صحيفة المثقف

مركز التدريب

ali salihjekorمقطع من رواية

لم تكتمل بعد

 


 

مركز التدريب / علي صالح جيكور

 

كانت الطريق المنحدرة من الشارع العام وحتى بوابة مركز التدريب، لاتتعدى الثلاثمئة متر، أي مسيرة خمس دقائق أو أكثر بقليل، الساعة تقترب من الحادية عشر صباحاً، الجو خريفي غائم، يبعث في النفس ضيقاً غامضاً، ويضفي على المكان قتامة وكآبة شديدتين.

سرتُ متعثراً بأفكاري، أنوء بحملٍ هائلٍ من القنوط واليأس، الأفكار السوداء تموج في رأسي، طرقٌ عنيف يُصدع جبهتي وصدغي، جلستُ الى جذع شجرة أوكاليبتوس، أعصر رأسي بيدي، قلتُ ربما لخمرة الليلة الفائتة دورها في هذا الصداع، إذ لايمكن للأحزان وحدها أن تعمل بي كل هذا الألم الممض!

سحبت سيكارة سومر من العلبة، عددت المتبقي منها، إثنتين إثنتين، دون وعي مني، أو ربما هو اللاوعي والخوف من الحياة المجهولة التي تنتظرني، يجعلاني أتفقد اشيائي الصغيرة بهذا الشكل، سحبتُ نفساً عميقاً وحبسته برهة في صدري، وددت لو أجمع هذا الحزن والكدر وأنفثه مع الدخان.

تبسمت، ثم أطلقت ضحكة تشبه العواء عندما لاح في خيالي إستكان الشاي المُهّيل، ستحلم سنوات طويلة بهذا الشاي أيها البائس، رميت عقب السيكارة بعيداً، ثم عادت الافكار تطفو من خبايا العتمة في روحي..

 لحظات قليلة تفصلني عن عالمي الذي أحبه، رغم البؤس الذي فيه، عالمٌ لي يد في رسم بعض ملامحه وتفاصيله، ألبسُ ما أشاء، وقت أشاء، أنام حيث أشاء، أقرأ، أكتب، أضحك، أبكي، أصرخ، أسكر، أدخن، أمارس الرياضة، كان يحلو لي أن أتشاجر مع أصدقائي مع أمي وأخوتي، أغيب يوم أو يومين، دون إكتراث أو خوف لتبرير هذا الغياب، عالم كنت أتنفس هواءه ملء رئتي.

لحظات وأجتاز هذا البرزخ الفاصل بين الحرية والعبودية، هناك خلف تلك البوابة الكبيرة، حيث يقطن الآلاف من البائسين، تنتظرني حياة مريرة، قاسية، مذلة، حيث الأوامر الشديدة التافهة، هناك سيصادرون حقك في اختيار الحياة التي تود أن تحياها، سيصادرون حتى الاحلام.

وبينما أنا غارق بهذه الأفكار، سمعت وقع خطى سريعة تطرق الأسفلت بنعلٍ لاستيكي غليظ، إلتفت الى مصدر الصوت، فأذا به رجلٍ قصير يرتدي دشداشة بنية وسترة زرقاء باهتة، ويعتمر غترة دون عقال، بيده كَوَّرَعباءة صوف سوداء وحقيبة صغيرة متهرئة.

رفع يده الى رأسه وألقى علي السلام:

خوية هنا مركز تدريب المنصورية؟؟ سألني وهو يشير بيده التي تحمل الحقيبة الصغيرة، نحو بوابة المركز.

حييته ودعوته الى الجلوس لتدخين سيكارة، حاول أن يعتذر مبرراً تأخيره عن الوصول الى المكان، لكن علبة السومر التي سحبتها من جيبي أغرته بالتمهل قليلا.

قرفص على قدميه، وضَمَّ ركبتيه الى صدره، رَبتّ على ظاهر كفي عندما ناولته السيكارة، أشعل سيكارته بولاعية معدنية ثم دسها في جيب سترته، نفث الدخان الذي تخلل شاربه الكث بحسرة وحزن، بدا لي في الثلاثين من العمر، عيناه صغيرتان صافيتان، تجمعان السذاجة وشيء من المكر الفطري والشك، وجهه أسمر قاسٍ، وتحت عينيه تجاعيد صغيرة، لفتت نظري المسافة الكبيرة بين فمه وأنفه والتي أحتوت هذا الشارب الأسود الكثيف.

 ظننت أنه قادم لأمر يخص أبنه أو أخوه في هذا المكان.

بادرني قائلاً:

أنت ستلتحق بالخدمة أيضاً؟؟ هززت رأسي بالأيجاب، واندهشت من كلمة (أيضاً)

وأنت؟؟ هل جئت من أجل أحدٍ هنا، تلفت حوله، ثم همس لي، رغم أننا الوحيدين في المكان: أنا أيضاً سألتحق، متخلف سبع سنوات..

لم أستطع كتم ضحكة أنفجرت من صدري، رغم أن الظرف لا يدعو للضحك، قلت: أنا أيضاً متخلف سنتين.

ضحك هو ايضاً، بانت أسنانه الصفراء، قلت له مازحاً:

ماهو رأيك لو ذهبنا الى المدينة نشرب ونعود في المساء؟؟ هي خربانة خربانة!!

إمتقع وجهه، ورد بنفور: أستغر الله خوية أنا عمري ماذقت الخمرة، إلعن الشيطان وخلينا نمشي.

إتجهنا معاً نحو بوابة جهنم.

إستقبلنا عسكري الأنضباط بوجهه المتجهم، وفي داخلي شيء من الخوف كوني متخلف لعامين، لكن وجود الرجل معي خفف من وطأة هذا القلق، لأنه متخلف مثلي، بل لمدة أطول.

أستغربت من أن العسكري لم يسألنا عن سبب التخلف، او حتى تأخرنا في الوصول الى المركز، قال لنا بلهجة آمرة:

هل تريان ذلك الباب؟؟ أشار بيده الى صف طويل من الغرف، أي باب منهن؟؟ سأل صاحبي القروي..

هل أنت أعمى، صاح العسكري؟؟ ذلك الباب المفتوح هناك، قلم المركز، إذهبا وهم يتكفلون بكما..

كتمت ضحكة خبيثة في داخلي عندما شاهدت وجه صاحبي يمتقع من أول إهانة له، في خدمة ستكون حافلة بالاهانات، خدمة لا أحد يعرف مداها إلا الله.

سلمنا الأوراق وكُتب التجنيد، لعسكري القلم، حدق بصاحبي البدوي طويلاً، ثم سأله متهكماً:

كم عمرك؟؟ وأين كنت طيلة هذه السنين؟؟؟

عمري، لاأعرفه بالضبط ياعريفي، كانوا يُقدرون أعمارنا تقديراً..

وحسب تقديرهم، كم هو عمرك الآن؟؟

 إلتفت البدوي إلي وكأنه ينشد مساعدتي، لكن العريف لم يمهله فصاح:

ولك ياقشمر هنا مكتوب عمرك خمسة وعشرون عاماً، بالله هذا الشكل، يتناسب مع هذا العمر؟؟؟ ثم اين اختفيت كل هذه المدة؟؟

رد البدوي: لم أختبئ، لكننا نعيش في صحراء السماوة، قبل شهر داهمتنا دورية وقبضوا علي وعلى أخوتي وابناء عمومتي..

ماشاء الله، يعني فصيل كامل متخلف عن الخدمة؟؟ قال العريف..

إستوى قائماً ودفعنا نحو الباب، ثم أشار الى قاعة بعيدة وأمرنا بالذهاب هناك والإلتحاق بفصيل المتخلفين.

القاعة على مبعدة مائتي متر تقريباً، تفصلها ساحة عرضات شاسعة عن مكتب القلم، جلس خارجها قرابة الثمانين شخصاً، بأربعة طوابير، وعلى رأسهم يقف عريف التدريب، أوعز لبدر وكان هذا اسم صاحبي البدوي، أن يجلس في الصف الثاني من أول طابور، وأنا في الصف ماقبل الأخير من الطابور ذاته.

أيقنت في هذه اللحظة أن الأغلال أطبقت على رقبتي وكبلت روحي، لم يعد لديك الحق بتحريك يدك، أو رجلك، ليس من حقك أن تضحك أو تغني أو تبكي أو تصرخ، ألا بإذن العريف، ليس بوسعك أن تسافر الى عوالم الحلم والأخيلة التي كنت تحلق نحوها كلما أضناك الواقع الأليم.

أمطرنا العريف بمفردات الوطنية ومصطلحات العزة والكرامة، في محاضرة مملة وتافهة:

عليكم أن تعرفوا أنكم لم تعودوا في بيوت إبهاتكم ولاأحضان أمهاتكم اللواتي يدللنكم، أنتم هنا في معسكر يصنع الرجال الصناديد، رجال الحرب، ستسمعون وتنفذون،(نفّذ ثم ناقش) هذا شعار الجيش، لاتفتح فمك إلا بإذن، لاتأكل لاتشرب لالالالالالالا....

ثم صاح بأعلى صوته: هل فهمتم؟؟

صدرت دمدمات خفيضة وغير مفهومة هنا وهناك، ما أثار غضب العريف وإستياءه، أمرنا بالنهوض، فأستوينا قائمين ننفض عن ثيابنا ماعلق بها من غبار وطين، قال سأجعلكم تخوضون في الوحل هذا اليوم، ثم اشار الى تلة صغيرة على مبعدة مائتي متر تقريباً، قال ستركضون بأقصى سرعة، وتدورون حول تلك التلة، والمتخلفين الثلاثة الأخيرين، سيكون لهم حساباً آخر.

إنطلقنا بعد سماع الصافرة نحو التلة، لم ألحظ هذا العدد الهائل من الرجال عندما كنا جالسين، كرنفال عجيب من الأشكال والثياب والألوان، دشاديش، غتر، عقل، بناطيل، قمصان، نعل من كل الانواع، أحذية رياضية ولاستيكية، بدأ اللهاث والسعال يسمع من بعيد ونحن لم نصل بعد الى التلة اللعينة، صدرت صيحات أستياء، سباب، كفر ولعنات، ضحكات رعناء، تعثر البعض بثيابه، سقط آخرون فوق المتعثرين..

عُدنا بحالة يرثى لها، كان بدر البدوي ضمن الثلاثة المتأخرين، أشفقت عليه حينما شاهدت صلعته التي كان يسترها الشماغ، بدا أكبر من عمره بكثير، الأحساس بالأهانة يطفو على وجهه، أتقدت عيناه بلمعان غريب، ربما يفكرالآن بالأنعتاق من أسار هذا المكان الذي يخنق انفاسه، يحلم بصحرائهِ الرحبة، لا جدران ولا أسفلت ولا حديد،هناك حيث يمتد الأفق اللامتناهي.

حدقَّ العريف بهم طويلاً، لا أحد يعرف ماهو شكل العقوبة التي تنتظرهم، قال ستعاودون الركض حول التل، والمتخلف الأخير سيكون حسابه عسيراً، إنطلق إثنان من الثلاثة، وظل بدر جاثماً لايتزحزح من مكانه، صاح به العريف، هل سمعتني يارجل؟؟

نعم سمعتك، لكني المتخلف الأخير بلا شك، أردت أن أوفر عليك عناء الأنتظار، إنفجر الفصيل بالضحك، أرتبك العريف، لقد أجفله جواب بدر، لكنه سرعان ماتدارك الأمر فأطلق ضحكة عالية، وصاح بالأثنين الآخرين بالعودة الى الفصيل.

في المساء إستلمنا الملابس العسكرية، والبطانيات، توجهنا بخطى ثقيلة نحو مهاجعنا في القاعة الباردة، نجرجر عناء يوم طويل، يوم سَيحفرمكانه بالذاكرة، إنها الخطوة الأولى، في سباق الألف ميل.

السماء صافية، تكتظ بالنجوم، والقمر السخي يغدق دفقاً من ضيائه في غمرة العتمة، عتمة المكان والروح، هبت ريح خفيفة أسقطت ماتبقى من أوراق صفراء على أشجار الاوكالبتوس والسدر، كان العشب مبتلاً، فتشت ببصري على صخرة أو خشبة أو أي شيء إتخذه مقعداً، لكن دون جدوى، فالمكان خالٍ إلا من أوراق الشجر وأكياس النايلون التي جرفتها الريح..

سرت في جسدي برودة الليل، هدوء لذيذ يغلف المكان، تقطعه ضحكات تصدر من القاعات المكتظة بالبائسين، او نباح كلاب بعيد.

قرفصت قرب شجرة سدرٍكبيرة، أشعلت سيكارتي الأولى من العلبة الجديدة، بعيداً عن القاعة التي علت فيها الثرثرة، والشخير والبحث عن بيرية مفقودة أو فردة بسطال. لا أعرف كيف يتسنى للمرء أن يطبق جفنيه وينام في أول ليلة بعيداً عن بيته وأهله وأحبابه؟!

درت حول القاعة الكبيرة، أطل من نوافذها العارية من الزجاج بحثاً عن موضع أنام فيه، شاهدت بدر، كان متلفعاً بعبائته والبطانيات، سقط على وجهه ضوء المصباح، ربما يحلم الآن بخيمة الوبر، تحت السماء الصافية، هناك في مكان ما من هذا العالم..

لم أعد أتذكر أين ألقيت أغراضي بالضبط، فتشت في المكان، عثرت على حقيبتي وملابسي العسكرية التي لم أرتديها بعد، الحقيبة مفتوحة، سُرقت أرغفة خبز العروك، وكيس الكليجة، والثياب الداخلية، وشفرات الحلاقة، سُرق كل مافيها، قذفت الحقيبة بغضب، إرتميت جالساً على الأرض ورحت أدخن بهدوء، هذا أول درس، عليك أن تكون حذراً، لا تثق بأحد،

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم