صحيفة المثقف

قيم الحسين .. هل ستطيح بالفاسدين؟ .. تحليل سيكولوجي

qassim salihyلن يحصل اصلاح، من وجهة نظرنا نحن المعنيين بعلم النفس السياسي والاجتماعي، مالم يحصل تغيير في قيم الفرد والمجتمع. هذا قانون اجتماعي، ذلك لأن القيم هي التي تحدد الأهداف وتحرّك السلوك .. ولك ان تعزو اختلاف رجال الدين ورجال الاعمال والفنانين في اهتماماتهم وتصرفاتهم الى اختلافهم في القيم بين الدين والمال والجمال.

لقد اشرنا في مقال سابق الى ان التظاهرات احيت قيما كنّا اعتقدنا انها ماتت، حددها استطلاع رأي بالآتي: (اكدت صحوة الشعب العراقي من غفوته من 2003، نشرت الوعي ووحدت بعض الشيء، كشفت خداع البرلمانيين والحكومة للشعب، عززت ثقة الشعب بنفسه وقدرته على التاثير في الحكم، وفّرت فرصة التعبير عن الراي وكسرت قيود الخضوع والاستسلام، فتحت بابا لبداية مرحلة جديدة، كسرت حاجز الخوف عند المواطن وخرجته عن صمته الذي كلف الوطن الكثير، خففت من التوتر الطائفي وجمعت كافة الطوائف والاديان تحت راية العراق، اظهرت ان الاغلبية من العراقيين ما عادت تؤمن بحزب الدعوة او الاحزاب الاسلامية، عملت على اظهار النزاعات الخفية بين الاحزاب الشيعية، كشفت ضعف التيارات السياسية الحاكمة، واسهمت بمشاركة الشباب بحجم اكبر ..).

ومع ان استشهاد الامام الحسين يرتبط بمناسبة دينية، الا ان جوهرها يستهدف استنهاض قيم المظلوم ضد الظالم، وحث المظلومين على التغيير اما بالاصلاح او الثورة. ولهذا السبب (الخوف من استثارة استشهاد الحسين للقيم) كانت السلطة في العراق تخشى هذه المناسبة. ففي العهد الملكي كانت استراتيجية الحكومة تقوم على استغلال المناسبة للتفريغ والتنفس. اذ كانت مواكب العزاء منتشرة في كل ارجاء العراق الشيعي، وكان (الرادود الحسيني) يضمّن قصائده غمزا او لمزا .. نقدا للحكومة والمحتل الانكليزي برغم علمه بوجود رجال أمن في مجلس التعزية. وكان عقل نوري السعيد يقوم على سيكولوجية منح عشرة ايام للمواطن المكبوت من ظلم السلطة .. ينفّس فيها عن مكبوتاته في السنة .. لتبقى قيمه راكدة!

في عهد صدام حسين، كانت الاستراتيجية بالضد تماما، اذ اعتمد سياسة منع مظاهر العزاء حتى في الأحياء الشعبية. وكانت مواكب المعزين المتجهة الى كربلاء والنجف مراقبة من داخلها بعيون الحزب ومن خارجها بقوات الطواريء .. خوفا من ان تستنهض المناسبة قيم جماهير المعزين وتدفعهم نحو الاطاحة بالظالم.

في العهد الديمقراطي .. تبنت الحكومة هذه المناسبة ممثلة بأحزاب الاسلام السياسي الشيعي في السلطة .. واستغلتها لأغراض سياسية حققت فيها مكاسب انتخابية كبيرة، وتبوأ مراكز حساسة في الدولة ووظائف كبيرة في الحكومة .. طائفيون يفتقرون الى الشهادة العلمية والكفاءة والخبرة وتغليبهم قيمة الانتماء الى الطائفة على قيمة الانتماء الى العراق. وبما انهم بهذه المواصفات فانهم اساءوا الى قيم الحسين . ففي مقال لكاتب بريطاني اسمه "دافيد كوكبرن" نشره في صحيفة الاندبيندنت بعنوان: (كيف تحولت بغداد الى مدينة للفساد) جاء فيه: (احسست بالم وانا ارى شعارا مكتوبا على لافتات سوداء بساحة الفردوس: "الحسين منهجنا لبناء المواطن والوطن").

وتدريجيا، اكتشفت جماهير الشيعة انهم استغفلوا، وكثير منهم عظّوا اصابعهم البنفسجية ندما على انتخابهم اشخاصا خذلوهم واستفردوا بالسلطة والثروة. وتدريجيا ايضا اخذت تستفزهم رؤيتهم لمبان مختلسة من الدولة تخفق عليها رايات عاشوراء، وعقارات في ارقى احياء بغداد .. بيعت لمسؤولين وقادة احزاب بثمن بخس، وتهم فساد مخجلة صار يكيلها معممون لمعممين.

ما حصل الآن ان الجماهير التي كانت قيمها راكدة، مستكينة .. اخذت تقارن بين قيم الحسين وقيم السياسيين، اوصلتهم الى اكتشاف انهم كانوا مخدوعين او مستغفلين او على (نياتهم). وانهم في عاشوراء هذا العام تحديدا، وأربعينيته .. ستستنهض مباديء الحسين واخلاقه الراقية قيم العراقيين، لتتوحد مع القيم التي احيتها التظاهرات.واذا ما توحد شعار (هيهات منّا الذّلة) مع شعار (باسم الدين باكونه الحرامية) .. فان قيمة المواطنة ستحيا بعنفوان يطيح بالفاسدين .. وهنالك مؤشرات توحي انهما سيتوحدان عبر اهازيج اهالي السماوة والناصرية والبصرة في عاشوراء هذا العام(احزاب السلطة .. باطل، يتحدث باسم الشجعان وهو اكبر فاسد، ياعمي اطلع ملينه .. .)

غير ان هذا لن يتحقق كما نتمنى، لاسباب بعضها يتعلق بمواقف سلبية من التظاهرات من قبيل التشكيك في ديمومتها، او انها من صنع احزاب السلطة، او انها لن تجدي نفعا. وبعضها، وهو الأهم، يتعلق بالمحتوى السيكولوجي الاجتماعي الطقسي لمواكب العزاء. فلدى متابعتنا لمواكب العزاء في كربلاء والنجف وبابل وكركوك في العاشر من محرم (24 تشرين 2015) وجدنا ان مظاهر ضرب الظهور بالزنجيل وضرب الرؤوس بالقامات ما تزال شائعة برغم ان جميع المراجع الشيعية لا تشجعها .. وبعضها اصدر فتوى بتحرّيمها.

والمحذور في ذلك .. ان جلد الذات بهذه الطريقة الدموية المازوشية تميت في صاحبها قيمة استرداد كرامته من سالبها وتجعله مستكينا لمن يرى امره بيده حتى لو كان ظالما او فاسدا. نعم ان مظاهر التعبير الجماهيري عن الحزن على الحسين حالة انسانية طبيعية، ولكن ليس بالطريقة التي تسفك فيها الدماء وتدوس عليها اقدام المعزّين وهم يدخلون صحن الأمامين، فضلا عن انها تعطي انطباعا سلبيا عن العراقيين .. والشيعة تحديدا.

وعليه، ينبغي التثقيف بهذا الاتجاه ايضا، نحو ان تكون مظاهر الحزن على الحسين .. حضارية، ان جاز التعبير، لا ان تكون في فعلها السيكولوجي .. جلدا للذات او عقوبة على جريمة او تكفيرا عن ذنب، وان تكون مصحوبة بتذكير الناس والحكّام بان الحسين ثار ضد سلطة يزيد لانها افسدت القيم .. وان رسالة ثورة الحسين للأنسانية انها تستنهض قيم الناس وتدعوهم الى التغيير في كل زمان تمارس فيه السلطة زيفا دينيا او حسينيا وتستفرد فيه القلّة بالسلطة والثروة.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم