صحيفة المثقف

مصطلحات قلقة بين التأصيل والتوصيل (1-3)

abdulelah alsauqتوطئة: لم يكن ينقص الاعلام بعد ان آل الى علم وعلماء وأكاديميات وأكاديميين، فتعددت الاختصاصات والمناهج فازداد الطلب على الاعلاميين المختصين المحترفين حتى سمي النصف الثاني من القرن العشرين عصر الاعلام وحين بات الانترنت بمقدور كل الناس ودخل الآيفون والآيباد فبات الانسان مرتبطا بالتواصل مع الآخر وسادت في عصر الانترنت اميّة المصطلح النقدي وبخاصة في حقول الشعر والنثر الادبي والفن والموسيقا والمسرح، وقد حام ذباب غير المثقفين او ادعياء الثقافة حول عسل الثقافة، فعاد بمقدور الكثير ممن يجهل النقد ناقدا مثلا ، ومن يجهل المصطلح مُنَظِّراً ولم تكن المحنة في امية النقد حسب بل المحنة تفرخ محنات اخرى، فمدعي النقد لايميز بين النص الادبي المكتنز والنص التفيه الذي لايمت الى الادب بأدنى صلة، كانت الصحافة ايام زمان تعتمد خبيراً قبل نشر النص الادبي شعريا كان ام نثريا ولذلك تضع النصوص الضعيفة في بريد القراء او تحجبها، ان الصحافة الالكترونية غير الرصينة خَلَّقَت متلقين للنصوص العليلة والنقد الوبيل ، بل ان بعض النصوص الركيكة تجد من يترجمها الى الفرنسية او الانجليزية او الاسبانية او الالمانية .. وبعض ادعياء النقد عثر على دار النشر الربحية التي تنشر وتعلن ان المؤلف مسؤول عما يرد في كتابه، ففي كل يوم يصدر ديوان لاينتمي للشعر بأدنى وشيجة ويصدر كتاب نقدي لايمت الى النقد بصلة، ناهيك عن اللغة فثمة الذي يرفع وينصب ويجر دون شيء من معرفة النحو ولو يسيرة وهو يكبو في الاملاء بما لايقع فيه طالب المتوسطة، والبعض يعرف النحو والاملاء ولكن ذلك غير كاف مالم تكن تركيبة الجملة تركيبة عربية، واذا خرجنا عن النص كما يقال فلسوف نرى ان المراهقة عامل مضاف الى الجهل بالحرفة، فاذا نشرت فتاة قصيدة ونشرت الى جانبها صورتها المغرية وجدت من نعنيهم يهرعون لنقد القصيدة عسى ولعل الفتاة تلتفت اليه ويدشن معها الصداقة، والعكس صحيح، واحيانا تنشر مرسلة القصيدة وهي ابنة صورة لها قبل ثلاثين عاما،، بل قد ينشر رجل قصة وهو يضع قناع فتاة، والعكس صحيح ايضا، وحتى لانطيل ولا نقاضي والانسان حر في كتابة ما يظنه ابداعا، وبما ان منهجي وصفي لايقاضي وانما يؤشر فقد اجتهدت ان أُقَعِّدَ عددا من المصطلحات التي تفتح وعي الشاعر المبتديء او الناقد المستجد، فالمصطلح في يقيني علة العلل فيا طالما درس طالب الجامعة المصطلحات الادبية دراسة خائبة بسبب كتاب مقرر او ملزمة ملفقة او مدرس متخلف عن العصر والمعرفة، وكنا قد نشرنا مصطلحات في مقالات سابقة تحت عنوان موسوعة الصائغ الثقافية، وفي هذا المبحث محاولة جادة للتأصيل، وهو لاحق لمباحث سوابق انظر **وهذه هي مصطلحات هذا البحث:

 

فهرست مصطلحات غائمة محاولة للتأثيل

النقد / النقد الأدبي الحديث / بواكير النقد /   بواكير النقد اليوناني / بواكير النقد الأدبي العربي / دلالات المصطلح اللغوية والوضعية والتأسيسية / الأدب / الأدبية / الشعرية / نقد بين اللغة والوضع والتأسيس / النقد المعياري الذي يقاضي المبدع ويصادر المتلقي والنقد الوصفي ( البنيوي ) الذي يصف ويمهد / النقد المزدوج / مشجرة النقد / الأسلوب / الاسلوب العلمي والاسلوب الادبي / الحديث والتحديث / الانزياح / البيان / التشبيه / الاستعارة / التجسيد / التماهي / التناص / الخطاب التليد والخطاب الطارف / الخطاب كمفهوم جديد / الحكاية الشعرية/ حكاية زيارة لعبد الرزاق عبد الواحد / حكاية فطور مغربي لمحمد حسين الاعرجي / السرد العلمي والسرد الادبي / الصورة الفنية / القناع / المعادل الموضوعي / الادب المقارن / الادب الموازن / الاديب / الدربة / الايقاع / الموهبة / الثقافة العامة والثقافة الخاصة / التأويل / الدلالة / التجربة الخاصة / الاختصاص / الحيادية النقدية / اكاديمية الناقد / المروءة العلمية / المنهجية .

 

العرض

النقد الأدبي الحديث، موضوع ساخن، يجد جمهوراً كثيفاً من القراء الاعتياديين والمختصين في كل بلد بسبب الوعي النقدي الذي شاع في عقدي القرن العشرين الأخيرين، والأمر مفرح حقاً: أن تصنع كتاباً وأنت تدري حاجة القراء إليه، وأنه سيتداول بين الناس، فيقرأ ويقوَّم وأيّ كاتب لا يُبهجهُ احتفاء كم كبير بكتابه؟‍‍‍‍، بيد أن هذا الأمر المفرح يبدو مقلقاً قبل كل اعتبار‍‍،، فأن تتصدى لدراسة مساحة شاسعة من الأدب فذلك يعني أنك تمتحن مروءتك العلمية وقدرتك الذاتية في نار اختلاط الأوراق والتباس الوجوه والنوايا، هذه النار التي تلتهم العالم والمتعلم، وترقص حولها أشباح مختلفة القامات والنوايا..زد على تلك طموح هذا الكتاب غير المحدد في أن يتوفر على مساحة معرفية شاسعة ليرى فيه القارئ ضالته حين يعود إليه، واستناداً إلى هذه وتلك قَسَّمْتُ هذا الكتاب بابين، نهد الأول بموضوعات الخطاب الشعري بفروعه وفنونه كافة، وتوفر الباب الثاني على جل مفردات الخطاب السردي، فهو كما ترى كتاب موسوعي أفقاً ونقدي عمقاً. همه رأب الصدع الابستمولوجي والانطولوجي في جهة واستثمار تقنيات تحليل النص وتأويله وترميمه في الأخرى، وهكذا تكفل الفصل الأول والفصول اللاحقة بصناعة معجم نقدي أدبي وتأصيل المصطلحات وامتحانها من خلال النص والقاعدة وتحليلهما،، وأنت تعلم أن إشكالية المصطلح في أدبنا العربي الحديث إشكالية مزمنة فهي من أعقد الإشكاليات إن لم تكن أعقدها، فالناقد العربي لا يجد غضاضة في اختلاق المصطلحات الخاصة به لإطلاقها في وجه القارئ بغية إرهابه وإيهامه أن هذه المصطلحات (المخلّقة) معروفة متداولة وأن الجهل والسكونية وراء عدم القدرة على استيعابها، بله تمثلها،.. وزد أيضاً أن المصطلحات الأدبية النقدية في الوسط الثقافي العربي غير راكزة فثمة قراءات كثيرة للمصطلح تختلف باختلاف المناهج والمدارس والمرجعيات، فالناقد الأدبي العربي ذو مرجعيات مختلفة إلى حد القطيعة، ألم تر إلى أشقائنا النقاد في المغرب العربي كيف يتأثرون بقراءاتهم الفرنسية، وإلى النقّاد المشارقة، كيف تضغط عليهم قراءاتهم الإنجليزية، ولم تقف إشكالية المصطلح عند هذه المنحدرات الملساء، فأنت قبالة ناقد قداموي وآخر حداثوي ولكل منهما مرجعياته وقراءاته الخاصة للمصطلح، من أجل هذا لم تشغلني الخلافات والاجتهادات، وكان شغلي معتمداً أساساً على مدى قرب المصطلح من المنجز العلمي المستجد، أما المدارس والمناهج والنـزعات فقد جعلت وكدي في دراستها مركزاً على النصوص؛ فالقاعدة بالنسبة لمنهجي تبع للمثال ولن أرتكب خطيئة العكس ثم نهلت من الموسوعات الأدبية والفلسفية ومعاجم المصطلحات والكتب التي رزقها الله مؤلفين ذوي ثقافة ومروءة واسعتين.أما الشواهد والنصوص فهي جديدة كما يرى القارئ، حاولت انتقاءها بنفسي ضمن منهجي واجتهادي الخاصين فليس في رقبتي بيعة للأسماء الكبيرة أو أدباء السلطة أو الشلليين أو الذين رثَّت نصوصهم لكثرة الاستعمال والنقل والاستشهاد. وقد كاتبت كثيراً من المبدعين والنقاد وطلبت أعمالهم وأقلهم استجاب لمشروعي وأكثرهم لم يصله طلبي بسبب طول بال البريد العربي وحساباته السرية،، وهي دعوة إلى القارئ ليطل على الكشاف التفصيلي لهذا الكتاب، ففيه تفصيلات وإيضاحات مهمة، تدل القارئ على مفردات الكتاب وتبويباته وتفصيلاته حتى تكون الفكرة عن هذا الكتاب واضحة.أما المنهج الذي اعتمدته في تحليل النصوص وتأويلها فهو المنهج الفني المكتنـز بشحنات علم الدلالة، وهو الأحب إلى نفسي والأقرب إلى روح النص، فإذا درست المدارس وأعلامها والنـزعات وروادها والمناهج ومؤسسيها، وجدتني مضطراً للاستعانة بآليات المنهج التاريخي، فأنا في بحثي عن الجذور والأصول والفروع والمرجعيات مؤرخ شئت أم أبيت مع بغضي الشديد للتاريخ، إلا أن نهجي التاريخي محصن بالتعددية، تعددية القراءات والآراء والتوريخات إذ لا يمكن الاطمئنان إلى الخبر التاريخي من خلال مؤرخ واحد، يحب ويبغض فيظهر أو يعتم وفق هواه، والمشتغلون على التاريخ يعرفون مزالق الوثيقة الواحدة ومزايا الوثائق المتعددة، وكان شغلي منحصراً في قراءة الوثائق والمقولات والآراء وفحصها ومناقشتها ومفاتشتها ومن ثم تحليلها وتقويمها.. ونظرة متأنية على مفردات جهدي هذا قمينة بإيضاح منهجي وطبيعته والمعلومات التي استقاها ومرجعياتها؛ إذ أمعنت في تفصيل المفردات ليكون القارئ على بينة تامة من أمر شغلي وهمومه، ولم أتعصب فيما أقدمت عليه لقطر دون آخر، أو أستزيد من كتابات صديق وأستغني عن جهود غريم، فالعلم محايد لا يحب ولا يمقت ومعوّله مطابقة الشاهد للقاعدة ومناسبة الـمُنْـتَج لحاجات المستهلك ومرجعياته وقدراته، فأنت قبالة نصوص وتحليلات للمبدعين والنقاد العرب في البلاد العربية والمهاجر والمنافي دون استثناء أو تمييز، فالجميع عندي سيان واختياري غير مثقوب بالمحلية أو العرقية أو الطائفية، وإنما اخترت لهذا وتنكبت عن ذاك لأسباب منهجية تتصل بحلم شغلي وحاجاته وقدراته ومساحته أيضاً، فلنتوحد على المصطلحات فالمبدعون العرب صنعوا وحدتهم دون أن يأخذوا (فرماناً) من أحد.. صنعوها منذ اسواق عكاظ وذي المجاز ومجنة ومازالوا يصنعونها دون أن تستدرجهم إلى أوحالها أطروحات القطرية والعرقية والطائفية.. أطروحات الحدود الزرقاء بين أجزاء الحلم العربي الواحد، فالمبدع باحث عن الحقيقة ولن يكون مالكها وإن تهيأ له أنه وصل إليها،، فثمة (السدنة) الذين يدعون امتلاك الحقيقة، فيأسرهم وهم مدمر مؤداه أن الناس جميعاً يعمهون في الخطيئة وأنهم (السدنة) الوحيدون الذين يعرفون الأسرار فقولهم القول وفعلهم الفعل، والآخرون عيال عليهم.. تبع لهم، هذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ لا يمتلك الحقيقة ولا يدعي امتلاكها فمساحة شغله هي الواقع ومحور همه هو الحرية وتعددية الاجتهادات بعد أن تيبس الكثير من كتب النقد الحديث المؤلفة منذ ربع قرن وجف نسغها.

 

بواكير النقد

إن تاريخ النقد الأدبي هو تاريخ النص الأدبي ذاته، فمنتج النص الأدبي وفق أي مستوى كان في البواكير ناقد النص -على نحو ما- وآية ذلك سعيه إلى صناعة نص جميل، يؤثر في الناس من جهة ويعبّر عن تجربته الانفعالية من جهة أخرى؛ زد على ذلك نأيه الواعي أو اللاواعي عن أسباب ضعف النص؛ تلك الأسباب التي تُقصي النص عن مركز التأثير الجمالي وتبعده عن حدود اهتمام الآخرين به.. ذلك شأن النص الأدبي والنقد المجايل له منذ وهلات الإبداع الأولى عهد كانت الفطرة والغريزة سبيلاً للتعبير واستيعابه معاً… وحين دخل الإنسان عصر الكتابة وبات المرموز المرئي بديلاً من المرموز السمعي، صار تدوين النص الأدبي فعلاً مألوفاً ومرغوباً معاً، واستدعى ذلك استعمال السكين لحك العبارة أو الكلمة التي يريد المبدع الأدبي استبدالها بأخرى بسبب استعمال الجلد أو الطين المشوي أو العظام أو الخشب في التدوين، فوجدت نسخ من ملحمة الخليقة أوالتكوين (حينما في العلى) وجلجامش (هو الذي رأى) غير متطابقة،، فقد عانت نسخ الملحمتين من التحوير والتغيير بما يدخل في روعنا: أن منتج الملحمة كان يغير العبارات والكلمات والمعاني حذفاً وإضافة وتعديلاً رغبة في بلوغ الملحمة حالة من الرقي،، وربما صنع النساخ ذلك رغبة في وضع أفضل لتسويق الملحمة، وما يقال عن هاتين الملحمتين يمكن أن يقال عن ملحمتي الإلياذة والأوديسة اللتين كتبتا في القرن 9ق.م، وقد استأثر الإبداع الجمالي باهتمام الناس عبر كل العصور، ومع كل أشكال الوعي الإنساني، فأي مجتمع يتطلب دور المبدع الذي يزين الحياة ويؤجج الحلم لاجتراح موقف يقلل من قسوة الواقع؛ فإذا انهار المجتمع القبلي وبدأت قوى الإنتاج تتضح ونشأت الدولة؛ نشأت رؤية جديدة للإبداع بعد أن انهار مع النظام الأول كثير من مكونات الذائقة الغابرة وانقسم المجتمع إلى ارستقراطي وبرولتاري، وقد ضم القسم الأول الحكام والكهنة والفرسان والتجار بينا ضم القسم الآخر العبيد والملونين وشغيلة اليد، فلبى الزمن المتحول حاجات العبيد حين ظهرت أغانْ ورقصات عبّرت عن أحلامهم..،، وقد تختلف السيرة الذاتية للإبداع عن السيرة الذاتية للنقد، فالمجتمعات البدائية تشعر بأنها محتاجة إلى الفنون الإبداعية ولا تشعر الشيء نفسه مع النقد، وغالباً ما نظرت إليهم بعين الريبة أو وصفتهم بأنهم جوقة طفيلية من الحساد ومخربي المتعة .

 

بواكير النقد اليوناني

كان اليونانيون سبّاقين إلى تقبل فكرة النقد الأدبي بسبب من اهتمامهم بالفلسفة وبلوغهم شأواً بعيداً في الوعي الابستمولوجي، ولكن الثابت تاريخياً أن هناك مرحلة نقدية بسيطة سبقت عصر النقد اليوناني القار؛ وهذه المرحلة تجلو لنا النقد بهيئة تقنية يعرفها الشعراء الذين أخضعوا قصائدهم للحذف والتعديل ويمتحنون إيقاعاتها وفق المقامات الشفاهية المتوارثة لديهم، وإلا كيف نفسر نضج أعمال هوميروس الأدبية من نحو الإلياذة والأوديسة لو لم يكن هذان العملان مثلاً مسبوقين بتجارب نقدية مهمة تعتمد الخطأ والصواب وذائقة الجمهور،… وكان ظهور طبقة الرواة نقلة مهمة في اتضاح الأفكار النقدية البسيطة؛ فالراوي أساساً رجل موثوق به من جهة الشاعر أو الناثر الفني أو الجمهور، الراوي ذو ذائقة متميزة وذكاء حاد؛ فكان يعدّل النص ويعرضه على الشاعر فيرضى الشاعر ويثني عليه، ولسان حال الشاعر يقول ما قاله المتنبي في راويته وناقده ابن جني (أين صاحبي ابن جني فهو أعلم بشعري مني)،،.. ويجيء القرن السادس ق.م فيظهر الشعر التمثيلي، ضرباً يتطلب خبرة واسعة عميقة في صياغة النص ويستدعي التعامل مع مبادئ نقدية ترقى إلى تقاعيد وتقاليد يتبعها المبدع حين ينتج شعره التمثيلي ليرضى عنه الناقد وجمهوره، وصحب ذلك مسابقات بين الشعراء، وكل عمل مسرحي شعري أو قراءة شعرية كانت تقوّم مباشرة من قبل جمهور الحاضرين، فالجمهور حين يأنس للعمل الأدبي أو الفني يصفق طرباً ويرقص فرحاً وينثر الورد على الممثلين أو الشاعر، وحين يستاء يصفّر ويقذف الممثلين أو الشاعر بالبيض أو الطماطم، فضلاً عن وجود لجنة معترف بها تبدي رأيها بما شاهدت أو سمعت، فإذا قبلته الجماهير قدمت الهدايا للشاعر حالة الاستحسان أو حجبتها عن الشاعر حالة الاستياء،، فإذا رفض الشاعر آراء اللجنة وتعاطف الجمهور مع رفضه عرضت قرارات اللجنة للاقتراع .

وقد فعل هذا النقد فعله في صياغة النص وتعاطف الجمهور معه رغم بدائية هذا النقد وبدائية وسائله، ويكفي النقد أثراً أنه جعل الشعراء يلتفتون إلى الأرض والناس بعد أن تعلقت عيونهم بالسماء والآلهة، واهتموا بالطبقات الوسطى وهم الأكثرون بعد أن كانوا حريصين على الكتابة للصفوة والنخبة؛ ورصد منتجو الشعر التمثيلي حياة الناس فنقدوها ونقدوا الأساليب السياسية معها فكانت الملهاة عند أرسطو (448ق.م-380) الذي أثار مشكلة القدامة والحداثة في مسرحية (الضفادع) إذ وصف فيها الشاعر اسخيلوس بأنه رمز للقديم،، وشاعر المأساة يوربيدس بأنه رمز للحديث؛ والمسرحية تصف ببراعة رحلة ديونسيوس إله المسرح إلى الدار الآخرة وخلال عبوره نهر العالم الآخر كانت جوقة الضفادع تناغم نقيقها مع ضربات المجاذيف في الماء بما شكل أغنية الطبيعة بعدها تبدأ مناظرة في العالم السفلي بين يوربيدس واسخيلوس تنتهي بهزيمة يوربيدس ليقتنع ديونيوس بأن اسخيلوس أجدر منه بالنقد الاجتماعي فيصادقه ويصطحبه معه إلى العالم الأرضي ليرشد بمسرحياته الاثينيين حتى يتطهروا من الضلال . لقد كان ظهور السوفسطائيين عاملاً مهماً في شيوع فن المناظرة والنقد والبحث عن المسوّغات إذ جرّح هؤلاء معظم القناعات القارة لأنهم يعتمدون المغالطة والمكر الكلامي وفق مخطط يعدونه مسبقاً يوازن بين قدرات السوفسطائي وقدرات غريمه، إنهم يختطفون النص ويغيرون مساره ويحولون القواعد الخاصة بظاهرة ما إلى ظاهرة أخرى،، وكان أهل السفسطة أول عهدهم معلمين جوالين نشروا المعرفة والفنون البلاغية بين الناس لكن سقراط وتلميذه أفلاطون هاجما اطروحاتهم التي كرست فكرة الجدل والمكر الكلامي قبل فكرة البحث عن الحقيقة،، بيد أن السوفسطائيين أسهموا في الوعي النقدي بين اليونانيين قبل سطوع نجمي سقراط وأفلاطون، بل إن محاولاتهم في النقد والأدب واللغة كانت (معيناً خصباً لبحوث أفلاطون وأرسطو في النقد). وكانت آراء سقراط غير المدونة عوناً للنقاد اليونانيين فيما بعد وبخاصة لتلميذه الدؤوب أفلاطون، حتى قيل ان آراء الأستاذ والتلميذ قد اختلطت ولم يعد ممكناً الفصل بينهما،، وقد تميز أفلاطون (428ق.م-347ق.م) فأسس منهجاً علمياً للنقد ودعا إلى المثالية الموضوعية التي ترى أن الروح جوهر والمادة عرض، وهذه المثالية مختلفة عن المثالية الذاتية وبات كتابه (الجمهورية الفاضلة) مصدراً مهماً لآرائه في الشعر والنقد والمحاكاة ومحاكاة المحاكاة، فالحوار الذي اجترحه أفلاطون بين المنشد أيون وأستاذه سقراط يعطي انطباعاً واضحاً عن المشهد النقدي الذي ساد عهد ذاك وكان من بين ما أثاره الحوار: هل الشعر فن أم إلهام؟ وهل ثمة فرق بين مرجعيتي الشاعر والناقد وحرفتيهما وهدفيهما؟؟؟ فضلاً عن رؤية أفلاطون التي تؤسس دوراً محدوداً للمنشد، فهو (المنشد) حين ينشد شعر هوميروس مثلاً ويفسره إنما يعتمد على ذائقته وخبرته ولا يعتمد على القواعد النقدية أو المنطقية بسبب تماهيه مع النص إلى الحد الذي يغيب فيه عن شعوره لحظة الإنشاد أو الشرح، والشاعر أدرى بالحياة من الناقد، فالشاعر يأخذ خبرته من الحياة والناقد يضيع خبرته في النقد، ودليل ذلك هوميروس الذي تجلوه كتابة الإلياذة خبيراً بالطب والصيد وقيادة الجيش وعواطف العشاق ومشاعر القتلة بينا يكون المنشد والناقد مفتقداً لمثل هذه الخبرات المهمة. وكانت نظرة أفلاطون للمحاكاة عهداً نقدياً جديداً في حياة اليونان بعد أن مهد لهذا العهد سقراط الذي نظر إلى المحاكاة بشكل مختلف فأفلاطون يميز الحقيقة عن صورتها والجوهر عن العرض، إذ الوجود جوهر والمحاكاة عرض وانعكاس له، فهي (المحاكاة) لا تغني عنه ولا تحل محله، لأن عالم المثل عصي على عالم الحواس والمشاعر. والمحاكون إزاء المثل يشبهون أناساً يجلسون في سرداب وظهورهم باتجاه فتحة ضيقة منه وثمة نار مشبوبة، فهم يرون أشباحهم على الحائط وهي تتحرك بالانعكاس أي أنهم يرون أشباحهم المنعكسة عن المثال ولا يرون المثال،، وهكذا يكون الشاعر (أو الفنان) مسهماً في التضليل حين يبعد الجوهر عن العرض، فإذا وصف الشاعر امرأة جميلة واقفة أمامه فإن وصفه لها بمثابة مرحلة ثالثة من الوجود؛ ثمة أولاً فكرة شكل المرأة كما أرادها الله وثانياً المرأة المجسدة (كسر السين) لتلك الفكرة وثمة وصف الشاعر، فالوصف لا يحاكي الفكرة ولا تجسيدها وإنما يكون وصف الشاعر مثابة لمحاكاة المحاكاة، إذن الشاعر والفنان ليسا خالقين وإنما هما مقلدان،، وثمة مثال آخر موضح لفكرة أفلاطون عن المحاكاة.. الكرسي يمتلك صورة عند الله وصورة عند النجار والصورة الثالثة عند الشاعر، وهكذا يكون الشاعر عند أفلاطون أقل مرتبة من الصانع (النجار) وذلك ما يفسر استغناء جمهورية أفلاطون عن الشاعر والفنان .

 

بواكير النقد الأدبي العربي

مر بنا مطلع هذا المبحث عثور المنقبين في وادي الرافدين على نسخ مختلفة لملاحم (حينما في العلى) و (جلجامش) و(تموز) ولاحظ المنقبون الاختلاف الواضح لنسخ كل ملحمة من هذه الملاحم مما عزز الرأي القائل أن الشاعر أو الناسخ كان يجري التعديلات على النص الأصلي طمعاً في إرضاء ذائقة الجمهور وتسويق تلك النسخ، وهذه التعديلات لابد أن تكون قائمة على عدد من القواعد النقدية مهما قللنا من وعيها ونضجها والبابليون عرب هاجروا الجزيرة بعد الجفاف الذي داهم الجزيرة العربية وطابت لهم الإقامة في العراق حيث الماء والخضرة والاستقرار. وقد ضاعت النصوص الشعرية والنقدية التي تمتد من القرن 25ق.م حتى القرنين السابقين للهجرة النبوية الشريفة ومثل هذا الضياع العجيب خسارة فادحة للمشتغلين بالأدب العربي ونقده ومازال الأمل معقوداً على التنقيبات الهميمة في شمال شبه الجزيرة العربية وجنوبها. لكن العينات التي بين أيدينا وهي لن تتجاوز القرنين السابقين على الهجرة يمكن أن تكون لدى الباحث فكرة مناسبة عن طبائع النقد الجاهلي وأصوله،، فقد وجد مبدع النص الأدبي القبسلامي عدداً من خيارات كتابة النص مثل الطين المشوي ورقّ الغزال وخشب الرحل والعظام المصقولة والقماش وعسب النخل…الخ؛ وكانت السكين أداة المحو لديه في حالات التحكيك (تعديل النص)، ألم ينقل عن المزني زهير بن أبي سُلمى: خير الشعر الحولي المحكك؟، ألم يقسم الجاهليون أدبهم إلى شعر ونثر ثم ميزوا نمطين من الشعر: مطبوع ومصنوع كما ميزوا نمطين من النثر: فني وسوقي،، وكانت هذه التقسيمات إشارة نابهة إلى الوعي المستجد في تقويم الأدب وتقسيمه وترسيم حدوده وبما يعزز الاتجاه النقدي عهد ذاك.

وشهد النقد الأدبي مرحلة نقدية متطورة وهي المرحلة التي اتخذت من الصورة الفنية معياراً نقدياً، المعيار الذي اعتمده عدد من النقاد الجاهليين في أسواق يثرب ومكة وعكاظ وذي مجنة وعدن أبين والحيرة.. جاء في طليعتهم النابغة الذبياني وأم جندب .

 

* دلالات المصطلح

المصطلح: كلمة والكلمة حاصل جمع عدد من الحروف تؤدي معنى أولا تؤدي، وهي أيضاً طاقة لا تفنى ولا تستحدث ويتعين على المتصرف بها معرفة طبائعها وأصولها وفروعها. فقد تنسحب كلمة إلى العتمة وتنعم أخرى بالضوء وفق قانون الاستعمال والإهمال، لأن اللغة كائن حي ينمو ويتطور ويضمر بيد أنه لايموت وإنما يرقّن حين يدب الانحلال والتشرذم في جسده، إن للكلمة ثلاث دلالات يمكن استنباطها من جهة استقراء تاريخ مسيرتها أو مسيرة تاريخها، فالدلالة الأولى تعتمد مرجعية اللغة مظنة لها وتسمى الدلالة اللغوية، والدلالة الأخرى مظنتها مرجعية وضعية اتفق المشتغلون بها عليها،، وتظل الدلالة الثالثة الأخيرة مقترنة برؤية الباحث الخاصة وطبيعة شغله ومنهجه وهمومه وتسمى الدلالة التأسيسية، قارن الدلالات الثلاث:

1- دلالة لغوية (معجمية قاموسية). 2- دلالة اصطلاحية(تواضعية اجتماعية). 3- دلالة تأسيسية (ذاتية تتصل بقناعة الباحث ومنهجه).

إن الجدل بالعلة والمعلول قائم بين هذه الدلالات، إذ لا يمكن لقنوات التواصل بين هذه الدلالات أن تنقطع؛ ثمة تأويل دائم وتوجيه دائب يحيلان على المعاني المشتركة بين الدلالات وإن بدا الأمر للوهلة الأولى مختلفاً.. هاكم أمثال معززة تتمحور حول (أسلم-كفر-عقل).

1- أسلم: لغــة  = ذل وخضع.

اصطلاحاً       =   صار مسلماً.

تأسيسـاً= أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.

2- كفر          : لغــة  =   ستر وغطّى وحرث

اصطلاحاً=   لم يؤمن بالوحدانية أو النبوة أو الشريعة أو بثلاثتها.

تأسيساً= ضل السبيل القويم.

3- عقل         : لغــة  = شد الشيء بالحبل.

اصطلاحا = تجنب الهدر في التفكير والطاقة والزمن.

 

الأدب

يمثل الأدب في حاضنة اللغة آفاقاً شاسعة ويتوفّر على دلالات كثيرة العدد والوجوه، أهمها الرياضة والطعام والاعتياد والمعرفة العامة والمروءة والتعليم والأعراف والمجازاة .   وإذا كانت مفردة (أدب) متقلبة في حاضنة اللغة فهي كذلك في الاصطلاح،، ويبدو الاختلاف جلياً حتى الآن على دلالاتها ووظائفها، إذ تضمنت علوم الأدب عند أجدادنا اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والخط والإنشاء، ولم يختلف الأمر كثيراً عند الخلف، فما زال الاشتباك متصلاً حتى الآن بين علوم اللغة والدين والآداب، وهذه أقسام اللغة العربية في كليات الآداب والتربية واللغات في الوطن العربي معنية بمفردات هذه العلوم، بل أضيف إليها تعلّم لغة غربية أو شرقية فضلاً عن درس الفلسفة، وأي غضاضة في الأمر؟ فالأديب معني أكثر من سواه بالجانب المعرفي وهو يخدم توجهه الأدبي والابستمولوجي ويعمّق تجربته ويصقل موهبته، وتظل هذه العلوم علوماً مساعدة وليست أدباً بأي تسويغ،، والأدب الخالص هو المعاني الجميلة المؤثرة في عواطف المتلقي وذائقته مصاغة بأسلوب متميز بجاذبيته ورقته؛ وقولنا المعاني الجميلة لا ينصرف إلى الفهم السائد للجمال، فقد يجد المتلقي جمالاً في النص الأدبي، وهو يتحدث عن الدمار في هيروشيما وناكازاكي أو مذبحة قانا،، والجمال متأت من رفض القبح والقتل بتصويرهما فنياً وتسليط الأضواء الكاشفة عليهما؛ متأت من تغنّي النص بقيم الإنسان العصي على الاتّساخ والاستسلام،، المعاني الجميلة ليست وفقاً على تصوير الفتاة الجذابة والبحر الغامض والفرح العابر، بل هو (الجمال) كامن في سويداء الأشياء والنفوس الجميلة تعرف كيف تتعامل مع الجمالين: الظاهر والباطن قارن مقولة عمرو بن معديكرب:

ليس الجمال بمئزرٍ     فاختر وإن أرديت بُرداً

إن الجمال معادنٌ       ومناقبٌ أورثن مجداً

ومقولة إيليا أبو ماضي:

والذي نفسه بغير جمال   لا يرى في الحياة شيئاً جميلا

         

الجمال الأدبي

قد يخرج من بؤرة الشيء إلى طريقة النظر إليه وأسلوب تناوله والتعامل معه،، جمال ‍الأسلوب ليس في موضوعه أو تنميقه حسب؛ وإنما هو متجلّ في الابتكار والجدة وصدق التجربة وعمق المكابدة بما يعزز حضور النص في الوجدان ويعمق حب الحياة ويعضد قيمها النبيلة المغيبة ويجذر الإيمان بالله، مبدع السماوات والأرض ويجنبنا العَمَه والتطرف والانغلاق.

 

*الأدبية

مصطلح جديد وفق حدوده التي وصلتنا، ويعني الصفة التي يكتسبها النص المتحول (كسر الواو المشددة) من حالة السكون واللا أدب إلى الأدب (لأن الأدبية إذا توافرت في نص ما اغتدى أدبياً) .

 

*الشعرية

هي بؤرة الجمال في النص أو المسمع أو الملمس فالشعرية هي (السحر الحلال) الذي يحيل الكلام الاعتيادي استثنائياً والهم المألوف جديداً، فهي توحد بيننا وبين النص حتى كأننا ونحن نقرأ النص منتجوه، ونحن نشهد المنظر صانعوه؛ وكل شعر محروم من الشعرية افتقد سيماء جنسه وحل في النثرية وإن قالت قشرته أو بنيته الخارجية غير ذلك، والمهم جداً في هذا الميدان هو أن الشعرية غير مقصورة على ظاهرة واحدة أو سمة واحدة؛ وإنما هي كل الظواهر ومزاج السمات. وعليه فالشعرية ليست قرينة الشعر حسب، فربما امتدت إلى اللوحة التشكيلية والقطعة الموسيقية وعروض الأزياء وهندسة العمارة ونبرة الصوت وملامح الوجه وحركة اليد وطيبة القلب،، إنها بؤرة الجمال في الموضوع.. رب شعر بلا شعرية مثل ألفية ابن مالك أو أي قصيدة حذقت النظم ولم تحذق الجمال،، قارن قول ابن جحدر:

حلفت بما أرقلت حوله شمرجلة خلقها سيظم

وما شبرقت من تنوفية بها من وحي الجن زيزيم،،

ورب شعرية بلا شعر.. مثل شمعة وسط ظلام دامس وموجة وسط بحر ساكن وقطرة طل على تويج زهرة…الخ .

 

عبد الاله الصائغ / موسوعته باب المصطلح

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم