقة باشراف أمريكي بالتنسيق مع بعض السياسيين داخل العراق، فأدخلوا داعش إلى الموصل من الرقة السورية، إذ استلمت داعش الموصل خلال ساعات من دون قتال، وكان أهم اللاعبين من السياسيين أثيل النجيفي ومسعود البرزاني، والضباط الكرد الذين استلموا أوامرهم من مسعود البرزاني من خلال رئيس الأركان الكردي با بكر زيباري، واستلمت قوى الأمن الداخلي أوامرها بالانسحاب من المحافظ أثيل النجيفي، وخيوط هذه اللعبة اتضحت لجميع أبناء الشعب العراقي، وقد وضعت خطة تسليم الموصل لتحقيق عدة أهداف، أهمها حجب المالكي عن استحقاقه الانتخابي في تولي رئاسة الوزراء لدورة ثالثة لأن المالكي كان عقبة كبيرة في طريق تحقيق المشروع الأمريكي الصهيوني لتقسيم العراق، إضافة إلى أن أمريكا وحلفاءها مثل تركيا والسعودية وبقية الحكومات العربية تصنف المالكي على محور المقاومة الذي تدعمه إيران .

التيار السياسي العراقي الذي تعاون مع دول المنطقة خاصة السعودية وتركيا من أجل تسليم الموصل إلى داعش، أعلن فورا مطلب منع المالكي من الولاية الثالثة، فرحبت الكتل السياسية الأخرى التي تشعر أن المالكي عقبة في تحقيق طموحاتها السياسية، إذ اصطفت بقوة مع التيار المؤيد لإزاحة المالكي عن استحقاقه الانتخابي، وقد تحقق هذا الهدف وهو الهدف الاول من لعبة تسليم الموصل، وفي ظل الفوضى التي أوجدتها داعش ومن تعاون معها، تقدمت قوات البيشمركة تحت رعاية امريكية نحو آبار نفط كركوك فاحتلتها، كذلك احتلت مناطق أخرى من المحافظات المجاورة لكردستان، ولأجل هذا الهدف التوسعي تعاون البرزاني مع امريكا وتركيا بقوة لتسليم الموصل إلى داعش، وقد أعلن البرزاني فورا بعد احتلال الموصل أن كركوك اصبحت جزءا من كردستان وكذلك المدن الاخرى من المحافظات المجاورة، وصرح أنه بصدد إعلان دولته الكردية بحدودها الجديدة .

بعد كل هذه المؤشرات فوجئ الشعب العراقي بتقرير تسليم الموصل إلى داعش بعدم ورود اسم مصطفى البرزاني في التقرير! فكيف يمكن تفسير هذه العملية؟

ليس هذا فحسب، بل وجود اسم المالكي ضمن تقرير تسليم الموصل! فكيف نفسر حذف اسم مصطفى البرزاني وتثبيت اسم نوري المالكي؟ سيما وأن الشعب توضحت الصورة له، وعرف أن من أهداف عملية تسليم الموصل هو إسقاط حق المالكي في الترشيح لدورة ثالثة، علما أن نوري المالكي قد حصل على هذا الاستحقاق من خلال صناديق الانتخابات، كذلك عرف الجميع وباعتراف رئيس لجنة التحقيق أن المالكي لم يؤمر بانسحاب القوات، إذن كيف نفسر عملية حذف اسم البرزاني، وتثبيت اسم نوري المالكي بديلا عنه كمذنب؟

بعد تسليم الموصل إلى داعش ظهرت النوايا المبيتة، وبانت فصول المؤامرة على العراق تظهر الواحد بعد الآخر، بعد تسليم الموصل استلمت داعش محافظة صلاح الدين وبعدها محافظة الانبار تحت نظر ومتابعة أمريكا، وكلنا نتذكر موقف امريكا في بداية دخول داعش إلى الموصل عندما اتجهت داعش خطأ نحو اربيل إذ تدخلت أمريكا بقوة وأوقفتها فورا، لماذا عندما تتجه داعش بالإتجاه الآخر تبقى أمريكا تراقب؟ وإن تدخلت دفعا للشبهة يكون تدخلها تقليم أظافر وليس قطع أصابع أو أيدي، إذ تبقى الرؤوس تتحرك لإكمال فصول المشروع الأمريكي الصهيوني، وجاء في بعض المعلومات أن الداعشي عندما يرى طائرة امريكية يقول طائرة صديقة، أنا شخصيا أحمل السياسيين السنة حالة التدهور الذي أصاب محافظاتهم، وكثير من السياسيين السنة هم جزء من اللعبة التي تريد الدول الأقليمية خاصة تركيا والسعودية والاردن ودول خليجية تطبيقها في العراق باشراف امريكي، أرى طبخة الموصل سياسية وليست عسكرية، وللإسف بعض القادة من العسكريين تواطأ أو تخاذل مع بعض السياسيين أصحاب مشروع داعش وحزب البعث، فكانت الخيانة العظمى للعراق .

بعد دخول داعش الموصل وحجب المالكي عن استحقاقه الانتخابي، تم ترشيح الدكتور حيدر العبادي لتولي المسؤولية، قبلت دولة القانون بهذا التغيير وكذلك وافق المالكي على ذلك كون البديل هو الدكتور العبادي من نفس القائمة الفائزة في الانتخابات، لكن أعداء العملية السياسية والبعثيين واصحاب المطامع والمصالح الشخصية لن يتركوا العبادي يعمل بما ينفع الناس من توفير الخدمات والقضاء على البطالة ومحاربة الفساد الجناح الآخر للارهاب، إضافة لمحاربة اللعبة الأمريكية داعش التي تمددت إلى صلاح الدين والانبارتحت نظر وعلم أمريكا، وبسبب حالة التردي هذه أصدرت المرجعية جملة مطالب لمعالجة الوضع، وطالبت رئيس الوزراء العبادي لضرب المفسدين بيد من حديد، رحبت الجماهير بهذه الدعوة فخرجت في تظاهرات واسعة لتعبر عن تأييدها لدعوة المرجعية ولرئيس الوزراء العبادي لإجراء اصلاحات حقيقية .

التيار التكفيري البعثي لا يحارب أشخاصا بل يحارب النظام الجديد، وعندما يشن أعداء النظام الجديد حربا على المالكي او العبادي او العامري او أي رمز شريف من رموز النظام السياسي الجديد فهم إنما يحاربون النظام من خلال هذا الرمز أو ذاك، عليه عندما نسمع اليوم الاصوات التكفيرية والبعثية النشاز التي تريد الإيقاع بالمالكي وتسقيطه إنما هي خطوة في طريق تسقيط بقية الرموز الوطنية حتى يصلوا إلى الهدف الرئيس، وهو قلب المعادلة السياسية الجديدة في العراق، عليه ندعو جماهيرنا أن تكون واعية لمثل هذه الدعوات البعثية التكفيرية التي تريد إسقاط النظام من خلال تصفية الرموز الوطنية، نعم نحن مع الإصلاح لالغاء نظام المحاصصة والقضاء على الفساد والمفسدين كائن من يكون وإلى أي جهة ينتمي، وندعو أيضا إلى النظام الرئاسي كونه هو الأصلح وهذا لا يتم إلا من خلال تغيير الدستور، المهم نتمنى على الجماهير أن تكون واعية لعدوها التكفيري البعثي، كذلك ندعو الجماهير التي تبنت المرجعية مطالبها كون هذه الجماهير هي صاحبة المصلحة في التغيير والاصلاح أن تكون على حذر من بعض السياسيين الذين يريدون ركوب موجة التظاهرات ليظهروا أنهم لا علاقة لهم بالفساد، لكن الواقع يقول جميع الكتل السياسية تقريبا متورطة بدرجة من الدرجات بالفساد المالي والإداري وتراعي المحسوبية في منح الوظائف والدرجات الخاصة، لأن النظام الذي يحكم العراق هو من يشجع على ذلك وهو نظام المحاصصة، عليه على الكتل السياسية والاحزاب المشتركة في الحكومة بأي مستوى من المستويات إن كانت جادة في محاربة الفساد، أن يدينوا المحاصصة بأفعالهم وليس باقوالهم، بأن يسحبوا وزراءهم جميعا ويعطوا الحرية لرئيس الوزراء الذي خولته المرجعية والجماهير بالضرب بيد من حديد على المفسدين، لاختيار وزراء تكنوقراط بعيدا عن المحاصصة، أما من يدعي أنه يحارب الفساد من خلال الاشتراك في التظاهرات، فهذا الكلام غير جاد وبعيد عن الواقعية.

نرى اليوم جميع الكتل والاحزاب الحاكمة تدين الفساد، إذن من هو المفسد أيها الحاكمون؟ هل تسيرون على المثل القائل (رمتني بدائها وانسلت)؟ أو المثل الآخر الذي ينطبق على أفعال السياسيين المشتركين في حكومة المحاصصة (طبيب يداوي الناس وهو عليل)، أخيرا نقول: لك الله يا عراق .

 

علي جابر الفتلاوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم