صحيفة المثقف

زهايمرx رواية عبد الزهرة علي .. مواجهة إقتلاع الجذور ومسخ الهوية

jamal alatabiأعادني الروائي عبد الزهرة علي، بروايته (زهايمرx) الصادرة مؤخراً عن دار ميزوبوتوميا للنشر، إلى فلم مصري بطله الفنان عادل إمام، يحمل العنوان ذاته، بإعتقاد مني، أن ثمة صلة بين العملين الفنيين، وتأكد لي بعد القراءة إن الرواية لاعلاقة لها من قريب أو بعيد، بقصة وأجواء الفلم، سوى التطابق في الإسم فقط. ورواية عبد الزهرة رغم انها تحمل هذا العنوان، إلا إنني لم أجد سوى إشارات لاتتجاوز الأربع في متن الرواية كلها، ورد فيها إسم الزهايمر، بما يوحي من دلالات في أحداثها، وهي واحدة في المعنى (الزهايمر مرض يصيب المخ ليفقد الانسان ذاكرته وقدرته على التركيز والتعلم). بمعنى إن قوى الشرتريد أن تستلب عقل الانسان، وتغيّب وعيه، لينسى تاريخه وحاضره وهويته، موروثه وثقافته، وإقتلاعه من جذوره.

هذه هي النقطة الجوهرية بين عنوان الرواية ومضمونها العام، لذا أعتقد ان الكاتب إختار عنوان روايته دون كبير اهتمام، فالعنوان مزيج من الحرية والانضباط، هوالعتبة الاولى التي تفضي إلى فك الرموز والاسرارفي النص المنطوي على إمتدادات موضوعاتية، يمكن أن يخرج عنها أو يتجاوزها، لدرجة أن يكون معها العنوان مجرد خطأ بدرَ من الكاتب، أو مجرد لعبة يمارسها لأسباب فنية، غير إن النص رغم كل ذلك، يظل ذا علاقة ممكنة بعنوانه، وهي علاقات قد تتفاوت في مستوياتها، لكنها موجودة ومؤكدة، وهذه العلاقة هي التي تحكم بشكل من الاشكال، الموصوف بالوصف .

تصدرت الرواية ثلاثة مقاطع من منثور الشاعر معروف الرصافي، بمضمون يعبّر عن علاقة الحرية بالحقيقة، أراد بها الكاتب القول منذ البدء، بأن مهمته كروائي، هي إنعكاس لتجربته الخاصة، هي خلاصة وعيه، ورؤيته، إمتلاكه لحريته في الحياة، في الكتابة (أساليبها، أدواتها). وهذا التصدير، يتأكد معناه حينما يكتشف القارىء إن شخصية (الرصافي)، هي إحدى الشخصيات المحورية التي إعتمدها الكاتب في روايته، إذ استعاد عبد الزهرة هذه الشخصية، ومنحها بعداً زمانيا ومكانيا، وتحول الى صوت من أصوات الرواية العديدة، وكشاهد على عصره ومرجعيته، في توثيق ما يذهب إليه الروائي، في تنويع المقاربات التاريخية والسياسية، وهو إسلوب سردي مهم، شريطة توفر رهافة الحس، ووهج الماضي الساحر، إن شخصية الرصافي، أراد لها الروائي أن تكون عنصراً فنياً، أو وسيلة تلميح لها دلالاتها الموحية المباشرة على أجواء روايته، والتي ظهرت أكثر وضوحاً في الصفحات الاخيرة منها.

توزعت الرواية على عدة اصوات، أخذت دورها في السرد بضمير المتكلم، كان الابرز من بينها، أصوات فاهم، وجميل، ووديعة، والرصافي، ومن بعدهم، فرهود، وعواد، والعمّة . إن إعتماد هذا التكنيك في السرد يلزم تجنب التداخل في الأصوات وعدم السيطرة على لسان الراوي، كما في ص 21 إذ يقع الكاتب في إزدواج الشخصية بين فاهم وجميل، إذ كان المتحدث بضمير الأنا هو فاهم، وبلحظة غير محسوبة يتحدث بنفس الضمير جميل .

إن حدث الرواية الأهم، الذي يقوم عليه بناؤها، يتمثل بالآثار الخطيرة التي تمخض عنها إحتلال العراق في 2003، كحدث ينطوي على نتائج كارثية عصفت بأسس الحياة وقوانينها، وقوضت بأركان البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية . إذ يرسم الروائي صورة واضحة للخيبة التي مني بها الانسان العراقي، واؤلئك الفئات الفقيرة والمتعلمة، الذين ضحوا من أجل خلاص وطنهم من الإستبداد والدكتاتورية، فجاءت الاحداث مغايرة ومضادة لتلك الاحلام، إذ أجتثت جذور المواطنة، وأبعدت الانسان عن مرفأ الدفء والاستقرار، وفرص الحياة المتواضعة .

الرواية تبدأ بمشهد لجثة رجل مسجّى على رصيف قريب من ساحة تمثال الرصافي، يرويه (فاهم)، في هذا التيه ليس سوى التمثال المستعد للحوار.

ولعل القراءات النقدية للرواية العراقية التي صدرت مؤخرا، لما بعد 2003، تكاد تنتهي الى نتيجة واحدة، أصبح من السهل تشخيصها، وهي ان مشاهد الجثث والقتل، تحولت الى (ظاهرة) في أغلب الكتابات الروائية، و(ثيمة) تلقي بثقل كوابيسها على القارى، وهو يحاول الافلات منها، إن هذا الانشغال نفسه، مظهر من مظاهر اللحظة المأساوية التي نعيشها، ولكن قيمته، ينبغي أن تتعدى اللفت الى الاثارة والشد والتشويق، في لعبة القراءة التي يستهدفها الكاتب في نصه. ومن المحقق إن بداية هذا الانشغال ترجع الى أعوام الثمانينيات، وما تلاها من أزمنة إتسمت بالعنف والقسوة، فتبلورت إمتدادتها الى مواقف عند جيل من الكتاب، تشكلت تحت ضغط الظروف القاهرة الجديدة، وهي في كل الاحوال لاتنقص من قيمة الرواية الفنية . وهي تندرج ضمن قائمة روايات الانسان المنتمي الى شعب طحنته الحروب، وأفقدته الكارثة كل إحساس بما في العالم من حكمة وتناسق وجمال، فالكاتب لايحمل سوى ذكريات سوداء، لم تخفت، أو أفكار مشوهة جردت الانسان من وجوده الحي، أزمات طاحنة زعزت الأسس، لأكثر من عقدين من الزمن، شكلت موضوعا مهما لقراءة نقدية متأنية، لكتابات أنتجت معظمها في علاقة تزامنية مع الحروب والحصارات، لكن الحرب كفعل وكأحداث، كانت تهدم كل شيء على أرض الواقع المادي المعاش والموروث والجديد.

إن ما حصل في 2003، أفقد (فاهم وجميل) أهمية الحياة الجديدة وجدواها، كانت (صدمة) المدينة في ظل (التغيير)، هي الاخرى عنيفة، تثير الاسئلة في الاذهان للبحث عن معنى العلاقة والمقاربات بين المرعب والتردي، بين الجمال والقبح، بين الخوف والسلام .

يمنح الروائي شخصية (فاهم) ملامح وسمات خاصة بما فيها دلالات إسمه، يجعل منه رمزا لشخصية واقعية، ونموذجا للمثقف المتوازن، الذي يرتبط بعلاقة حب مع (وديعة)، وشخصية صديقه (جميل)، بسلوكها العابث، التي تتجاوزالمستوى الواقعي للشخصية لتبلغ مستوى الرمز الدّال على قوى الاضطهاد والشروالدمار، التي يرزح المرء تحت وطأة سيطرتها. تتحول سيرة جميل الى مادة ناضجة لمشروع رواية يكتبها صديقه (فاهم)، وتبدوشخصية جميل الكاتب والشاعر، غير قادرة على الوصول لغاياتها، مما جعلها تحسّ بالضياع في المدينة، ويزداد الإحساس عمقا بعد أن كشف له فاهم انه ولد (لقيطا )، فهرب من أسرة (الأب) المزعوم، فعاش مشرداً، سوى تلك الايام التي إستعاد فيها توازنه، بعد أن وجد فرصة عمل لم تدم طويلا مع فاهم في إحدى الجرائد

ينتهي الحال بجميل كذلك الى (جثة) ملقاة على الرصيف، تلتقطها سيارة الاسعاف من فضول المارة وتساؤلاتهم . فراح جميل متوسدا أحلامه فوق القمامات .

أما (فرهود)، فهونموذج للشخصية الانتهازية، الوصولية، الهامشية، التي أفرزتها التشوهات التي أصابت المجتمع . فاشل دراسيا، ينتمي لعائلة فقيرة جدا، يلوذ بإنتمائه لحزب السلطة السابقة، ليخفي فشله، عبر الوشاية وكتابة التقارير، وملاحقة أبناء جيرانه، فيكتشف سر رفض وديعة له، بسبب علاقة الحب مع فاهم، فليجأ الى تهديدها، محاولا إبتزازها، بفضح هذه العلاقة، وتصل به الحماقة والتهور الى إقتحام دارها وإغتصابها جنسيا.

نموذج (فرهود) يجد ضالته في الوضع الجديد الشاذ بعد 2003، فيتبوء منصبا قياديا فيه ممثلا لإحدى الاحزاب الاسلامية المتنفذة، (الحاج) فرهود يحيط به الخدم والحراس والنساء الجميلات. ومنهن هيفاء إبنة (عواد) عامل الكافتريا المقابلة لدائرته، فأختارها سكرتيرة له، وأغدق على عائلتها بالهبات، لتحقيق أغراضه الخسيسة. نوال (العمّة)، عمة هيفاء، تسللت اليها الرجولة، تمثل دور المرأة المؤمنة، تضّخم جسمها، فإنصرفت للتكسب بممارسة قراءة الطالع والشعوذة والسحر، تعاني من إنحراف جنسي تعبر عنه بخداع مراجعيها من النساء، لتنشد الرغبة الجنسية في أجسادهن، حتى ولو مع بنت أخيها.

في إسلوب الروائي نهتدي الى رؤى حلمية، وأبعاد تجريبية، وسرده لايخلو من تعقيد غير مألوف، لما يتمتع به من مخيلة تؤهله لأن تبدو الرموز متضافرة، كما في شخصية الرصافي، وعواد العامل البسيط الذي يحلم أن يتحول الى أحد المشايخ بمضيف عامر يحيط به الخدم، ويقيم لنفسه تمثالا يبعد الاخرين عن مواجهة الحقيقة، ينهض عواد مذعورا مصابا بالهلع، لأن حيوانا زاحفا دخل فتحة مؤخرته . تنتهي حياة عواد مصابا بفقدان الذاكرة، تائها، تبحث عنه ابنته هيفاء بدون جدوى، ويموت فرهود بحادث سيارة مفخخة .

لقد راهنت الرواية على مجموعة دوافع مأساوية (موت جميل، إنتحار العمّة، موت فرهود، غياب عواد)، هذه الصورة القاتمة التي يراها الرصافي : الشوارع مقفرة، البيوت ساكنة أصابها الصمت، لا أطفال يلعبون، ولانساء ملفعات بالعباءات، مدينة تحمل في داخلها بذور الدمار، تحولات مقرونة بالمواقف إزاء الاجتياح، والمشكلات الانسانية،

تحت هذه الظلال الكثيفة من الجفاف والذبول في معالم الحياة، كيف تيسر للروائي أن ينهي قصة حب وديعة وفاهم بقبول الحياة الزوجية المشتركة ؟ إذ لم نتوقع وسط هذا التوتر أن ننتهي الى هذه النتيجة (السعيدة) بالعلاقة .

واجه الروائي الواقع الذي طغى عليه، فإحتمى بأفكاره، ليخلق علاقة تجاذب ونفور تمتد بين الحلم والواقع، بين إنهيارات جميل وتمرده كلّما إشتد عليه الحصار ووهنت قواه، بين أحلام عواد، وعذاباته جرّاء ما يسمع من كلام المحيطين به من أبناء جلدته، بين ماضي فرهود البائس، وحاضره الجديد الفاسد.

لقد حملت رواية (زهايمر ) هاجسا بمصير العراق بعد2003، وعقل كاتبها يزدحم بالشك حول مغزى (التغيير)، الذي تحول الى أداة للقهر والموت الجديد والتراجع .

إن هذه الأجواء لوحدها لاتخلق بإعتقادي عملا فنيا، والرواية لاتحقق جماليتها إلاّ عندما يتمكن الروائي الإرتقاء بمستوى الكتابة وتنوعها داخل العمل الروائي، وبناء العبارة بناء متينا، لايشوبه ضعف وتصدع، بما يضعف قواعد السرد العامة، فتخفت الاضاءة في النص . وحسبي ان أريحية الكاتب، وإخلاصه لفنه، وإبداعه، ستدعه الأخذ بهذه الملاحظات، بعين من الاهتمام والقبول والمعالجة . وهي على سبيل المثال لاالحصر:

نقول (زيت) إشارة الى زيت الطعام، بديلا عن (الدهن) التي وردت أكثر من مرة، ومن غير المستحسن أن نقول (لقمة عاصية )، أي محشورة بمقدم البلعوم، ووردت عبارة شباب المنطقة، أي شباب الحي، كما يقول (ستتشقق) بدلا عن التمزق، وفي عبارة أخرى (صعدت درجات الربل، فبانت ربلة ساقها)، كيف للمتلقي أن يميز بين (الربل) الاولى، وهي العربة التي تجرها الخيول، وبين الربلة الثانية الواضحة المقصد؟ أوليس من الصحيح القول (القفة، أو القفوف) بديلا عن (الكفوف) ص104كواسطة للنقل النهري، حتى لايذهب القارىء الى كف اليد وجمعها الكفوف .

هذا فضلا عن الاخطاء اللغوية والطباعية، التي نأمل تداركها في طبعات ثانية للرواية، إلاّ ان الأهم من هذه الهنات، فأن الرواية طرحت أسئلة عديدة بمحاورإنسانية مهمة، في الوجود والحرية والاديان والعدل، وهي موضوعات تثير فضول القارىء للبحث عن إجابات، مما منح الرواية قيمة فكرية ومعرفية بعمق المأساة والقلق لمصير قادم . فضلاعن ذلك كله، يحسب لعبد الزهرة علي، ان عمله هذا خطى فيه خطوة متطورة متلمساً طريق السرد، ونقلة متقدمة على ماقدمه في روايتين سابقتين .

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم