صحيفة المثقف

جبلٌ لَا يَرْتَقِيهِ الْحَافِرُ وَلَا يُوفِي عَلَيْهِ الطَّائِرُ .. ثلاثون عاماً في صحبةِ الرّفاعي

dahir jabarobaydالحديث عن حياة أستاذنا العلامة الدكتور عبد الجبار الرفاعي (حفظه الله) فيه أبعادٌ ومحطات واسعة، ولكني سأتحدّث عن تجربةٍ عشتها بنفسي مع هذا الإنسان، ولا تحرّكني – وأنا أتحدث عنه - العواطف والمشاعر والرغبات، وإنما أشعر بانّي مدينٌ له، وإن على المستوى العلمي والفكري.

 

المحطة الأولى: البعد التدريسي في حياة أستاذنا العلامة الرفاعي

في تجربة حياتي العلمية، عندما بدأت خطوتي الأولى في طريق العلم والمعرفة، كان الأستاذ الدكتور الرفاعي هو المعين الذي انتهلتُ منه العلم والمعرفة؛ ولعلّ بداياتي كانت مع درس المنطق في مدرسة (عشرة الفجر) عام 1985 ميلادياً، تقريباً، فالعلاقة بدأت مع الأستاذ الرفاعي منذ ذلك الوقت، وهي فترة زمنية تمتد إلى 30 عاماً من العلاقة التي بدأت من خلال الأستاذية والتلمذة، ثم استمرّت لتتطور الى علاقة الأخ الأكبر بأخيه الأصغر، ثم تطورت علاقتي بالاستاذ ثانياً من خلال حضور درس الأصول: الحلقات الأولى والثانية والثالثة للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قد)، ثم بعدها دراسة فلسفة العلامة الطباطبائي (قد) في كتابه (بداية الحكمة، نهاية الحكمة)، أضف إلى ذلك: الدروس الأخرى، ككتابَيْ اقتصادنا وفلسفتنا للسيد الشهيد الصدر.

والملفت أنّ هذه الدروس والعلوم الحوزوية - وخصوصاً العقلية منها - كُتبت بمنهجية معقدة تحتاج إلى أستاذ مقتدر، ومدرس منهجي متمرّس، يمتلك أسلوباً ناجحاً لفك مغاليق هذه الدروس، وإيصالها للطالب بالشكل الصحيح، وكان أستاذنا الرفاعي يتمتع بهذه الصفات العلمية، التي تؤهله إلى فك تلك الالغاز العلمية، وتقديمها للطالب ببساطة وانسيابية.

لذا، تراني لا أنسى أنفاسه التي تعبق في ثنايا حلقات الأصول، وهو يفتح عباراتها، ويفك رموزها، ليوصل معالم نظريات الأصول العميقة إلى أذهاننا، ولا أنسى أنامل كفه وهي تمسك القلم لترسم على اللوحة تلك المسائل المنطقية المعقدة - في منطق الشيخ محمد رضا المظفر - والتي كان يشكو بعض الطلبة من صعوبة فهمها. يضاف الى ذلك الأبحاث الفلسفية والعقلية المعقدة في دروس بداية الحكمة، ونهاية الحكمة.

لم نكن نشعر بمرور الوقت بفضل أسلوب الأستاذ الرفاعي، الذي يجعلنا مشدودين الى الدرس المنطقي أو الأصولي أو الفلسفي، ولا ننتبه إلى نهاية وقت الحصة المُعدة للدرس، إلاّ على صوت الجرس المنبه المُعلِن انتهاء وقت الحصة الدراسية.

وبعد مرور فترةٍ زمنية ليست بالكثيرة، أصبح الشيخ الرفاعي من الأساتذة الأوائل، الذين اشتهروا بتدريس العقليات والحكمة وعلم الكلام، وأضحت أشرطة تسجيل دروسه يتناولها طلاب العلم والمعرفة، فأخذت مساحة واسعة في الدرس الحوزوي، وأصبح الطلبة في الحوزة يتلاقفونها من المراكز الثقافية في تلك الفترة للإستماع إلى دروس الأستاذ، وهذا يرجع إلى الأسلوب المنهجي الذي كان يمتاز به العلامة الرفاعي في تفكيك المادة العلمية وإيصال مطالبها إلى طالب العلم بدون أي تعقيد أو عناء، ولعل القليل من الأساتذة يمتازون بهذا الأسلوب، وهذه القدرة العلمية والمنهجية في التفهيم والتأثير.

فالأستاذية، والتفوّق العلمي الدرسي، ليستا أن يقوم الإنسان العالم بعقد حلقة درس، يجمع حوله، من خلالها، مجموعة من الطلبة ليلقي عليهم مادته العلمية، ثم تذهب أدراج الرياح، ولكن لابد للأستاذ أن يتبّع منهجاً علمياً مؤثراً يؤدي إلى صناعة تلامذة علماء، الأستاذ يحتاج إلى قوة علمية، تجعله متمكناً من مادته العلمية التي يقوم على تدريسها، يعرف كل زواياها، واصطلاحاتها، وعباراتها، كما أنه يحتاج إلى منهجية وأسلوبٍ متجدّد ومؤثر، يشدّ الطالب إلى الدرس، ويجعله يشعر بمتعة تلك العلوم، خصوصاً العلوم الحوزوية المعقّدة كالأصول أو الفلسفة أو المنطق أو الكلام، وغيرها.

إننا نجد بعض (المحسوبين) من أساتذة المعارف الاسلامية، يقوم بفتح حصةٍ تدريسية، يبدأ من خلالها بتوزيع المال على الطلبة كمرتب شهري؛ من أجل تشجيعهم على حضور درسه، إلاّ أنك لو جئت إليهم من الناحية العلمية ستجدهم فاشلين بكل المعايير العلمية، وترى الطالب المسكين مضطراً لحضور هذا الدرس، من أجل الحصول على المال نتيجة للظروف المعاشية الصعبة التي يمر بها أغلب الطلبة. وباعتبار أن الراتب الشهري لهذا الأستاذ مشروط بالحضور في حلقة درسه، وهو أسلوبٌ رخيص، لا يقوم ببناءِ طلاب علم ومعرفة، وهو بعيدٌ كل البعد عن أسلوب ومنهجية أستاذنا الرفاعي حفظه الله.

من الدروس التربوية التي تلقيناها من أستاذنا الرفاعي، أنه كان خلال فترة الامتحانات، عندما يطرح الأسئلة الامتحانية على الطلاب، يقوم بقرائتها، ثم يغادر قاعة الامتحان، ويترك طلابه يجيبون على الأسئلة العلمية دون مراقبة الأستاذ، وهذا أسلوبٌ من أجمل الأساليب العلمية والتربوية التي تربّي الطالب على الشعور بالثقة المتبادلة بين هذا الرجل وبين طلابه. وكان استاذنا الرفاعي يبرر سلوكه هذا بقوله: (أنا أطمح لتكريس الثقة بين طلاب العلوم الدينية، فإن مستقبلكم هو امامة الصلاة وتبليغ الأحكام الشرعية والدعوة للدين، وكيف يمكن لشخص يمارس الغش في الامتحان أن يؤتمن غداً على تهذيب الحياة الأخلاقية وتنمية الحياة الروحية للمجتمع).

الحوزة العلمية في قم المقدسة، كما في المدارس الحديثة، تقوم بإجراء امتحانات فصلية وسنوية لطلابها، وعدم نجاح طالب العلم وفشله في الامتحان، قد يحرمه من ميزات كثيرة، لعل من أبرزها الراتب الشهري، الذي يهتم به أغلب طلبة العلم لسد جوع الحياة، فهو وبالرغم من قلته وتواضعه، إلاّ أن طالب العلم تراه حريصاً على النجاح والتفوق من أجل استمرار وصول هذا المبلغ إليه، لأن أغلب الطلبة ليس لهم عمل آخر غير طلب العلم يحصلون من خلاله على بعض الموارد المالية.

ورغم أن بعض الأساتذة على معرفة بظروف الطلبة إلاّ أنك تجدهم متشددين في مسألة الإمتحانات، ومعقدين في طبيعة طرحهم للأسئلة، مما يؤدي إلى نفور تلامذتهم، على عكس أستاذنا الرفاعي الذي تجد فيه الروح الأبوية الحانية على الطلاب، فلا يشعرك بأنه يقوم باستعراض قدراته العلمية؛ من خلال طرح أسئلة معقدة وغير واضحة، بل تراه يحاول أن يطرح المادة العلمية الأساسية التي تحتوي عليها الكتب الدرسية، لأنه يعتقد أن طالب العلم إذا كان تلميذاً حقيقياً، مستوعباً للمادة العلمية من خلال المنهج التدريسي فسيكون الامتحان سهل عليه، ولا يحتاج إلى تعقيد الأسئلة الامتحانية، لذلك تجد الأستاذ الرفاعي يترك قاعة الامتحان، وهذه من الميزات الأخلاقية النادرة التي تُريح الطالب، وتجعله يتابع الإجابة على الأسئلة الامتحانية بدون أي ضغوط نفسه، لأن الكتب الدرسية في الحوزة العلمية ليست من صنف القضايا الحفظية، التي يحفظها الطالب وقت الامتحان ويقوم بالجواب عليها حسب ما علق بحافظته. وإنما هي من المواد العلمية التي تعتمد على الفهم والتركيز، عبر تفكيك العبارات وإرجاع الضمائر وتوضيح الآراء، والسيطرة على المطلب من خلال تحليل مضامينه. فالطالب إذا لم يكن مستوعباً للمادة، عبر المطالعة والمباحثة مع زملائه من طلبة العلوم الدينية، لن ينفعه شيء، حتى لو أنك أعطيته الكتاب وقت الامتحان فإنه لا يستطيع الجواب، إلاّ اللهم في بعض الموارد التي تعتمد على الحفظ. وهي قليلة في دروس الحوزة.

كان الأستاذ الرفاعي يحرضنا فيقول: الذي يدرس في كلية الطب ما هو مستقبله؟ أليس مستقبله هو أن يتخرج طبيباً، والذي يدرس في كلية الهندسة أليس مستقبله أن يتخرج مهندساً، إذن لماذا لا يفكّر الذي يدرس الفقه وأصوله أن يصل إلى مرحلة الاجتهاد الفقهي؟ لماذا يكون الاجتهاد خاص عند طبقات معينة، تستأثر بذلك؟

هذه الأسئلة والإثارات، تبني الطالب من الناحية العلمية، وتدفعه إلى الثقة العالية بنفسه وبذاته، وهذه الصفة ربما لا نجدها عند كثير من الأساتذة، الذين يصورون لك أن الدروس الحوزوية بحاجة إلى تلامذة من طبقة خاصة. وأن الاجتهاد حكر على طبقة معينة من الأسر والعوائل المعروفة. وهو منهج وتفكير يرفضه أستاذنا الرفاعي، ويدفعنا إلى خلافه، ويشجعنا على التفكير بنيل مرتبة الاجتهاد.

 

المحطة الثانية: البعد الفكري في حياة أستاذنا العلامة الرفاعي

وهو من الأبعاد المهمة التي يمكن ملاحظتها في حياته وفي شخصيته؛ من خلال القرب منه ومعايشته فكرياً، حيث أن له اهتمام خاص ببناء طلبته بناءاً فكرياً وثقافياً، وبمعنى آخر أنه يهتم ببناء طلبة العلم بناءاً معرفياً، لا يقتصر على الدروس الحوزوية التقليدية فحسب، وإنما يمتد ليشمل العلوم الانسانية الأخرى؛ لأن أغلب الطلبة يهتمون بالمعارف الدينية التقليدية، المتمثلة بدراسة المقدمات والفقه والأصول فقط، ولا تكون لهم اهتمامات بالعلوم الأخرى، لذلك حاول أستاذنا الرفاعي أن يضيف لطلبته بعداً آخر ينقلهم من الحالة التقليدية التي كانت تعيشها الحوزة لسنواتٍ طويلة، إلى إحداث حركةٍ فكرية تساهم في بناء الطالب معرفياً؛ من خلال طرح مجموعة من الأبحاث العلمية المتنوعة التي تشمل التفسير والتاريخ والفلسفة والكلام والعقيدة والفكر والاقتصاد والاجتماع، وكان يطرح لذلك عناوين مختلفة، ويطلب من تلامذته أن يختار كل واحدٍ منهم عنواناً معيناً ليكتب فيه بحثاً علمياً، وقد انطلقت كتاباتي الأولى من خلال تلك العناوين والبحوث.

وهي خطوة مهمة في حياة أستاذنا الرفاعي، لأن الملاحظ في الحوزة العلمية أنها كانت تعيش حالة من السكون تفرضها طبيعة الدروس التقليدية القديمة، وهي حالة فرضت نفسها لسنواتٍ طويلة، وكان من الصعب اختراقها، لذلك كانت تحتاج إلى مزيدٍ من الصبر والروية والثبات، والاصرار على اختراق هذا السكون والجمود الفكري المهيمن.

من هنا كانت خطوة استاذنا الرفاعي تمثل ظاهرة معرفية، ونقلة نوعية لجيلٍ من التلامذة، عمل على بنائهم بناءاً فكرياً رصيناً يستطيعون من خلاله أن يخترقوا هذا السكون، وهذا الجمود، لينفتحوا على حياةٍ معرفية جديدة تستمد فكرها ومعتقدها وبنائها من خلال النصوص العلمية، التي لها جذور في تراثنا الفكري والمعرفي المتنوّع، ومن ثم صياغتها بقالبٍ عصريٍّ جديد.

أضف إلى ذلك فإن توجيهات شيخنا الأستاذ لا تقتصر على إعطاء العناوين فقط، وإنما تراه يبذل جهداً مضاعفاً من أجل الإشارة إلى مصادر تلك الأبحاث وتوفير مراجعها، فتراه يبذل جهداً شخصياً للحصول على المصدر، وتقديمه للطالب خصوصاً إذا كان الطالب في بداية طريقه للبحث والكتابة.

ولا أبالغ لو قلت بأن حلقات دروس الأستاذ الرفاعي، خصوصاً درس المنطق، في منتصف الثمانينات كانت تمثل نقلة نوعية في مطالعاتنا الفكرية، وسعينا للكتابة والبحث، وكنتُ كلما تناولت بحثاً علمياً، كانت روح وأنفاس أستاذي الرفاعي واضحة عليه، لأن باكورة نتاجات بحوثنا كانت من خلال تلك الحلقات الدرسية التي كان يعقدها الأستاذ الرفاعي.

لقد حضرت ـ بعد ذلك ـ عند كثير من الأساتذة في حوزة قم؛ في الفقه والأصول والتفسير والفلسفة، وغير ذلك، ولكني لم أجد أستاذاً واحداً من هؤلاء الأساتذة يهتم هذا الاهتمام المعرفي بطلابه وتلامذته، ويدفعهم للكتابة والبحث والتحقيق، ويفتح أذهانهم، ويختبر قابلياتهم الفكرية، لكي يطوّر عندهم ملكات الكتابة والبحث العلمي، فترى الأستاذ عادةً يلقي درسه ومحاضرته على تلامذته، ويتركهم هم والدرس، دون أن يتناول قضايا فكرية أخرى، بخلاف أستاذنا الرفاعي الذي كان يهتم ببنائنا بناءاً فكرياً من خلال الخوض في مجالاتٍ شتى.

عندما كنا نحضر درسه في كتابَيْ: (اقتصادنا وفلسفتنا) للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، قبل أكثر من ربع قرن، تراه لا يقتصر على محتوى هذه الكتب من أبحاث فقط، وإنما يعمل على إضافة أبحاثٍ أخرى خارجة عن إطار الدرس تتعلّق بالحضارات الإنسانية والمدارس الفكرية المختلفة، التي ينبغي لطالب العلم أن يتعرف على مبانيها الفكرية، ورجالاتها، ومفكريها، ولا يكتفي بذلك بل يدعونا إلى تكثيف مطالعاتنا المعرفية خارج إطار الدرس التقليدي المُقرَّر، وكان يطرح على مسامعنا جملة من أسماء رواد الحركة الفكرية، ويطلب منا أن نميّز بين أفكارهم ومبانيهم، ونختار منهم، خصوصاً أصحاب النظريات الإسلامية في مختلف ميادين المعرفة أمثال الشهيد محمد باقر الصدر، والعلامة الطباطبائي، والشهيد مطهري، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، وغيرهم من أصحاب الفكر ورواد النهضة في الخمسين سنة الأخيرة، ممن تركوا بصمة فكرية مهمة لا زال الكثير من الشباب المسلم ينهل من مدارسهم ويتابع آثارهم، وما أسسوا له في الفكر الإسلامي.

وكان يضرب لنا مثالا بين ما أنتجه الشهيد الصدر (قد) وبين نتاجات غيره ممن أكثروا من التأليف الذي يعتمد على الإنشاء فحسب، وكيف أن أولئك رغم كثرة انتاجهم وكثرة مؤلفاتهم إلاّ أنك لا تجد لهم أثراً معرفياً متميزاً، بخلاف السيد الشهيد الصدر الذي أصبحت جلُّ مؤلفاته مصدراً مهماً من مصادر التنظير والتفكير.

أمثلة من هذا القبيل يسوقها الأستاذ تجعل الطالب يفكر ويميّز بين المنجزات العلمية التي تستحق الاهتمام والمتابعة وبين غيرها، التي لا تتعدى كونها حشواً إنشائياً يعتمد على التكرار واجترار الماضي، وتنبه الطالب إلى عدم الانجرار وراء الأسماء والعناوين المختلفة التي توحي بمضامين عالية، ولكنك عندما تقترب منها لا ترى إلاّ تراجعاً وخواءاً فكرياً.

أتذكر في إحدى محاضرات أستاذنا الرفاعي أنه قال: ان المثقف المسلم لابد له أن يطالع في فترة حياته ما لا يقلّ عن خمسة آلاف كتاب في مختلف ميادين المعرفة، لكي يستطيع أن يقول: أنا مثقف.

وهذه الكلمة ـ في الواقع ـ تركت آثاراً كبيرة في نفسي، وحياتي الفكرية، وذلك مما جعلني ألهث وراء الكتاب، والمطالعة، وقمت بوضع برنامج فكري مكثف، طالعت من خلاله المئات من الكتب والدراسات والبحوث الفكرية في شتى ميادين المعرفة، فكنت أطالع في اليوم ما يقارب الـ (11) ساعة، حتى أنني قرأت موسوعة قصة الحضارة لويل ديوارنت والذي يقع في (42) مجلداً؛ كتب فيه عن حضارات البشرية المؤثرة في حياة الإنسان، خلال فترة زمنية ضاربة في عمق التاريخ الإنساني.

وكانت هذه الفترة من أخصب الفترات في حياتي وأنجحها، فهي التي أشبعتني فكرياً ومعرفياً، وجعلتني أبدأ بخوض النقاشات الفكرية والمعرفية المختلفة.

ولم تتوقف مسيرتنا العلمية مع الأستاذ الرفاعي عند هذا النشاط الفكري فقط، وانما امتدّت لتبلغ أبعد مدى؛ وذلك من خلال الخوض في نشاطات أخرى، وكان من بينها دعوته لنا للكتابة، فكان يستكتبنا ويدفعنا بهذا الإتجاه، ويطلب منا أن نكتب للمجلات والدوريات الفكرية والثقافية التي كان يشرف هو على أصدارها، أو كان ضمن كادر إدارتها، واستمر يتابع ويدقّق ما نكتبه أو ننشره.

وقد كانت مجلة قضايا اسلامية، ومجلة قضايا اسلامية معاصرة تحمل أسماء مجموعة من تلامذته الذين كانوا ينشطون في تلك الفترة الزمنية، وكنت من المشاركين بكتابة المقالات في تلك الدوريات التي كان يشرف عليها.

فكانت نتيجة هذا العمل، وبمتابعة الأستاذ في تلك الفترة، كتابة جملة من الأبحاث والمقالات، والمشاركة في بعض المؤتمرات من خلال تقديم البحوث والدراسات. كل ذلك كان نتيجةً لتلك الجهود العلمية التي كان يبذلها الأستاذ الرفاعي لتربية تلامذته وطلابه، وملاحقتهم فكرياً من أجل رفع الإشكالات التي تقف في طريق نتاجاتهم العلمية.

ولا ننسى أنه لا زال ـ في هذا المجال ـ يشرف على الكثير من الرسائل الجامعية لطلاب الدكتوراه والماجستير، سواء كانوا من تلامذته أو غيرهم من طلبة العلم.

لكني ـ للأسف ـ ابتعدت قليلاً عن النتاج الفكري، في الفترة الأخيرة، خصوصاً بعد سقوط صدام حسين في العراق عام 2003، وازدياد مشاغل الأستاذ في سفراته الفكرية والعلمية بين عواصم العالم، مما أدى إلى قلّة لقائي وتواصلي معه، ليتابع نشاطي العلمي في هذا الإتجاه.

 

المحطة الثالثة: التواضع الأدبي والأخلاقي في حياة أستاذنا العلامة الرفاعي

وهي محطة لابد من التوقف عندها، لأنها من معالم شخصيته التي امتزجت بعطائه العلمي والمعرفي؛ فسمة التواضع في شخصية أستاذنا العلامة الرفاعي من السمات التي لا تخفى على كل من يلتقي به، أو يتقرب منه، حيث أنها رافقت حياته منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، فانك تجده متواضعاً من الناحية الأخلاقية والعلمية مع كل أصدقائه وطلابه، وهي صفة قلَّ ما نجدها في أساتذة آخرين ممن عشنا معهم وحضرنا دروسهم، وأغلبهم من أساطين الدرس العلمي الحوزوي في مدينة قم، فخلال تلك الفترة العمرية من دراستنا الحوزوية لم نستطع أن نكوّن معهم أي نوعٍ من أنواع العلاقة، أو الصداقة كما هو الحال مع استاذنا الرفاعي، فعلاقتنا بهم لا تتعدى الحضور في حلقات دروسهم، وعندما نلتقي بهم في مكانٍ آخر نشعر بأنهم لا يعرفوننا، أو لا يرغبون بوجود علاقة بينهم وبيننا، بل أكثر من ذلك؛ فإننا عندما نلتقي بهم نشعر بحالة من الغرور والتكبر تحيط بهم، فعلى سبيل المثال مرة التقينا بأحد هؤلاء الأساتذة، ممن حضرنا عنده سنوات في الفقه، التقينا به في إحدى مطارات السفر إلى بيت الله الحرام، فلم يلتفت إلى وجودنا، ولم يظهر أية حالة من التواضع، أو الاحتضان لطلابه، ولم يسأل عن سبب وجودنا أو حضورنا في المطار، كل هذا لأنه يشعر في داخله بأنه أفضل من الآخرين، لأنه ينتمي إلى عائلة معروفة! ولابد لهؤلاء الطلاب أن يركعوا بين يديه.

ولكنك عندما تلتقي بالعلاّمة الرفاعي لا تشعر بأنك صغير أبداً، بل يشعرك أنك كبير. ما تشعر به مع استاذنا أن شخصية رجل الدين، واستاذ الحوزة لابد أن تتجسد فيها أخلاق الأنبياء والأولياء، وانه ينتمي إلى منظومة قيمية تقوم على أسسٍ فاضلة، ومن أهداف الدين الأساسية هي بناء الإنسان بناءاً أخلاقياً، لذلك لابد ان يكون التواضع هو السمة الأخلاقية البارزة عند رجل الدين، لذلك كان أستاذنا الرفاعي مختلفاً عن الآخرين، لأنك عندما تلتقيه تشعر بأنك أمام جبلٍ من الأخلاق والتواضع والمحبة والعشق لتلامذته وأصدقائه؛ فتراه دائم السؤال عن الجميع، يبادر إلى الإتصال بهم والتواصل معهم، خصوصاً في فترة التحصيل العلمي، والمتابعة الفكرية، بل إلى أكثر من ذلك تراه يسأل عن أحوالهم وحياتهم ومعاناتهم ومشاكلهم، ويحاول التخفيف عنهم، وهذا مما يزيل همومهم ويبدّد هواجسهم ويجعلهم يشعرون بالراحة.

فالجانب العلمي في حياة الإنسان لابد أن يُترجَم في سلوكه العملي من خلال الأخلاق والتواضع والبساطة، ولا يجعله يتحول إلى نوعٍ من التكبر والغرور والجفاء والقطيعة.

كان بيت أستاذنا الرفاعي ولا يزال منتدىً علمياً تُعقد فيه الجلسات العلمية والنقاشات الفكرية الحرة، وبكل تواضع، وبدون تخطيط مُسبق، لأن بيته مفتوح للجميع، وقد خصّص يوم الجمعة من كل أسبوع موعداً لزيارات الطلاب والأصدقاء وكل من يرغب بالتعرف عليه والتقرب منه، فيحضر في بيته طلاب العلم والمعرفة من شتى الاتجاهات، ومختلف الآراء، والمستويات العلمية، وكثيراً ما كانت تُقام في بيته صلوات الجماعة، ويُقدّم الطعام على مائدته المباركة.

حتى أنك عندما تخرج من بيته تشعر بأن لك رغبة في العودة إليه مرةً ثانية وثالثة وأكثر، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على إنجذابك لهذه الشخصية الفذّة والمعطاء لشيخنا الأستاذ الرفاعي (حفظه الله).

لذلك كان لشخصية أستاذي الرفاعي الأثر الكبير في حياتي، وفي كثير من الجوانب العلمية والفكرية والأخلاقية، فكنت أشعر بصلابته العلمية، وثباته، وإصراره على التزوّد والكسب المعرفي، وأشعر بأنه جبلٌ لا تهزه العواصف، ولا يتأثر بها، مع أنه تعرض في حياته لكثير من المعاناة والمحن والخطوب، ولكنه كان يقف أمامها بكل ثباتٍ وإصرار، فهو ذلك الجبل الذي لا يرتقيه الحافر ولا يوفي عليه الطائر؛ ينفرد بعلميته، وفكره، وعطائه، وكرمه، وتواضعه؛ لذلك نحن بحاجة للإحتفاء بهذا الإنسان المحب للعلم والمعرفة، المحب للإنسانية.

 

الشيخ ظاهر جبار عبيد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم