صحيفة المثقف

"فكرة وفضاء الصمت" في ديوان: مكان ما في اللانهائي للشاعرة المغربية رجاء طالبي

771-rajaيحتل الصمت كدلالة شعرية تحيل الى الانشغالات المتنوعة؛ الجمالية والفكرية والحياتية، مكانة مهمة في قصائد ديوان الشاعرة المغربية رجاء طالبي "مكان ما في اللانهائي" الذي صدر عن دار فضاءات، عمان عام 2015. وهذا الديوان هو الرابع من مجموعة الدوواوين التي اصدرتها منذ عام 2009.

771-rajaان الاحساس الداخلي المتوقد في وجدانية الشاعرة، هذه الذاتية المبصرة للانسان والكون، لا تعبر عن نفسها برومانسية مندفعة في بوح علني هادر، بل تنساب في تأملية صامتة، مفترضة في هذا الصمت تلك المسافة الغير مطروقة بين المبدع والمتلقي. فغرض الشاعرة، كما سنلاحظ في القصائد، هو ابعاد النص قدر المستطاع عن الصخب والقراءة السهلة، العابرة، وحث المتلقي على الغوص في عالمها الشعري..و محاولة اغواء لاستدراج القاريء الى لعبة الوعي الشعرية لادراك الكون والاحاطة بقدر ما بحيثيات التجربة الذاتية جماليا. وهي مهمة تواجه صعوبات كثيرة، الا انها رغم هذه الصعوبة والاشكالية التي تقترن بها في استبطان المعنى، تمنح المتلقي متعة الفن والخوض في مجاهل النص الشعري . تستخدم الشاعرة لغة غير مباشرة كاداة لاضاءة هذا الصمت، ولأن ذخيرة الشعر ومادته الاساسية هي اللغة، شأنها في ذلك شأن اللون في الرسم والحجارة في النحت والصوت في الموسيقى"، كما يكتب يوري لوتمان ويضيف " اللغة هي مادة الشعر، أنها الجوهر المادي، النسيج الملموس"1.الا انها لغة غير مباشرة تحمل اسرارها الخاصة بها، توحي دون ان تغرق في التفاصيل، وتعبر عن معنى الاشياء متجنبة قدر الامكان الوقوع في شرك التجريد المفاهيمي الخالي من الحس والحياة ف" افضل وسيلة كي تكون اللغة غير مباشرة انما تتمثل في الاشارة، قدر المستطاع، الى اشياء في حد ذاتها، لا الى مفاهيمها، لان معنى الشيء يومض دوما بخلاف المفهوم" 2..والسؤال هو؛ ما هي الاحالات الشعرية التي تضمنتها "فكرة الصمت" لدى الشاعرة رجاء طالبي؟ والى اي حد تمكنت، شعريا، في القبض " على الصورة الجوهرية للاشياء" باعتبارها غاية الفن طبقا لارسطو؟ وهل اكتفت بالصمت كفكرة ام استخدمته كفضاء ووعاء للخلق الشعري ايضا؟

 

الصمت كفضاء للبوح

في الصمت تزدهر قصائد الشاعرة طالبي ـ تتحاور مع نفسها، تثرثر بكبرياء، واحيانا بغضب مكتوم، دون ان تلتفت الى علامات استفهام الاخرين، وتغتني بتأمل حياتها في اللغة وطيات المعنى..الصمت لديها ليس فعلا فيزولوجيا ..بل انه فعل وجودي حسيّ يعيش في الكلمات، حيث تتحول الكلمات الى لحظة، زمن، الى شيء، شكل، او الى حس، متمثلة جميعها في " خفق اجنحة لا مرئي"ص.27.. انه فضاء حر، خال من فضوليين وغرباء؛ هنا تنصت الذات الشاعرة وتبوح لنفسها اسرارها الخاصة بها، وتكشف لنا عن بعض افكارها وخبايا عالمها الحساس. وبهذا فهي تحاول عبر الصمت وبواسطته جعل الشعر وكما يكتب د. ابراهيم ريكان، "معرفة"3، وهي معرفة ذات اشكال متنوعة عقلية، نفسية وجمالية، فيها تفتش الشاعرة عن نفسها كأمراة، وانسان وذات مفكرة لها وعيها الخاص بالوجود والانسان. تلك المرأة التي تنشغل احيانا بما هو يومي وفي حيثيات حياتية تتكرر، وتتحايل عليها مثلما "فنانو الاحد يرسمون اطياف نشوة"، عبر ممارسات متنوعة، "لمراوغة التعب" ص.19، كنوع من العزاء الذاتي ردا على امتهان روتينية الحياة لاحساس امراة تعيش الفكرة والكلمة والموسيقى

"وانت تقطعين الخبز،

حين استحضرت في شرودك

أبياتا لريلكه، ( ....)

تنصتين لليليات شوبان" ص.95

وهي مقابل ذلك تفضل البقاء في وحدتها وعالمها وصمتها احتجاجا ورفضا للتشوّه الذي اصاب العالم :

" لا تشعل الضوء !

هنا العالم مكتظّ بأشباح ومسوخ

( ....)

لا خلاص سوى في هذا التوقف عن التنفس

أعين مفتوحة، صمت يطفو "ص.25

الحل أذن في هذا الصمت الذي يصل ذروته الى درجة الرغبة للتوقف عن التنفس. لكن هل يفهم من ذلك انها رغبة عدمية كارهة للحياة ومفضلة الموت، ام انها دعوة الى صمتٍ يتيح لها التطلع الى انسجام حركات الاشياء والانسان في اتساق احتفالي، يتجاذبها ما هو مقفر في الخارج وما هو ثري، مكتنز، عميق في الروح- الداخل..في تلك اللحظات حيث يصبح غناء الشجرة معادلا متخيلا للصمت، واطلالة ممكنة على الوجود النابض بالحياة ..الصمت البديل الذي لا يمكن لغير الشاعرة ان يدركه ..!

" ليس منفى داخليا

و لكنه ملاذ

السطح مقفر والداخل مأهول،

أطفأت النور

تأهبتُ للنوم

عندما أطلقت الاشجار

غناءها الليلي ؟   الديوان، ص. 64

هذا الشدّ الروحي بين اعماق الانسان الهائجة وبين محيطه، بين ذاته وعالمه، بين احاسيسه الشفافة والوجود الصلد المحيط به، كلّ هذا يتجسد في الكلمات عندما اطلقت الاشجار غناءها الليلي، فالغناء هو صوت الشاعرة الداخلي، انه فضاء الصمت الذي تعيش فيه وتطمئن اليه، وهو يكتسب راهنيته من هذه الكلمات عندما تنطلق ولا ضير من شجر او طير او انسان ص.64

 

الصمت والغور في الاشياء

ومن هنا فان الشاعرة حتى وهي ترفض ما حولها وترتضي بالصمت بديلا، فانها لا تطلّق الحياة تماما، بل تجد في الصمت فرصة للتأمل فيها. ثمة مسعى في هذا التأمل للموازنة بين ملامسة الاشياء، لكن عن مسافة لتجنب الضياع في أتون ما هو ملتبس فيها او مشوّه من جهة، ومن الجهة الاخرى الحذر من الوقوع في الفكرة المجردة والرؤى المتخيلة المهومة في اللغة، بحيث تضيّع متعة الاستكشاف واعادة الخلق لهذه الاشياء. فهي كما تقول تعيش في الكلمة، والكلمة هي الحياة، انها بيتها الحقيقي ومأواها الاخير:

" وعليّ الاعتراف: تحييني كلمة او تميتني" ص. 53، لانها كلماتها هي وليست لشخص آخر.. حيث تزورها احيانا في غرفة السطح المهجورة على شكل ارواح صامتة ص53.

وتشدد على اهمية الكلمة بالنسبة لها في قصيدة اخرى:

" لا شيء ليقتلعك من هذا البياض " ص.103، انه تشبث مخلص وانحياز واع الى الصمت باعتباره جزءا من كينونتها ووجودها. فالبياض ليس فقط دلالة على النصاعة وخلو التجربة او الذاكرة بل انه ايضا فضاء مغر للانصات المطلق والتوحد الكامل مع روح الاشياء، وهذا الانصات يتطلب سياقا وطقسا من الصمت يتحول في مجرى الوقت الى ظل ورفيق:

" الصمت الذي رافقني طويلا في عزلتي

اخذ مني ومنحني الكثير" ص 102. إذن الصمت والكتابة هما توأمان ترعاهم الشاعرة وتعيش بهما ايامها، وتحدق عبرهما في ارجاء الكون وخبايا الانسان والذات ص.103 .

الا ان الكلمات- اللغة تخذلها في بعض القصائد، وربما هذا ناشيء عن ضغط الموضوعات التي تلح على الشاعرة، فتقع احيانا، وهي تغامر بصبر وشفافية لسبر تلك الاماكن المنزوية في الوجود والعلاقات الانسانية، في تجريد لغوي يفقد القصيدة تلك الشفافية الشعرية.ًص.72، ص.75 او رصانتها ص. 108،. وهي لا تكتفي في هذه المغامرة بان تكون في الواقع مجرد مخلوق عادي يشبه اقرانه البشر، لانها كشاعرة، الى جانب انسانيتها كأمرأة، هي حسب تعبير جان كوكتو "خالق"، لان الشاعرة - الشاعر "هو في الواقع اكثر من انسان "، انه " قادر على فتح افاق جديدة على عالم مجهول"4 . وقد وجدت في الصمت قناعا وملاذا لكي تحمي روحها وتكشف كذلك عن انسانيتها المعذبة، وتختبر قدرتها على الغور في عمق الاشياء التي تبدو للاخرين سطحية او مألوفة. الصمت بهذه الصورة يفتح هذه "الافاق الجديدة" عبر تأملات فكرية وحسية تكشف عن ذات شاعرة غير معنية بتقديم البراهين لاحد بقدر ما هي مشغولة اساسا باكتشاف مكانتها في الوجود. انها تفتش عن نفسها الموجودة الماثلة امامها وعن تفاصيلها الخاصة المواربة، مكتفية باي اثر، ملمس، باب، بصمات، ومتشبثة بقلق ملهم ؛

"قلق يلتهم الاستعارات، لا تهدأ نظرته" ص.7

وهو قلق يتحقق باوسع مدى في الصمت، إذ ان الصمت يتخذ اشكالا متعددة. انه التوحد الانساني، الزمن الذي تتجلى فيه تجربة وتصورات الشاعرة عن الحياة والانسان

" نفس الانتظار الذي لا ينتهي،

لسانك من حجر

بينما يمضي نهر الصور

امام خفقك،

كما لو ان ليس هناك شيء ." ص. 14

فكل شيء يوحي هنا بالصمت .. الانتظار المعادل الزمنى للفراغ والعزلة، يقابله الصمت المطبق المتشكل على صورة "لسان من حجر" .بينما يتحول هذا الصمت في المكان الى "نهر صور" لتنتهي القصيدة ثانية بالفراغ والصمت .." ليس هناك شيء"

الصمت هو "حبسة اللغة"ص.15، واذا كان اللسان حجر فان " الفم بدون لسان" ص. 15، لان " الصمت سميك" ..انه انتقال اكبر واكثر الما وفزعا من حالة من حالات الصمت التي تسود فيه امكانية امل وتبصر واغنية لشجرة او يتجلى عبر كلمة، الى نوع اخر من الصمت المطبق، حيث يأخذ شكلا محددا ويحتل مسافة، انه الفم بلا لسان، فاللسان رمز اللغة يغيب تماما، ويحل محله الفراغ، فراغ هائل منفتح على هوّة بلا قرار..انها حالة الفزع اليومي التي تريد تسجيلها الشاعرة وتقاسي من اجلها، لانها كما تقول " لكن تأخر الوقت" ويمكن تأويل هذه العبارة بكونها تتضمن ترددا وحيرة اكثر مما توحي بالتخلي التام او الاستسلام الكلي.. فالفزع على رأي المفكر الدانماركي سورن كيرككورد قد يكون حافزا للاختيار ومصدرا الى الارادة الانسانية وحثا على الفعل القادم.

انه انفتاح على ممكن مستقبلي، ايحاء بكسر هذا الصمت وتوليد بديله عبر مكاشفة وكشف لواقعية الاحداث وفضاعتها، او اليوميات الصغيرة التي تحياها امرأة، وهي وتكشف عن ماهيتها وأناها ص.18

هنا تصوغ الرغبات المكبوتة لتدفع عنها تلك القيود والحدود التي رسمها لها الاخرون، حدود الجسد - الانثى والقوانين المستنبطة منها .الا انها تتخطى تلك الحدود، كما في احدى القصائد، عبر استهلال " كأن" يتكرر في القصيدة، الذي ينطوي على سخرية مريرة..كما لو انها تسعى لرسم حدودها وسماتها المغايرة، البديلة الخاصة بها.. انها تريد هذه الانثى التي تنتمي حقا اليها باعتبارها " اصغر من كلمة مقاومة مراوغة" وسط هذه التراكمات الزم-مكانية، ص. 18-19 . ويبدو هذا النزوع جليا في نهاية قصيدة اخرى، حيث تلجأ الى الكلمة، القصيدة لرهان نفسها من اجل كسب حرية من ذلك الجسد المسوّر بقوانين الممنوعات والروتين والعادة " احتاج ان اكون رهينة القصيدة لاتحرر من نفسي" ص.23 . والانصياع الى فضاء القصيدة، يعني الخضوع الكلي الى الصمت، او الحوار الذاتي الصامت، إذ لا يمكن ان تتحق الكتابة الا في الصمت والعزلة، في طقوسية تعيد عبرها ترتيب الاشياء بطريقة تلمس فيها حريتها. ولادة القصيدة هي سيرورة الصمت الكلي المطبق لصحوة الشعر. ص.23. لكنه صمتها الانيس البديل، حين يكون "العالم مكتظا باشباح ومسوخ" ص. 25 . ثمة رغبة قوية وغضب داخلي ونزوع عنيف نحو الخروج على المألوف.. وهو خروج في اطار الصمت ومنظومته عبر الكلمة. وتصف لنا وهي تعاين عالمها ونفسها وتدخل في حوارية معها، تلك الذات المقاومة الحيّة النابضة بالمعرفة الشعرية التي تمثل عونها الوجودي، وهي معرفة تراكمت خلال محاولات متنوعة وغزيرة وشاقة، معترفة في نفس الوقت بانه خروج محفوف بالمخاطر إذ تسير على حافة الاخدود :

" على حافة الاخدود تسيرين مائلة

يتمايس في جسدك ازرق باطاي،

ضوء هيلدرين،

منفى بلونشو" ص.7

وهي تصر على هذا الصمت الرافض، فالازدهار يكمن في الرأس، منبع الكلمة والصورة والخيال، حتى ولو شح العالم وتحول الى خواء وفراغ

" اذا داهمتك الحرائق

ان عزت الغابة

ان شح النبع

اركض في راسك حتى انبجاس شمس العتمات

انتظر ستاتيك الغابة يتفجر النبع صاحبها فقط عتماتك

انتظر ! ص 84

 

تكرر هذه الرغبة- التعزية المُرّة للذات للتعويض عن مرارة العالم والخسارات واللامعنى في قصائد اخرى ايضا،ص.93

ترادف الصمت والغياب:

يحيلنا الصمت في قصيدة اخرى الى الغياب، الى شيء مفقود، اذ تتواطأ الاشياء وتغلق على نفسها برعونة، وحيث الريح تبعث اسى غريب في النفس عن شيء ضائع، مفقود، أو غائب.

" تغيب في هذا الصمت

حيث تتواطأ الاشياء في انغلاقها

ما ننصتُ اليه يفتقر للكلمات

يحدق باعين مطفأة،

بينما متوغلين في الانصات،

تصفر ريح في البعيد". ص. 11

تذكرني هذه القصيدة بواحدة من قصائد الشاعر الالماني يوهانس بوبروسكي وهو يعيش عزلة في الاعتقال السبيري بعد ان وقع اسيرا في ايدي الجنود السوفييت في نهاية الحرب العالمية الثانية، ويصف عزلته عبر الصمت وانصاته "للريح القادمة من بعيد".

ففي صمت كهذا يكون الحنين والغياب مضمونه،وحيث يكاد يختفي كل ما هو انساني في فضائه، تصبح كل اشارة او حركة دلالة على الحياة، وممارسة لاقناع الذات المعزولة؛ بان ثمة حياة وثمة كوّة للنور القادم رغم كل شيء.

 

 

النسيج الشعري للقصائد:

يتكون الديوان من 88 مقطعا او قصيدة دون ان تحمل هذه المقاطع عنوانا خاصا بها، لكن يمكن القول ان كل مقطع يحمل سماته الخاصة به، رغم وجود تداخل في المعنى والصور والدلالات الشعرية. الا ان هذا التداخل لا يشكل تصاعدا متناوبا في ثيمات القصيدة، بل يشكل في احيان كثيرة انقطاعا وافتراقا سواء باسلوبية او تركيبة القصائد او محتواها. فنجد القصيدة ذات السطر الواحد ص.26،41، 76، واخرى تتسم بحكائية او سردية ص.20، 22،54-57،، 71، 90، وثالثة يطغي عليها طابع التأمل الحسي التجريدي ص.73،75، ورابعة تبرز في ثناياها الافكار العقلانية ص.65،66، او تأملا فلسفيا مقنعا بلغة شفافة ص.65، او عرفانية صوفية ص. 23-24، او واقعية رومانسية ص. 16، 31، تنزلق احيانا الى واقعية تنحو نحو فوتغرافية وان كانت اصيلة ص.32،81، باختصار تلوين لغوي ذاتي يباغت القاريء بعمقه ويأخذه بعيدا نحو التفكير والدهشة. وهو ما يمثل تنوعا في المعرفة الشعرية للقصيدة ويشكّل بنيتها الحيوية .. ويمنح متعة جمالية -فكرية لحظة القراءة وما بعدها. قصائد تتفرع على موضوعات غزيرة؛ كالفراغ، العدم، اللامعنى، الخواء، التيه، القلق، الرحيل، الغياب، الموت، المرأة وعالمها،المعرفة، الخ، وكلها تجليات لفكرة الصمت وفي فضائه.

ان انعدام تأرخة القصائد او المقاطع او لحظة كتابتها اضافة الى التفاوت في بنى القصائد ولغتها وتمكنها التعبيري والدلالي اعاق الى حد ما من امكانية تعقب التطور الشعري لقصائد الديوان ومعرفة اتجاهاته، وفيما اذا كانت هذه القصائد مكتوبة في فترة قريبة او متباعدة. قد لا يكون هذا الامر ذا اهمية اذا قرأنا القصائد كنصوص معزولة، لكننا ازاء تقييم تجربة خاصة ومهمة تتعلق بثيمة الصمت التي تحضر على امتداد القصائد، إذ ربما كان بالامكان توفر قراءة اخرى، وحتى مختلفة بوجود تأريخ للقصائد. وبالطبع لا يمكن مسائلة الشاعرة عن الطريقة التي تكتب بها لكنني وددت الاشارة الى ذلك للتنبيه على محدودية قراءتي النقدية للقصائد او قصورها.      

يمكن القول اجمالا ان التجربة الشعرية في هذا الديوان تشتغل على ما اطلقت عليه في مكان آخر "قصيدة المعنى"، فالى جانب التمسك بالارتقاء باللغة والصورة الشعرية وبنية القصيدة وكثافة النص، الا ان "المعنى" يحتل اولوية في هذا النوع من التجارب الشعرية. أي في السعي الى تحميل اللغة والمعنى والاشارات التي تتضمنها مستويات متعددة تفتح بابا لفرص تأويلية متنوعة، رغم ان الشاعرة بقيت محصورة في تكرار بعض الصور والصياغات الشعرية، ومعانيها، وهذا ربما يعود الى صعوبة تناول ثيمة حساسة كالصمت تتضمن معنى فلسفيا وجوديا مصاغا بجمالية شعرية، التي لم تلق الاهتمام الكافي من لدن الشعراء الحداثيين العرب، رغم ان فكرة "الصمت" صارت من صلب الموضوعات التي طرحت ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصا من قبل ماكس بيكارد " الصمت والتاريخ" عام 1948 وجورج ستاينر في كتابه " الصمت والشاعر "( 1966) . وقد عالج المؤلفان موضوعة الصمت كتعويض عن الخسارات وردا عليها في حياة الانسان وكقوة، كلمة، او سياق يصاحب هذه المواجهة الوجودية للانسان، وعلى هذا النحو فقد تحولت ثيمة الصمت في الفلسفة والادب الى معيار لادانة الذات او الدفاع عنها في زمن الانحطاط الكلي في ظل ظروف قاهرة يعيشها الانسان.

من هنا، يمكن القول،ان ديوان الشاعرة رجاء الطالبي" مكان ما في اللانهائي"، نجح في تناول فكرة الصمت وفضائه لاضاءة موضوعات اخرى تتعلق بالانسان وقضاياه الراهنة. ويُعتبر خطوة مهمة ويفتح بابا جديدا امام تناول موضوعة الصمت شعريا باعتبارها من القضايا الفكرية والانسانية الكبرى في عصرنا الحديث.  

 

قحطان جاسم

..............

الهوامش:

1) يوري لوتمان، اللغة بوصفها مادة اولية للادب، ترجمة د.جميل نصيف التكريتي، الاقلام، ع 1-2، 1993، ص. 123  

2) جوناثان كلر: اتفاقات السرد، ترجمة محمد درويش، الاقلام، ع 1-2، 1993، ص.159

3) د. ريكان ابراهيم، البنيوية والشعر في المنظور النفسي، الاقلام، ع 5، 1989، ص. 27

4) د.زينب عبدالعزيز، جان كوكتو، أكذوبة دائمة الصدق، بغداد، افاق عربية،1977، السنة 2، ع 6،ص. 68

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم