صحيفة المثقف

دموع فرح تختصر مأساة شعب

jawdat hoshyarتلقّت الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا الكسيفيج نبأ فوزها بجائزة نوبل في الآداب لعام 2015، بينما كانت تقوم بعمل بيتي روتيني، وهي كي الملابس في شقتها الصغيرة المتواضعة، كما قالت للصحفيين إثر اعلان فوزها بالجائزة .

سفيتلانا - التي تسكن في عمارة ضخمة متعددة الطوابق، أشبه بمجمع سكني، يضم مئات الشقق ويقع بالقرب من وسط العاصمة مينسك - معروفة بين سكان المجمع بكياستها ولباقتها وحسن تعاملها مع جيرانها ومع الناس جميعاً . صحيح أنها دائمة السفر والتنقل بين العواصم الأوروبية لمتابعة الأصدارات الجديدة لكتبها المترجمة الى العديد من اللغات الأجنبية، ولكن سكان المجمع كانوا على علم بعودتها الى مينسك، وقد احتشدوا عند باب الخروج لتحيتها فور علمهم بالنبأ السار. نزلت سفيتلانا وما أن فتحت الباب حتى سمعت احدى جاراتها تقول لأخرى: "هل تعلمين؟ سفيتلانا حصلت على نوبل مثل بونين".

فشلت سفيتلانا في ايجاد قاعة ملائمة في المدينة لعقد مؤتمرها الصحفي الأول فور الأعلان عن فوزها بنوبل، فقد أغلق النظام في وجهها كل المنافذ واضطرت الى عقد مؤتمرها الصحفي الأول بعد اعلان فوزها بالجائزة في 8 اكتوبر، في مقر صحيفة "ناشا نيفا" المعارضة، التي تشغل بناية صغيرة، لا تتسع سوى لخمسين شخصا، ولم تكن سفيتلانا تتوقع ان يحضر المؤتمر اكثر من هذا العدد، في حين ان عدد الأعلاميين المحليين والأجانب الذين تدفقوا على مكان عقد المؤتمر بلغ أكثر من 200 اعلامي.

سيارة تابعة للسفارة السويدية في مينسك أقلّت سفيتلانا الى مكان انعقاد المؤتمر الصحفي . كان الناس متجمهرين على جانبي الطريق في صفوف طويلة يحملون العلم الوطني وصور سفتلانا وهم يحيونها ودموع الفرح تنهمر من عيونهم حباً بوطنهم وزهواً بمواطنتهم، التي جعلت من بيلاروسيا المنسية على كل لسان. ذهلت سفتلانا لهذا المشهد الفريد، مشهد مواطنيها وهم يبكون من الفرح، ولم تجد له تفسيراً، سوى ان الشعب البيلاروسي المقهور الذي يعاني من وطأة حكم استبدادي، ينتهز أي فرصة للتنفيس عن عواطفه المكبوته . ربما كان الترحيب الجماهيري الحار بسفيتلانا، المعارضة العنيدة لنظام لوكاشينكو تعبيراً عن كراهيتهم وازدرائهم للدكتاتور .

عانت الشعوب التي كانت رازخة تحت الحكم السوفييتي أهوال ومصائب كثيرة . فقد قتل حوالي عشرون مليونا من سكان البلاد واصيب أكثر من ضعف هذا العدد . بإعاقات دائمة، خلال الحرب العالمية الثانية . ولا يعرف على وجه الدقة، عدد الذين قضوا نحبهم في حرب النظام ضد الشعب، أولئك الذين اعدموا رمياً بالرصاص أو امضوا سنواب طويلة في معتقلات ومنافي سيبيريا الرهيبة، أو الذين هاجروا الى الخارج، حيث لم تنشر أية أرقام رسمية عنهم لحد الآن، رغم مرور حوالي ربع قرن على تفكك الأمبراطورية السوفيتية، لأن السلطة تعتبرها من أسرار الدولة . صحيح ان جميع شعوب الأمبراطورية المنهارة عانت من ويلات الحروب والقمع والأستبداد ولكن المصائب التي كابدتها بيلاروسيا الصغيرة المسالمة أفظع وأكثر ايلاماً . فبعد عقد ميثاق مولوتوف ريبنتروب، في اغسطس 1939، احتلت القوات الألمانية والسوفيتية بولونيا في أوائل أيلول من العام ذاته وتم تقسيمها بين العملاقين . وجري اثر ذلك اعادة بيلاروسيا الغربية – التي كانت ملحقة ببولونيا في ذلك الوقت – الى بيلاروسيا . رحب الشعب البيلاروسي بعملية توحيد البلاد، ولكن لم تمض سوى أيام قليلة حتى قامت السلطة السوفيتية بترحيل ما لا يقل عن 200 ألف من سكان بيلاروسيا الغربية الى مناطق نائية وإبادة حوالي 30 ألف من سكانها . وعندما هاجمت ألمانيا الهتلرية في 22 حزيران 1941، الأتحاد السوفييتي، تلقت بيلاروسيا الضربة الأولى وجرى احتلالها بشكل كامل من قبل جحافل الفاشست خلال الأشهر الأولى من الحرب .. وقاوم الشعب البيلاروسي الغزاة بضراوة، ويكفي أن نقول أن ثلث سكان بيلاروسيا – ومعظمهم من الرجال - قد قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية، سواء في جبهات الحرب أو خلال عمليات المقاومة البطولية . وتتذكر سفتلانا طفولتها البائسة في احدى البلدات البيلاروسية، التي قتل جميع رجالها في الحرب ولم يبقى من سكانها سوى النساء والأطفال .. وعندما انهارت الأمبراطورية السوفيتية تحررت الجمهوريات التي كانت ملحقة بها قسراً من ربقة موسكو، ولكن ذلك كان تحررا ظاهريا لأن النظم الدكتاتورية ما زالت قائمة في العديد من تلك الجمهوريات وبضمنها بيلاروسيا التي يحكمها لوكاشينكو بيد من حديد منذ عام 1994، وقد أعيد (أنتخابه) قبل أيام للمرة الخامسة .

لوكاشينكو يعاني من عزلة دولية وحصار اقتصادي غربي خانق ويحاول هذه الأيام مغازلة الغرب، وفعلا قام بمناورة بارعة، بالأستجاب لطلب الأتحاد الأوروبي واطلاق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين بعد (فوزه) بالأنتخابات الأخيرة . وهي مكرمة يذكرنا بمكرمات صدام . وبالمقابل ألغي الأتحاد الأوروبي القسم الأكبر من العقوبات التي كانت مفروضة على بيلاروسيا، ومنها حظرسفر عدد كبير من أعمدة النظام الى الخارج، ولكن رفع الحظر لم يشمل لوكاشينكو شخصياً .

بعد فوز سفيتلانا بجائزة نوبل وجد دكتاتور بيلاروسيا نفسه في ورطة حقيقية . الكاتبة الجريئة تحارب نظام لوكاشينكو بقلمها الجبار منذ سنوات عديدة وقد اضطرت الى مغادرة بيلاروسيا في عام 2000 ولم ترجع اليها، الا في عام 2011، في فترة شهدت محاولات لوكاشينكو للتقرب من الغرب والقيام ببعض الأصلاحات الشكلية ومنها تخفيف القيود على المعارضين . قيل لسفيتلانا : لماذا عدت الى بيلاروسيا؟ أجابت : " اريد أن أكون مع شعبي في محنته. " ومنذ عودتها تجاهلها النظام تماماً، كأنها غير موجودة .فهي ممنوعة من النشر في بلادها رغم أن نتاجاتها الرائعة فكراً وفناً تلقى رواجا منقطع النظير في بقية انحاء العالم . ورغم أنها كانت مرشحة قوية لنيل نوبل طوال السنوات الماضية، الا أن فوزها أخيرأ وجه ضربة موجعة للوكاشينكو، الذي ظل حائراً لعدة ساعات .هل يهنئها بالفوز أم يتجاهلها كالعادة ؟، ولكن بعد أن انهالت مئات البرقيات والرسائل والمكالمات الهاتفية من أنحاء العالم على سفيتلانا، بينها برقيات عدد من رؤساء الدول، أولهم الرئيس الألماني، وبرقيات أشهر ادباء العصر، ورسائل قرائها في شتى أنحاء العالم . وبعد ست ساعات على اعلان فوزها بالجائزة، وجه لوكاشينكو برقية خجولة الى خصمه اللدود صاحبة نوبل يقول فيها : " ارجو ان تكون هذه الجائزة في مصلحة بيلاروسيا " .ولا شك انه يقصد بذلك مصلحة النظام .

سفتلانا سخرت من هذه التهنئة الباردة لأنها أتت بعد برقيات زعماء عدد من الدول الأوروبية، وفي الوقت ذاته قالت أن لوكاشينكو استطاع التغلب على العائق النفسي وهنأها بالفوز رغم أنها ومنذ سنوات عديدة تعد من ألد خصوم النظام .

سفيتلانا حاصلة على أكثر من عشرين جائزة أدبية عالمية، بينها جوائز المانية وفرنسية وأميركية اضافة الى جائزة الدولة التقديرية التي منحت لها في فترة البريسترويكا (1987)، عن روايتها، متعددة الأصوات " للحرب وجه غير أنثوي" التي صدرت في موسكو عام 1985 - بدعم من ميخائيل غورباتشيف - بمليوني نسخة نفدت خلال فترة قصيرة .

سأل صحفي بيلاروسي سفيتلانا : " كيف ستتصرفين بمبلغ جائزة نوبل ؟ .

أجابت: " لقد اعتدت ان انفق مبلغ اية جائزة احصل عليها لأشتري بها حريتي، وجائزة نوبل هي حماية لي من نظام لوكاشينكو " .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم