صحيفة المثقف

مصطلحات قلقة بين التأصيل والتوصيل (2-3)

abdulelah alsauq2النقد: تتوفر مادة (نقد) في المعجمات اللغوية على معانِ مؤتلفة مرة، مختلفة أخرى وللدارس أن يميز ميزانين لهذه المادة: الأول يعتمد نصب القاف في (نقد) والآخر يعتمد كسرها؛ ولكل ميزان إحالاته الدلالية..

أ نَقَد (فتح القاف): نقد العينة اختبرها وميز جيدها من رديئها، ونقد الطائر الفخ توجس خيفة منه فاختبره حذراً؛ ونقد الصيرفي الدرهم نقداً وتنقاداً نقرها؛ ووضعها بين السبابة والإبهام ليمتحن الأصيل والزائف والجيد والرديء؛ ونقدت الأفعى زيداً لدغته؛ ونقد عمرو زيداً اختلس النظر نحوه حتى لا يفطن إليه؛ ونقد فلان الدراهم نقداً وتنقاداً أعطاها للبائع معجلاً؛ فالنقد في البيع خلاف النسيئة وانتقد بابها نصر.

ب نَقِد: (كسر القاف): نقد الطعام نقداً وقع فيه الفساد؛ ونقد الضرس أو الحافر تآكل وتكسر؛ ونقد الجذع أكلته الأرضة فهو جذع نقد (كسر القاف) ونقد (فتحها)، ونقد الحافر تقشر، والمعاني (أ.ب) تكوّن فكرة عن دلالات هذه المادة؛ فإذا تناقد القوم تناقشوا والحصيلة هي حالتان: حالة المنقود أن يعرض على الناقد؛ وحالة الناقد أن يتفحص المنقود، ولابد والحال هذه أن يكون المنقود على صورتين: الأولى صحيحة والأخرى عليلة. وللمتفحّص أن يلاحظ أيّ الصورتين ميّزت المنقود؟ ولم ترد نقد في القرآن الكريم بأي من دلالاتها لكنها وردت في الشعر الجاهلي كثيراً وفق مستوياتها اللغوية، قال أعشى بكر:

دراهمنا كلُّها جيدٌ فلا تحبسنا بتنقادها

وقال عبد مناف بن ربع الهذلي:

ماذا يغير ابنتّيْ ربْع عويلهُما كلتاهما أبطنت أحشاءها قصباً

إذا تأوّبَ نوحٌ قامتا معه لا ترقدان ولا بؤس لمن رقدا

من بطن حلية لا رطباً ولا نقدا ضرباً أليماً بسبت يلعج الجلدا

*والنقد في الاصطلاح: يرمي إلى ملاحظة النص وامتحانه، بما يتهيأ للناقد من خبرة وذكاء لمعرفة قيمته؛ وما إذا كان مبتكراً أو متأثراً بنص آخر؛ وكان النقد الأدبي مطلع وهلته الأولى ميالاً إلى التعميم لأنه ثمرة حضارة الشعر وقتذاك، ولم يحصل النقد على مصطلحه (الواضح) إلا في وقت متأخر نسبياً وكان الناقد الجاهلي مثل زعيم القبيلة يوازن بين المعاني والألفاظ والصور بخبرته الخاصة وبوهمه أنه يمتلك المعرفة والحقيقة وحده، وربما احتكم إلى أصحاب الخبرة لينصحوه أو احتكم إلى ذوقه الخاص أو هواه أو ولائه،، فالناقد زعيم على نحو ما أو حاكم، وكان نابغة ذبيان ممسكاً بزمام الشعراء، يقول رأيه فيهم فيرضون وأطلق الجاهليون عليه (رأس حكومة الشعر) فكانت تضرب له خيمة من الجلد الأحمر على مسطبة رملية محددة بالحجارة المرصوصة بالقار تجعله في مشهد يراه فيه الجمهور الواسع دون عناء،،

ونقدنا الحديث قائم على أحد المنهجين: المعياري أوالوصفي..

 

*النقد المعياري

وهو النقد التقليدي الذي يخول الناقد محاكمة النص الأدبي وإصدار الحكم له أو عليه، والمبدع لا يمتلك إلا القبول بأبوّة الناقد، والقارئ لا يفكر ولا يجتهد لأن ثمة ناقداً يفكر نيابةً عنه ويجتهد بدلاً منه،، ولعلنا نتذكر المقولات النقدية القديمة من نحو أشعر بيت وأغزل بيت وأهجى بيت وأمدح بيت وأخنث بيت.. كما نتذكر: الشعر المصنوع والشعر المطبوع وشعر الفحول وشعر الطبقة،، وقد أثبتت الدراسات الأسلوبية الحديثة أن هذه الأحكام لم تكن قائمة على الاستقراء والموضوعية،،

 

*النقد الوصفي

يحاول هذا النقد التخفيف من سلطة الناقد الحاكم بأمره، حتى اقترح على عملية النقد اسم (قراءة النص) واعتد القارئ (غير الناقد) ناقداً لأنه يعيد إنتاج النص في متخيله. هذا النقد ظهر في الربع الأول من القرن العشرين وقد اهتم ومازال ببنية النص وجعلها اثنتين الأولى الشكل والأخرى المعنى وإن جعل المعنى تبعاً للشكل وكان هاجس هذا النقد ومازال هو نقل النقد من مرحلة الانطباع إلى مرحلة العلم.. ثمة آليات اعتمد عليها الناقد الوصفي مثل البنية والحقل والمستوى والانتظام والتآلف والتخالف..الخ فالناقد يشرّح النص ويصف تقنياته بطريقة حاذقة تترك للقارئ سانحة الاجتهاد في تلقي النص أو الحكم عليه.

 

*النقد المزدوج

يحاول هذا الكيف من النقد استثمار مزايا المنهجين المعياري والوصفي وإقصاء فكرة البعد الواحد عن النقد. وقد أثبتت التجارب النقدية الرائدة أن هذا النقد المزدوج قمين بملامسة شغاف النص وابتكارات المنتج أو إخفاقاته وتلبية حاجات المتلقي وصولاً إلى الارتقاء بعملية التوصيل مراقي الجمال وتطويرها باتجاه فكرة الفريق المتألف من الأديب وجمهوره وناقده.. وثمة الكثير من المنطلقات النقدية الواقعة في نقطة التقاطع بين الخطين المتصالبين..

 

مشجرة النَّــــــــــــــــــــقْد

النقد: 1 / معياري 2 / وصفي 3 / مزدوج

النقد: 1 / تفسيري 2 / صحفي 3 / اخلاقي 4 / مُقارَن 5 / مُوازَن 6 / نصِّي 7 / مطلق 8 / نسبي 9 / مدرسي

 

*الأسلوب

معاني الأسلوب وفيرة في اللغة بينها الطريق الذي تسير فيه والسطر من كل شيء والسلوك والفن وقد أورده أعشى بكر بمعنى الاعتياد:

إن بني قلابة القلـوب   أنوفهم مِ الفخر في أسلوب

أما في الاصطلاح فهو (طريقة التفكير والتصوير والتعبير) وقال أبو هلال العسكري: الأسلوب قطعة من عقل الرجل، وقال بيفون: الأسلوب هو الشخص نفسه. أي أن الأسلوب هو مجموعة المكونات التي تشكل الإنسان تفكيراً وتدبيراً ورغبات ورهبات وعادات وشهوات.. ولا يمكن إغفال دور هذه المكونات في صياغة العبارة عند الأديب مهما حرص على تغييبها على مستوى السطح.

والأسلوب أسلوبان.. الأول هو الأسلوب العلمي. الذي يصوغ العبارة بمقدار الفكرة متجنباً المجازات من كنايات واستعارات ملتصقاً بالموضوع والنقد الحديث منتم للأسلوب العلمي..

والآخر الأسلوب الأدبي وهو النحو الذي يتبعه الأديب في إثارة العاطفة الجمالية لدى المتلقي ويكون ذلك بآليات الصياغة الأدبية المعروفة من مجاز وتشبيه وإخفاء وتجل وطي ونشر…

 

*الحديث: الحديث مصطلح بثلاث دلالات، الدلالة الأولى زمانية والأخرى فنية والأخيرة تأسيسية، وإذا نقبنا في الغاطس من هذا المصطلح استناداً إلى المعجمات اللغوية (حدث) ألفينا الآتي: حدث الشيء حدوثاً وحداثة نقيض قدم وأحدث زيد الشيء ابتدعه وأوجده؛ جاء في الذكر الحكيم [لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً الطلاق1) وأحدث السيف ونحوه: جلاه؛ والحادث ما يجد ويحدث، والحداثة سن الشباب والحدث: صغير السن والمحدث (كسر الدال) المجدد في العلم والفن والمحدث (فتح الدال) مالم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع (المعجم الوسيط حدث) وقد شاعت كلمة محدث في القرن الثاني الهجري بعد ظهور أجيال من الأدباء الشباب التائقين إلى التجديد؛ بحيث قال زبان بن سيار ت154 (لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى هممت بأن آمر صبياننا بروايته) ثم اتسعت الهوة بين الأدباء الشباب والأدباء الشيوخ وبات خلاف الهوى عصبية مغلقة فتنبه إلى ذلك الناقد ابن قتيبة ت276هـ وكان قاضياً (فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله، ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن) ويثار جدل مستمر حول دلالتي حديث / معاصر فمن قائل أن حديث قريبة إلى دلالة التجديد الفني إلى قائل أن معاصر أقرب من حديث إلى دلالة التجديد الفني واستلهام روح العصر،، فإذا عدنا إلى المصطلح ألفينا دلالة العصر متموضعة حول حقبة زمنية من تطور أدب ما تتميز بسمات خاصة وبتغليب مذهب من مذاهب الأدب على غيره من المذاهب، جاء في اللغة: أعصر دخل في وقت العصر وأعصرت الفتاة بلغت شبابها وأدركت والعصر زمن ينسب إلى زعيم أو دولة أو حدث.إ.هـ. ولا نرجّح نصرة مصطلح على آخر؛ فقد مر بنا أن للكلمة ثلاثة مستويات. لغوي واصطلاحي وتأسيسي؛ فإذا اقتربنا من التأسيسي وجدنا أن الباحث أوالمؤلف أوالمحاضر محق في انتقاء المصطلح الذي يناسب منهجه إذا سوغ الانتقاء على مستوى التأسيس، وقد وجدنا في إضافة (الحديث) إلى (النقد الأدبي) مناسبة لعنوان كتابنا وطبيعة شغلنا وتأسيسنا فالمراد بالحديث هو: الدلالة الزمنية والدلالة الفنية دون التورط في العصبيات البحثية، فالنقد الأدبي الحديث موضوع ميدانه تحليل النصوص وخاماته: النصوص الأدبية الحديثة، فالدلالة الزمنية تفصل بين زمنين للأدب: قديم وحديث، ولم يتفق الدارسون على الفترة الحاسمة التي بدأ منها الأدب الحديث، فمن قائل أنه (الأدب الحديث) ثمرة الوعي المضاد لحملة نابليون على مصر إلى قائل أن الأدب الحديث بدأ مع رياح النهضة والتغيير في مبادي القرن العشرين إلى مؤكد أن الأدب الحديث مقترن بالفترة الإحيائية التي نفثت الحياة في جسد الأدب الصافي،، بل أن عدداً من الدارسين رأى أن:

 

النقد الأدبي الحديث

رديف حركة التجديد التي بزغت أواخر الأربعينات ومطالع الخمسينات من القرن العشرين وتجلت في نصوص الشرقي والشبيبي والصافي ورافقتها حركة الشعر الحر التي تبلورت من خلال نصوص بلند الحيدري وجبرا ابراهيم جبرا وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة

وعبدالوهاب البياتي وشاذل طاقة وصلاح عبدالصبور ولميعة عباس عمارة… ومازال الجدل قائماً بين الفرق الأدبية وهو جدل صحي يسهم في حوار الآراء وتبادل الخبر وموضعة الأدلة.

 

*الانزياح

وهو مشاكسة المدلول المألوف للدال، ويبدو ذلك في حقول كثيرة أهمها المجاز والرمز والصورة. والنص الأدبي هو الأجدر بتقنية الانزياح بسبب اشتغاله في مخبر الجمال وسعيه إلى الشعرية التي تضمن تفوّق النص وتفرّده ثم تعاطف المتلقي معه وقد توصل عبدالقاهر الجرجاني

إلى حدود هذا المصطلح حين درس المعاني الثواني بيد أنه لم يسمّه، و آ.آ.ريتشاردز حين رصد معنى المعنى في النص.

 

*البيان

إيراد المعنى الواحد في أساليب متعددة لإيصال المعنى بصياغة جميلة وهو المجاز مع التشبيه، فأما المجاز فهو عقلي ومرسل وسبيله الاستعارة المكنية والاستعارة التصريحية والكناية وينبغي أن ينـزاح المعنى عن إرادة الشيء المباشر وتقوم قرينة مانعة من إرادة المعنى الظاهر.

 

*التشبيه

وأما التشبيه فهو غير المجاز على رأي عبدالقاهر الجرجاني أما ابن الأثير فالتشبيه عنده اثنان: تشبيه تام وهو التشبيه الذي استوفى أركانه الأربعة أو طرفي التشبيه وتشبيه ناقص أو محذوف وهو الاستعارة،، وهو أنواع أحصى د.أحمد مطلوب أهمها وعرّف بها وعززها بالأمثلة وعضدها بالإحالات منها:

1 حسي×حسي 2 ذهني × ذهني 3حسي×ذهني 4ذهني × حسي 5بسيط 6مركب

7مضمر 8بعيد 9قريب 10تسوية 11تفضيل 12تمثيلي 13توكيد 14جمع 15واقعي

16خيالي 17صورة×صورة 18قاصد 19كناية 20مطلق 21معكوس 22مفرط 23مفروق 24مفصل 25مقارب 26مقبول 27ملفوف 28عقيم 29مؤكد 30متجاوز 31متخيل

32متعدد 33مجمل 34مختصر 35مردود 36مرسل 37مستطرف 38مشروط 39مصيب 40مطرد، ومعلوم أثر الصفات والوظائف على هذه الأنواع التي شققت التشبيه وهذه الأنواع يمكن اختزالها بأربعة أنواع مثل التشبيه التام والبليغ والعقلي والمرسل .

 

*الاستعارة

تشبيه خسر أحد ركنيه إما المشبه وإما المشبه به فإن خسر المشبه به وأظهر المشبه فالاستعارة مكنية وإن خسر المشبه وأظهر المشبه به فالاستعارة تصريحية.

 

*التجسيم

تحويل الذهني المجرد إلى حسي فلا يمكن استقبال الصورة الذهنية المجردة مالم تتوسل إلى التلقي بقنوات الحواس قارن يمامة الفرق للشاعر السوري عبدالقادر الحصني:

يا صديقي يا عميق الجرح والعينين / يا مشتعل الحيرة عمرك / قدّس الله وندّى في الدياميس على الوحشة سرَّك / قمر الغربة أنت. / وشذا القرية أنت / ورحيل في حشاشات الينابيع إلى ينبوعها الأول أنت / ما عليك.. / ذاهباً في الكبد الكابد حتى منتهاه / كابد الليلُ عماه: كبدُ الليل الجمان / ..والمحارات اللآلي… والعناقيد الدنان.. / كابد الزيتونُ في آونة العصر؟ فمما كابد الزيتون بوح / شقّ قلب الليل أورى وردة مثل الدهان / كابد الوعرُ فكان السوسن البري والنحلُ وكل الأقحوان / ثم كابدنا، فكان الجدل الفاتنُ / أطعِمْ لقمةَ الزقوم في الجنة واشرب سلسبيلا / في الجحيم / واعطِ هذين النقيضين الجميلين الأمان .

في المقاربة الأولى نلاحظ أن الشاعر حول الحيرة وهي صورة ذهنية مجردة إلى صورة حسية فالحيرة مشتعلة، وإذا كانت الوحشة حالة ذهنية فإن الندى في الدياميس جعلها نادية، حين حسسها. والنص مكتنـز بحالات التجسيم؛ فللغربة قمر مثلاً..

 

التجسيد

يخطئ من يظن أن التجسيد Personification مصطلح أجنبي، ولنا أن نسأل ماذا يحدث لو أفرغنا (جدلا) الشعر العربي من التجسيد؟ والجواب: يحدث أننا لن نجد شعراً.. التجسيد هو أنسنة غير الإنسان وإضفاء صفات الإنسان ووظائفه عليه،، ويطلق عليه بعض النقاد مصطلح (التشخيص) وذلك خارج دلالة الانسنة فالتشخيص من الشخص او الشاخص ينصرف الى الانسان والحيوان والجماد بينا الجسد موقوف على الانسان فتقول جسد الانسان وجسم الحصان، قارن هذا النص للشاعر العراقي المغترب فاضل العزاوي: هو ذا الديناصور المقتول يعود ليروي / ذكرى أسفاره في نفسه: / ماكنة تصنع أحلاماً وتقدمها للقراء / يمكن أن نقرأ بالمقلوب أو تحذف منها أفعال القول / وإذا ما شئتم فأضيفوا عن ماضي الأيام إليها / ذكرى ديناصورات أخرى.. / كانت تقطن هذا الوادي / ذكرى أنفسكم حيث الميناتور يجوب الغابة / في آخر رحلاته قبل الموت .

لقد شكّل فاضل العزاوي في مخيلة نصه صورة لديناصور ما.. ويبدو أنه لم ينقرض بعد.. فهو ينتظر انقراضنا هذه المرة،، ولسنا معنيين في هذا المثال بالرموز والكنايات، لأن عينة شغلنا هو التجسيد.. كيف أنسن النص الديناصور فأكسبه طباع الإنسان؟

 

*التماهي

حالة اندغام بين صورتين أو معنيين لتشكيل صورة ثالثة هي مزاج الصورتين ومعنى ثالث هو نتاج المعنيين، وقد تكون الصورة الأولى مشفّة للصورة الثانية بحيث تموّه الصورتان التلقي فكأنه قبالة صورة واحدة. وقد يكون المعنى الأول متضمناً المعنى الثاني بحيث يتهيأ للمتلقي أنه يتعامل مع معنى واحد.. ولعل جذور التماهي اللغوية تحيل إلى معنى الظهور بعد الإخفاء، أو تخفية الظاهر، قارن مادة (موّه) في معجمات اللغة: ماهت البئر ظهر ماؤها، وماهت السفينة دخل فيها الماء، وماه زيدُ الشيء بالشيء: خلطه به، وماه عمرو في كلامه: خلط وأماهت الأرض: ظهر فيها النـز. موّه الموضع: صار فيه الماء وموهت السماء: نـزل منها مطر كثير، وموّه الصائغ الشيء أي طلاه بفضة أو ذهب وليس جوهره منهما وموّه الحديث أي زخرفه ومزجه وألبس الحق بالباطل . ويمكن اعتداد (التناص) حالة من التماهي لوجود حالة مزج في التخييل بين نصين: نص حاضر ونص غائب، مع الإقرار بصعوبة هذا الاعتداد لضعف مسوّغاته: أما التعادلية التي تعتمدها الصورة الفنية لحظة مزجها بين الواقع والمجاز فهي حالة تقارب التماهي حدوداً وتجانبه موضوعاً .

 

*التناص

يعني أن النص الذي بين أيدينا يخبئ نصاً غائباً عن وعي أو دون وعي وقد درسه ابن رشيق القيرواني ت456 ضمن باب السرق الشعري وقال في العمدة 2 / 280 (وهذا باب متسع جداً لايقدر أحد من الشعراء أن يدّعي السلامة منه) وقد درسته جوليانا كرستيفا في أوائل الستينات من القرن العشرين وميزت نمطين منه الأول: الواعي واعتدته سرقة أو شبيهاً بالسرقة والآخر غير الواعي وأجازته شريطة أن لا تكون الصورة نمامة أو فضاحة، فإذا أخذ الشاعر الصياغة أو المعنى عن سابق تصميم وأشار في الهامش إلى اقتباسه من شاعر آخر وذكر اسمه فإن صنيعه هذا لا يدخل في دائرة التناص وقد يكون التناص كلياً أو جزئياً أو في الصورة أوالمعنى أو الصياغة.. وهذا نموذج في التناص. قال الأعشى الكبير (جاهلي):

وكأسٍ شربتُ على لذة

          وأخرى تداويت منها بها

ثم قال أبو نواس:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

          وداوني بالتي كانت هي الداءُ

(إن المقارنة بين الصورة والصورة لا تعني بالضرورة أن تكون الصورتان وجهين لمنظور واحد وإن كانتا من بحر واحد وقافية واحدة ومرمى واحد، فقد لا يجد النظر العجلان وجه شبه بين الصورتين مباشراً،، وذلك لا يمنع وجود وجه شبه أكيد إذا نهد له رصد نقدي متأن.. إذن نحن في مختبر التناص قبالة نصين: الأول غائب أنجزه الأعشى والآخر ماثل أنجزه أبو نواس وكل ما حاولناه الجمع بين النص الغائب والنص الحاضر لكشف الحبل السري بين النصين أو الصورتين)

 

*الخطاب

يمتلك الخطاب دلالتين تليدة وطارفة؛ فالخطاب هو الكلام، جاء في الذكر العزيز (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) وفصل الخطاب: ما ينفصل به الأمر من الخطاب، وفصل الخطاب أيضاً: الحكم بالبينة أو اليمين أو الفقه في القضاء أو النطق بـ أما بعد وأن يفصل بين الحق والباطل وأن لا يكون فيه اختصار مخل ولا إسهاب ممل، والخطاب الكلام، جاء في التنـزيل العزيز (فقال اكفلنيها وعزّني في الخطاب) أما الخطاب في مفهومه الجديد.. فهو النص ومحمولاته الفكرية أو الأيديولوجية أو الجمالية بحيث لا يمكن الفصل بين المركز (النص) والأطراف (المحمولات) والخطاب الأدبي صنفان. الخطاب الشعري وهو المتضمن فنون الشعر ومحمولاتها من نحو الشعر التقليدي والحديث وشعر الغزل والهجاء والمديح.. الخ والخطاب السردي ويتضمن نصوص النثر الفني ومحمولاتها من نحو الرواية والقصة والمقالة والسيرة..الخ.

 

*الحكاية الشعرية

تمثل القصيدة في حالات عديدة بناء قصصياً في أحسن حالاتها، لقدرة الحكي على التأثير في قدرات المتلقي على الاستقبال وفي حالات أخرى محاكاة تعكس انبهار الشاعر بالحكايات الخارقة ودلالاتها المثيرة وصورة أحداثها في عينيه ونفسه، وقد درسنا تشكيل الحكاية عند الأعشى في كتابنا (الصورة الفنية معياراً نقدياً) ص275 الذي صدر عام 1987 ولاحظنا كيف تعامل النص الأعشوي مع فن الحكاية فقد وفر لها عنصر الزمكان والشخوص والحوار والعقدة ولحظة التنوير.. وذكرنا عدداً من النصوص الشعرية، ولا يمكن تخيل قصيدة ذاتية أو موضوعية بمعزل عن مناخ الحكاية في مخيال الشاعر. أما الشعر القصصي فهو ضرب صريح باعتماده على فنون الحكي والسرد من حدث وعقدة ووقائع وحركة وحوار (بل يبلغ التطرف ببعضهم إلى حد استعادة قول فردريك شليغل: إن كل الشعر الحديث يستعيد تلويناته الأصلية من الحكاية) . وقد شاع فن الحكاية في شعرنا الحديث حتى بات واحداً من ملامح هذا الشعر.. ولعل الشعراء الرواد كانوا المبكرين في استثمار فن الحكاية الشعرية، فإذا قرأت نصوصهم وجدت حالات من فنون الحكاية، قارن بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري وجبرا ابراهيم جبرا ولميعة عباس عمارة وشاذل طاقة وصلاح عبدالصبور وأدونيس.

نموذج من (الحكاية الشعرية) قصيدة زيارة للشاعر عبدالرزاق عبدالواحد (عراقي):

من دون ميعاد / من دون أن تقلق أولادي / أطرق على الباب / أكون في مكتبتي في معظم الأحيان.. / أجلس كأي زائر وسوف لا اسأل لا ماذا ولا من أين / وحينما تبصرني مغرورق العينين / خذ من يدي الكتاب / أعده لو تسمح دون ضجة للرف حيث كان / وعندما تخرج لا توقظ ببيتي أحداً / لأن من أفجع ما تبصره العيون / وجوه أولادي حين يعلمون..إ. هـ

لقد اخترنا هذا النص، ليس بوصفه حكاية، وإنما بوصفه نصاً استثمر آليات الحكاية بحذق، فقد اصطنع اللازمان لزمان الحدث وانتقى المكان وفق رؤية فنية تسهم في توصيل هذه المرثية الجميلة التي رثى بها الشاعر نفسه فبكى على نفسه وكبريائه اللذين أضاعهما في رهانٍ خاسر، رهانٍ مهين، فلم يحسب لساعة الندم من قبلُ أي حساب، ثم أجرى حواراً مكثفاً بين ضمير المتكلم والزائر الذي غيّب ملامحه وحواره ورسم لنا فعله ودوره فضلاً عن الوصف الدقيق للمشاهد والمشاعر.. زد على ذلك هذا التطريب الشجي بين استهلال القصيدة وقفلها بما يؤثل نمواً يرتقي بالانفعال إلى أعلى مراقيه.. ثم يهبط به فجأة بصورة ترينا وجوه أطفال الشاعر (حين يعلمون) مصير أبيهم،، فكانت الخاتمة مفتوحة على صور اقترانية كثيرة..

نموذج ثانٍ من (الحكاية الشعرية) قصيدة فطور مغربي للشاعر محمد حسين الأعرجي:

(إلى أشباح المدن في المغرب العربي ساعة الإفطار في شهر رمضان)

ثمّ نادى الأذانُ: حيَّ على الأكْلِ، فَكُنَّتْ مدينةُ الأشباحِ

أفقٌ كالحٌ كأنّ نهاياتِ مداهُ مدائنٌ من نُباح

إرمٌ هذه ولا (عادَ) فيها

          أم سدومٌ وما لها مِن جُناح؟

شجرٌ خائفٌ قد التفّ بالصّمتِ على نسغِهِ مهيضَ الجناح

ودروبٌ يخفْنَ حتى مِن الضوءِ؛ فاضواؤها كقيح الجراح

وحشةٌ تفزَعُ المقابرٌ منها

أيُّ صمتٍ هذا؟ كأن طيوراً

ثم ذرّينَهُ فلم يبقَ نبضٌ

          فتظنُّ الأمواتَ أنضاءَ راحِ

من رمادٍ حملْنَهُ بجناح

لم تُلامِسْهُ مُترباتُ الرياحِ

يا لهذا الغروبِ، هل قرّبَ اللهُ معادَ النشورِ في الألواح

أم تُرى أن قُصعةً من حساءٍ

          بَعد جوعٍ، ونغبةً من قراح

تشربانِ المدينةَ الآنَ، والناسَ، وهمْسَ الغصونِ في الأدواحِ؟

يا لقُرْصِ الرغيفِ كمْ دارتِ الأرضُ، ولم تختلف معاني الصباح؟

الجزائر 2241988

فطور مغربي، قصيدة حاولت التماس الدلالي من خلال الجمالي، ويحيلنا حرص الشاعر المعروف د.محمد حسين الأعرجي المقيم حالياً في بولندا على نشر هذه القصيدة بعد اثنتي عشرة سنة من نظمها على فداحة الصورة التي استوعبتها الذاكرة الشعرية، فهذه القصيدة وهي سيرة مدينة جزائرية في شهر مقدّس تختزن الكثير من الصور الجارحة التي تتماهى مع الصورة الأم، فأنت قبالة مرثية للفرح، مرثية للمدينة العربية التي حذقت عن قصد أو جهل تحريف دلالات الأشياء، فالأرواح أشباح والإفطار قصعة تملأ المعدة وليس ميقاتاً روحانياً يميّز المقدّس من المدنّس، والطبيعة المؤنقة شجرٌ خائف ووحشة دونها وحشة القبور، ودرب خلفية احترفت العتمة،، لقد استدعت الصورة الكلية التي اقترنت بصوت المؤذن عدداً من صور الذاكرة المقتبسة من مدن العراق، فلو غيّرت (فطور مغربي) بفطور عراقي لم تجُرْ على بؤرة النص ولم تختطف المعنى وتحوّل سير اتجاهه، فالأعرجي الذي غادر جنّته (العراق) قبل ربع قرن بعد أن استحال إلى (جهنم) تزدرد الأبناء وتحرق الأحلام،، محلل النص لا يعنيه أن اراد الشاعر ذلك الاقتران بين الخرابين والضياعين أم لم يرده، ولكن الشاعر منح صورة المدينة لحظة الأذان ألواناً من الرماد المبقّع بالدماء. وأياً كانت الرؤية فإن قصيدة (فطور مغربي) تؤسس بحذق (يبدو تلقائياً) لفن الحكاية الشعرية من خلال التداعي والاسترجاع والاستدعاء، ويمكن القول أن بطل الحكاية في هذه القصيدة النفيسة هو الوصف المكثف المتوتر الذي أغنانا عن الحوار والحدث، والمدينة بفضاء زمكاني لمركزية الهمّين الجمالي والأيديولوجي.

 

عبد الاله الصائغ / موسوعته باب المصطلح

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم