صحيفة المثقف

أتفق مع الجميع .. وأختلف مع الجميع

abduljabar alrifaiبسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فوجئت بعد أقل من ٢٤ ساعة بتداول هذه الرسالة الخاصة، في وسائل الاتصال الألكترونية عندما راسلني بعض تلامذتي وأصدقائي يطلب مني توضيحات بشأن مناسبة هذه الرسالة.كما فوجئت لاحقاً بتفشي نشرها في مجموعات الواتس أب وڤايبر، والفيس بك، وغيرها من وسائل التواصل. واقترح بعض الأصدقاء اصدارها لاحقاً مع التعقيبات في كراس.. ومما أثار دهشتي نشر بعض الأشخاص لنسخة مزورة من هذه الرسالة في صحف عراقية ألكترونية، بتحريفها، وتقويلي ما لم أقله، وتوظيفها بطريقة رخيصة في الصراعات على المال والسلطة في بلدنا ..كل ذلك اضطرني لنشر هذه الرسالة في الصحافة، لوضعها كما هي في متناول القراء.

ولا أجدني في حاجة للاشارة إلى أن كل كلمة خارج نص الرسالة هذا، ينسبها بعضهم لهذه الرسالة، انما هي افتراء محض.

 

توضيح:

الرسالة هي جواب عبدالجبار الرفاعي لتحية وتبجيل تلقاهما من صديق قديم (عضو فاعل ومؤثر في قيادة حزب الدعوة منذ ١٩٨٠ حتى اليوم)، عبر صديق مشترك.

 

صديقي العزيز:

مبادرتك غالية، أثارت شيئاً مما هو غاطس في ذاكرتي، من لواعج الأسى الذي يغرق فيه العراق .. فيما يلي جواب كتبته على ما تفضلت به من نقل تحيات وتبجيل صديقنا المشترك، فوجدتها مناسبة جميلة للبوح ببعض جروح الروح، وأنين تراب وطننا جميعاً العراق، الذي إن غرق غرقنا معاً، وإن نجا نجونا معاً .. تحياتي ودعواتي لصديقنا القديم، الذي مضى على صداقتنا ما يقارب ٤٠ عاماً. والصديق الصدوق: هو؛ أنا تثري الأنا، هو؛ الأنا الآخر، الآخر الأنا. متمنياً التفضل بإيصال هذه الرسالة له.

 

أخي الكريم:

أنا أصغي لصوت عميق صباح كل يوم، وهو يلح عليّ: إن الحياة قصيرة جداً، الموت مباغت، سيداهمني في أية لحظة، لكن لا يبقى في ضمير الأيام إلاّ المنجز الحقيقي، والموقف الشهم، وعلاقات الثقة الصادقة .. أنت تدري صدر لي حتى اليوم ٦٥ مجلداً، في ٤٢ عنواناً لكتاب، مع المجلة الفصلية (قضايا اسلامية معاصرة)، التي مضى عليها عشرون عاماً، وكرّمها (المعهد البابوي في الڤاتيكان بروما)، بإصدار كتابه السنوي عام ٢٠١٢ لمختارات من نصوصها بالإيطالية والانجليزية والفرنسية، بوصفها المجلة الأولى في الدراسات الدينية بالعربية في ربع القرن الأخير، مضافاً إلى تسجيل رسائل ماجستير في جامعات لبنانية وعراقية ولندن وباريس حولها، وحول التفكير الديني لصاحبها .. مع كل ذلك أنا صامت، لا تجدني في تلفزيون أو راديو، أو منبر، والقليل الذي أنشره في الصحافة محورُه مشاغلي الفكرية .. تعلمت أنه: لا مُعلّم للأخلاق كالصمت، الصمت لغة حيث تفشل اللغة .. لا مُعلّم للأخلاق كالإصغاء لصوت الضمير .. تنضب الأخلاق لحظة تكون حياةُ معلّمي الأخلاق خارجَ الأخلاق .. تجربة حياتي تُختَصر في أن السلام الروحي الذي أعيشه إنما تحقق لحظة أصبحتْ حياتي صوت غفران، يتحدث إلى ضوضاءِ عالمٍ يضجّ بكل هذا القبح والعداء والتعصب والدم المسفوح .. قلبي يمحو كلّ غلّ وحقد، كي لا يتسمم فيموت .. أخلاقي يغذيها على الدوام العفوُ والعبور والتغافل، وتكرّسها مداواةُ الاساءة بالإحسان .. أحرص باستمرار على تطهير ضميري مما يلوثه من تعصبات وكراهية وعدوان .. أبادر للصفح على الدوام، وإن كان الصفح في مفهومي غير النسيان، فأنا لا أنسى مواقف البشر، لذلك لا أضعهم كلهم في سلة واحدة، وانما أحرص على أن أراهم كما هم: الجميل جميل، القبيح قبيح. الخائن خائن، الأمين أمين. الغادر غادر، الوفي وفي. المحسن محسن، المسئ مسئ .. لقد درّبت نفسي سنوات طويلة، فترّبيت مثلما يتربى المرتاضون، بحيث أصبحت أرى: ماهو مضيء قبل ماهو مظلم، ماهو جميل قبل ماهو قبيح، ماهو ايجابي قبل ماهو سلبي، ماهو مريح قبل ماهو مزعج، في الأشخاص الذين أتعامل معهم،كي أحاول رسم صوري لنفسي عنهم، تسمح لي بقبولهم والتعامل معهم كما هم، بلا معاناة وألم من عاهاتهم، أو نفور وقطيعة من عقدهم .. أعيش سلاماً روحياً، لم أظفر به إلاّ بمشقّة بالغة، ومراجعة نقدية قاسية لتجاربي ومواقفي وأفكاري، أعانتني عليه تربيتي لذاتي على: الاعتراف بعجزي، والبوح بضعفي البشري، والجهر بفضح أخطائي، والإعلان عن تناقضات ومفارقات سلوكي .. علّمتني تجارب الحياة أن الاعتراف بالفشل، والتحري عن أسبابه هو بوابة النجاح، بل أدركت أن الفشل الحقيقي هو العجز عن اكتشاف الفشل، أو التنكر له .. الاعتراف بالفشل يخلصنا من تكرار الطرق الخاطئة للوصول إلى أهدافنا، وبلوغ أحلامنا .. إن ما سهّل عليّ هذا العبور الشاق، هو اكتشافي أن الحياة مليئة بالشر، وأن الانسان كائن تمتلئ ذاته بالدوافع المتناقضة، والرغبات المتضادة، وأن الاجتماع البشري حلبة تدافع وصراع، لا يكفّ البشر فيها عن توظيف مختلف الوسائل بغية بلوغ أهدافهم، وغالباً ما يتلفع ذلك الصراع بغطاء يخفي كل فظاعاته، وتختبئ - بخبث - تحته كل الشناعات المتوحشة .. لقد وفرتْ عليّ مواقفُ الغدر والكيد والتآمر - من بعض من كنت أحسبهم أقرب الأصدقاء - الكثيرَ من الجهود في اكتشاف النزعات العدوانية المختبئة في النفس البشرية، كما نبهني علمُ النفس الحديث إلى الدوافع المتضادة في النفس البشرية، وكيف تفضحها الهفوات وفلتات اللسان والنسيان .. كلُّ ذلك وغيره هتك شيئاً من طبقات الأقنعة الزائفة، التي كانت تحجب عني الصورةَ الحقيقية للإنسان، ووفّر لي القدرة على التعامل مع كل شخص بما يشبهه وينشده، لا بما يشبهني وأنشده، لا بمعنى النفاق في مواقفي أو تغييب شخصيتي، وإنما احتراماً لكرامته، وحذراً من انتهاك خصوصيته، لذلك لم أحرص على أن يكون صديقي أو تلميذي أو ولدي، نسخة محاكية لي، كما حرصت على الدوام ألا أكون نسخة لآبائي ولمعلّمي وأصدقائي، تبقى دائماً مسافة لن تتلاشى بيني وبينهم: "هم هم، وأنا أنا" .. كل ذلك في إطار حياتي الروحية الأخلاقية، ومعايير القيم الالهية الرحمانية الإنسانية التي أدين بها .. نواميس الأخلاق الكونية علمتني: أن الكراهية لا تنتج في علاقتي بالآخر إلاّ كراهية مضاعفة، تمرض القلب، وتسمم الروح، وأن الحب لا ينتج في علاقتي بالآخر إلاّ حباً مضاعفاً، يشفي الروح، ويبهج القلب .. تعلمت أنه ليس بوسعي الاحتماء من الاغتراب - الذي يجتاح حياة كل انسان - والشعور بالأمان، إلاّ بالمحبة والإيمان.

 

صديقي الغالي:

أنت من أصدقائي الأعزاء منذ ٣٠ عاماً في المنفى، هل لديك أية معلومة اني انتميت الى حزب عراقي، او مارست عملاً سياسياً، استهدفت فيه حزب الدعوة، وحاولت تسقيطه، او تفرغت للكتابة ضده، مثلما فعلت معظم الشخصيات التي انقطعت عن الحزب، فانشق بعضهم، وشكّل جماعة مناهضة للدعوة باسم الدعوة، بل تحالف مع الغير للعمل ضد الدعوة .. كما تعلم، انا استطيع فعل كل ذلك، لكن رسالتي في الحياة خارج هذا العبث الغرائبي، وتكديس الغنائم الوسخة للورثة غداً، بوسائل ليست بريئة ونزيهة، بل بشعة .. نعم؛ لدي وجهات نظر واجتهادات في بناء بلدي، كما لدي علاقات وصداقات، لا تتطابق كلها مع رؤية الدعوة ومواقفها وحساسياتها .. فأنا؛ أتفق مع الجميع وأختلف مع الجميع، بمعنى ان نهج حياتي الأبدي: "أسير مع الجميع وخطوتي وحدي".. لم أجد فلاحاً لدنياي وآخرتي في هذه الجماعات، فتخليت عنها نهائياً سنة 1985.. منذ ذلك التاريخ وأنا أعيش بهدوء وطمأنينة، تترسخ ثقتي بالله، ويتكرس حبي لله والإنسان والعالم كل يوم .. انتميت لحزب الدعوة الإسلامية في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، في ظروف هي الأشرس والأعنف في ملاحقة البعث الصدامي للدعاة، كان الشهيد حسين معن مسؤولي، ونهضت بمسؤولية الحزب في مدينة الرفاعي وقتئذ، ثم أصبحت عضواً في اللجنة المركزية للحزب بالكويت، مدة إقامتي هناك، ثم عضواً في لجنة الدعوة في سوريا سنة 1984 .. ابتعدت عن التنظيم في منتصف الثمانينات "1985"، من دون الدخول في ضجيج وصخب وصراع أو معارك، مثلما فعل بعض رفاقي، ممن تركوا الدعوة، وتورط بعضهم؛ بما تعرفه أنت من مغانم في الوطن والمنفى .. وبالتدريج نأيت عن العمل السياسي، وانصرفت للمشاغل العلمية في الحوزة، والإنتاج الفكري .. كنت ومازلت يهمني الاحتفاظ بكل ما هو انساني في علاقاتي الاجتماعية وصداقاتي التاريخية مع أولئك الناس، الذين أمضيت معم تجربة من أخصب تجارب حياتي .. أنت تدري كل وقتي منذ ثلاثين عاما مستهلك للعمل في الدراسة والتدريس في الحوزة والجامعة، والمطالعة والكتابة ..كم اشتاق إليك وإلى كل الأصدقاء المهذبين، ممن أجد في اللقاء بهم كل مرة راحة، وأنا اذهب الى البيت فأنام بهدوء، بعد كل لقاء بهم، لكني دائماً أعتذر منك ومنهم، ولعلكم تحسبوني أتهرب من اللقاء؛ لكن يسرقني عن التواصل معكم السكر بالعمل المزمن .. حاولت أن ألوذ بالكتابة، التي أجد فيها أحياناً دواءً لشئ من مواجع الروح وشناعات العالم .. تنبهتُ مبكراً إلى أن النجاح ليس ثمرة الموهبة وحدها، الموهبة بلا مثابرة بمثابة الألماس الغاطس في طبقاتٍ قصيةٍ من الأرض، لا يتكشّف إلاّ بالحفر العميق جداً، الحفر العميق الذي تتكشّف به الموهبة هو الجدية والمثابرة .. بلا مثابرة لاتسمح ذاكرة الأيام أن تحمل بصمتنا .. التاريخ لا يسمح أن يُخلّد أي اسم لا يحفر توقيعه على الصخر بأظفاره، ولا ينحت صورته على الحجر بأسنانه.   من مهنة أبي في فلاحة الأرض، التي لا يبرح صاحبُها الحقلَ إلى الليل كل يوم، ليعودَ إليه في الصباح الباكر كل يوم، تدربت من فلاحة الأرض على ألا أبرح الكتابةَ حين أكتب إلاّ للكتابة مجدداً ،حين أقرأ لا أنتهي من قراءة نص إلاّ وأبدأ من جديد قراءة نص آخر، حين أعمل لا أنتهي من عمل إلاّ وأبدأ من جديد في العمل الذي يليه.

منذ شهرين كنت أعمل كل يوم ١٥ ساعة، مشغولاً بتحرير كتابي الجديد، عن: "الدين والظمأ الأنطولوجي للمقدس". وحاجة الكائن البشري الأبدية للدين. فرغت منه قبل أمس، والحمد لله ذهب لبيروت للطباعة. ربما ينفع من يهتم بدراسة مأزق الدين والتدين في عالم الإسلام اليوم. يتضمن فصلاً في ٦٠ ص، هو محاولة أولية للحديث عن رحلتي الروحية الأخلاقية الفكرية، أي سيرة للعقل والروح والقلب، يمكنك والقراء الاطلاع عليها، لمعرفة ما ربما هو محتجب من ذاتي، وكي تشاهد ما نسجته دروب أحلامي، ورسمته خرائط أيامي، وتكلّمت عنه أقدامي الحافية، التي لم يرهقها تراب الأزقة.

لله الحمد، منذ أمس بدأت بتحرير كتاب آخر، وهكذا لدي برنامج يغطي كل ما تبقى من أيامي .. أنا سعيد في حياتي، أعيش سكينة وطمأنينية، أمضي في نهاري، بعد أن أصلي الفجر، في نشوة الإدمان على العمل، أنام وأصحو بسلام، من دون خطايا انتهاكات لكرامة الناس تلاحقني، أو كوابيس سرقة الوطن تطاردني .. نعم، لا يقلقني إلاّ مصير وطننا العراق، أنا قلق على مصيرنا الروحي الأخلاقي العقلي، مذعور مما قد نهوي اليه، لنسقط في قاع تلك البئر السوداء، فندفن دنيانا وآخرتنا وديننا في مقبرة وطننا العراق.

أليس: "الحجر الذي أهمله البناؤون هو حجر الزاوية"! ..

أليس: "من ثمارهم تعرفونهم"! ..

"إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ"..

كل الود والامتنان والدعاء.

 

عبدالجبار الرفاعي

٢-٩-٢٠١٥

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم