صحيفة المثقف

مرايا الروح المتقابلة قراءة في ديوان أنتِ تشبهينني تماماً للشاعر سعد جاسم

770-saadغاية الشاعر أن يعبر عن الجمال وعن ذاته الشاعر وروحه الملهمة من خلال كلماته التي تولد من رحم الفكرة نافضه عنها غبار الوقت مضيئة مشعة ناصعة وصادقة كروح الطبيعة بهية تلامس القلب والمشاعر

هكذا هو الشاعر سعد جاسم يحاول أن يمسك اللحظة التي مرت والتي ستمر بإحساسه يترجمها الى الكلمات فيجعلها تومض كأنها تشع لأول مره مانحها معاني تتوهج وتشتعل وتنشر إيحاءاتها بين ضفتي القصيدة تتهادى كموجات

الآن كل شي على الورقة الكلمات والقصيدة الاحساس والمغامرة في اللغة الابتكار والخلق

ففي قصيدة محروسة بآياتِ دمي يحضر الشاعر من الغربة ينبثق من ذاكرة الغياب ليؤكد بهاء الحضور

770-saadأعرفُ أنَّ ليلكِ شائكٌ وطويلٌ

حتى صحارى الأرق

وأعرفُ أنَّ غاباتِ التوجسِ والسهادِ المالحِ

تسرقُ كحلكِ

فتندى عيونكِ

ويشتاقُ جسدُك لرائحتي

وصهيلِ جسدي

و نبيذِ انفاسي

أعرفُ هذا

ولذا ألجأُ معكِ للـ(كُنْ) وللصيرورةِ

وأُصبحُ حارسَكِ

وراعي وحشتكِ الآهلةِ بحشودِ الاصواتِ

هنا يواصل الشاعر سعد جاسم مغامرته في اللغة وسفره عبرها والذي بدأه من قبل في دواوينه السابق مواصلا الرحلة مع مشروعه الذي أمضى فيه سنوات طويلة وسيمضي سنوات أخرى لان سفره في اللغة لا ينتهي فهو يشتق من الكلمات

معاني غير مألوفة ويخلق الدهشة و الجمال في إلا متوقع من إبداعه فهو يزاوج بل محسوس بلا محسوس

لنأخذ مثلا (صحارى الأرق ) صحارى محسوس و الارق غير محسوس او (غاباتِ التوجسِ) غابات محسوس و التوجسِ شعور غير ملموس

وفي قصيدة أَنتِ تشبهينَ الحب يطلق نشيده الأزلي وترنيمته الأبدية فتكون الحبيبة وطن والوطن هي الحبيبة فيبتكر الكلمات لأجلها مخترقا حدود الدهشة فيخلق من الكلمات غيوما تهطل على أرضها البكر فتكون أشجار وعصافير دهشة محتشدة بكل هذا البهاء لوحة رسمها الشاعر وأضاف لها تكوينات كثيرة نضدها في كلمات وجعل منها إيقاعات في قصيدة فكان تشبه أحلامنا او ما كنا نتمنى أن نحلم به فلا نعرف بعد انتهاء القصيدة هل الشاعر هو الذي كتب الكلمات ام حبيبته التي هطلت منها غيوم الكلمات أم نحن فهو لا ينقل المتلقي الزمن القصيدة فحسبي بل يجعله يفكر ويشعر بما يشعر به الشاعر فيمنحه مرتبة الشاعر

 

هلْ أنا مَنْ صيّركِ غابةً

تحتشدينَ بكلِّ هذا البهاءِ والخضرةِ والجنون؟

هكذا أراكِ أنا

واقفةً بنداكِ وعطوركِ وصهيلك

تبتكرينَ ربيعاتٍ لأجلي

وتهطلينَ بغيمِ الكلمات

فتتعالى الارضُ شجراً مستحيلاً

وتتخلقُ عصافيرُ الدهشةِ

 

وفي كرنفالات جسدك وطقوسه رسم الأحلام على المرايا فجعلها مرآة للروح في زوايا متقابلة فكانت كريستالات تشع الألوان مختلفة لذات واحد فتشرق الشمس في قلبه فينسى ما خسره في المنافي والحروب هذا ما يدونه في صباح النسيان  

 

أبتدئُ معكِ نصَّ الصباحِ

وأغانيه ُوقبلاتهِ ونداهُ

فتشرقُ شمسٌ في قلبي

وأحبك أكثر من أكثر

وأنسى ما خسرتهُ

في المنافي والحروب

 

وفي تجليات السومري يخذنا الى حضارته البهية ها نحن نرى الفتيات بثيابهن السومرية يتباهن باسورهن قلوبهن بيضاء وبشرتهن السمراء التي تشع جمالا ودلال وتلك العيون السمراء الواسعة التي ترى بهاء الحضارة وعنفوانها من مثل سومر نشرب من النهر السومري فنرتوي من ماء زلال وعذوبة ننظر الى أول حرف على الطين فيشع نور وهذا أول رقيم حمله كلكامش في رحلته للبحث عن الخلود الرحلة التي لم تنتهي بعد وألواحها التي فقدت محفوظة في القلوب فكتب شاعرنا تجلياته على المتون بخط سومري كعاشق لبلاده

 

أنا السومريُّ الروح

وأضاف هذه البلاد ارض سومر هي

البلاد – أُمُنا الجليلةْ

البلاد – المستحيلةْ

فباركها و ألقى عليها السلام فهي منذ أن كانت و لا زالت بلاد النور

أنتِ آيةُ النورْ

سلاماً يا بلاد النورْ

 

فالديوان بمجمل قصائده يقترن بجمال الحياة شكلا ومعنى و الاهتمام بالتكوين والديمومة والبحث عن الانعتاق و الخلاص والذهاب نحو المطلق،فالنص لديه كيميائه الخاصة ، يكتب الشعر بطريقة جديدة و بغير أدواته المعهودة. كشف خلال تجلياته مدى علاقة الروح باللغة وتطويع هذه اللغة لتعبر عن الذات الشاعرة

ويبين هذا الأسلوب الجديد من الكتابة في قصيدة النثر العلاقة الروحية بين ذات الشاعر الملهمة وكلماته و اذا تأملنا ديوان سنجده تجسيدا لمشروعه الشعري الذي بدأته في الثمانينات فمنذ أن قرأت له أول نص نشره على صفحات الجرائد في ذلك الوقت عرفت إن الشاعر سعد جاسم باحث عن التجديد لمفهوم النص بلغة خاصة ارتآها

والميزة التي يمتاز بها الشاعر سعد جاسم هي محاولة اكتشاف ذاته من خلال القصيدة واكتشاف العالم مرة أخرى لذا ترى قصائده في هذا الديوان تتسم بالشمولية وهذا ما يسعى إليه جاهدا فيتسع أطار الرؤية لديه ليجعل القصيدة تشبهه وتشبه العالم الذي يحلم به من خلال حبيبته فنحن هنا أمام مرايا متقابلة ومتعاكسة الشاعر أمام روحه الشاعرة وأمام العالم وأمام حبيبته فتتقابل الصور وتمتزج أحيانا وتتمها حتى تغدوا لحن واحدا بإيقاعات متعددة و لهذا كان عنوان المجموعة (أنتِ تشبهينني تماما)

 

بقلمي : ناظم ناصر القريشي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم