صحيفة المثقف

بَـيـانُ كشْـفٍ طـارئ

saida taqiأن نجلو فائض الأوهام

بكامل الحقيقة

 


 

بَـيـانُ كشْـفٍ طـارئ / سعيدة تاقي

 

تحية البداية:

ليس لضمير المتكلم هنا قيدَ العناية الفائقة، أي إحالة ذاتية خارج السياق.

 

أول الكلام:

المرض قد يكون حالة طارئة.. قد يعترض سُبل الحياة لمدة تطول أوتقصر.. قد يغدومقيماً بأوراق ثبوتية ووثـائقَ احتضان رسمي ممـهورة بتوقيعات كلِّ الخبراء أو موثَّقَة في سجلات حماة القضايا العادلة.. وقد يطلُّ كزائرٍ خفيف يراود الصحَّة عن بعض مكتسباتِها بين الفينة والأخرى.. المرض قد يكون عابرَ سرير أو كرسي أو أريكة أو خزانة أو بناية أو خزينة أو وطن.. وقد يكون عابر سبيل.. المرض قد يكون رفيق درب وصديق عمرٍ وكاتِم أسرار.. قد يكون مالِك المفاتيح وقيّم الخزائن وسادن المعابِد.

 

في المنتصَف تحديداً:

ونحن نعاني المرض لا نفكِّر فيه.. نحن نفكر في الحياة.. في الفُرص التي لم نقتنِصْها.. في العُمْر الذي يفرُّ هارباً دون قدرة على لَجْمِهِ هنا والآن.. في ذلك الآتي الذي لا نعرِف مفاجآته أو خفاياه..

ونحن نعاني المرض نكـتَشِـف أننا لم نـفكِّر فيه من قبل، بما يكفي من الالتزام.. بما يكفي من الإيمان.. بما يفيض عن الـ "أنا" العليلة أو الـ "أنا" السليمة. وإمعاناً في الحياة بـالفِعـل وبـالـقـوة ننسى أن نفـكِّر فيه في تلك اللحـظات، أثناء عبوره للسـرير أو للكرسي أو للأريكة أو للخزانة أو للبناية أو للخزينة أو للوطن أو للسبيل.. ونكتفي بأن "نُوجَد" على قيد الوجود..

ونحن نعاني المرض لا نحيا الأنانية مثلما يدَّعي فرْطُ الأنين والشكوى، ولا نعرف التمركُز حول الذات مثلما يقتضيه بالِغُ الضّعف والاستسلام..

ونحن نعاني المرض نغترِفُ "الأنا" قدْر الشهيق والزفير ونترك "الأنا الأعلى" جانباً يندب الفراغَ الذي سنخلِّفُه إن مضَيْنا إلى أبعد من ذلك العبور.. أبعد من ذلك المرض.. أبعد من تلك الحياة.. أما "الهو" فنُخْلِصُ له النوايا والأسرار.. الذاكرةُ حينها شريطٌ سينمائي يعبُر في عجلةٍ أمام وَهَنِنا المستكين.. يكدِّسُ الأحلامَ التي لم نقطِفْها، والروابي التي لم نزُرْها، والأعالي التي لم نبلُغْها والخنادِق التي لم نَجُسها..

ونحن نعاني المرض لا نقتنص الحاضر لا نستمتِع باللحظة المفارقة.. ولا تدرك الأبصار من المستقبل سوى ما قذفته عقارب الساعة المسرعة من خيالات السراب أمام بصرنا الشحـيح.. الماضي وحـده يسكـننا بأخطائه وخطاياه.. يجتاحنا بما خزَّنه من أطلال وأوتاد عقيمة.. بما أخفاه من أوهام وأوزار وعثرات متوالية.. الماضي وحده يغمرنا على بـيـاض ذلك السـرير بكـل السَّـواد الذي اقـترفَـنا من قبل أو اقـترفْـناه بسـبْق فِعْـل أوعجز أو انشغال..

 

قُبيل الستار الختامي:

المرض ليس فسحةً مقـتَطَعة من الصحة السليمة أو من الوعي العضوي المنتمي إلى واقع للحياة يمضي خارج الأبراج العاجية. المرض ليس وقفة تأمُّل دون رِجلين قائمتين على الأرض الصلبة. ليس وهناً يدارى ضُلوعَه في المسؤولية بكامل الفِرار..

المرضُ حينها مجرّد خِبرةٍ استئمانية دون ضرائب على القيمة المضافة. ننسى فاتورتَها بمقتضى مرورنا من حاجز الأداء.. من معبر الحـدود الحـارقة.. من قـيد النوم السريري.. من حـالـة الطـوارئ المعـلَـنَة.. ونغمُرُ كل الأكياس/الحقائب المحمَّـلة بمقـتنـيات وذخـائر ذلك العُبور/ تلك الإقامة بإكسيرٍ التَّناسي الذي نحفَظُه للمناسبات الخاصة، ونخفي كلَّ الأرصدة خلف جدار الحقيقة في عمق الخزانة/الخزينة/الحساب السرِّي، في ذلك الركن القصي الذي لن تصله الأيدي العابثة أو الجَّادة أو المُسائِلة.

 

وصفةٌ دون علاج:

وننسى بعد المرض.. بعد الاجتياح أن نفكِّر فيما كان ولم يكُن.. ننسى أن ننشغِل بما لم نقطِفْه.. أن نرتاد ما وقرَ في الأماني.. أن نمحو ما اقترفناه من هفوات.. أن نجلو سيئات الأوزار بحسنات جاريَّة.. أن نقتلع الأوتاد العقيمة.. أن نجلو فائض الأوهام بكامل الحقيقة.

ننسى أن نكون من "كُـنّـاه" أثناء المرض، في ذلك العبور..

ونعودُ للحياة ببساطة الشهيق والزفير..

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم