صحيفة المثقف

الرُشد في خلافهم، مقولة ساهم الفقهاء في تعميقها اجتماعيّاً

لعلّ من أوضح المقولات التي ساهم فقهاء الشيعة في التعميق الاجتماعيّ الخاطئ لها هي مقولة: (الرشد في خلافهم)، وقد انعكس هذا الأمر على استدلالاتهم وبياناتهم وفتاواهم بشكل لا شعوري؛ بحيث لا يمكن للفقيه ـ مهما تحلّى بأفق رحيب ـ أن يدخل البحث وهو خال الوفاض من تربيته المذهبيّة المسبّقة التي يريد تصحيحها أو إبطالها بغض النظر عن ما يؤول إليه الدليل، وسنحاول في هذا المقال المتواضع الإشارة العابرة إلى مثال فقهي بسيط، يمتلك تأثيرات عميقة في واقعنا الشيعي المعاصر.

يذهب مشهور الإماميّة ـ على ما حُكي عنهم ـ إلى استحباب التفريق بين الصلاتين المشتركتين في الوقت كالظهرين والعشاءين، بمعنى: ينبغي على المكلّف إن لا يصلِّ العصر بعد إيقاعه صلاة الظهر مباشرة كما هو الحال في صلاة الشيعة في هذه الأعصار، بل عليه الانتظار ريثما يحلّ موعد فضيلة صلاة العصر الذي نصّت عليه الروايات ومن ثمّ يصلّيها، وقد وقع البحث بينهم بعد ذلك في المقدار المحقّق لهذا التفريق، فهل يتحقّق ذلك بمجرّد الإتيان بالنافلة والتسبيح مثلاً؟! أو يحتاج إلى فارق عرفيٍّ بيّنٍ كما هو الحال في أوقات صلاة العصر والعشاء عند أهل السنّة والجماعة؟!

لكن السيّد الخوئي ومدرسته لم تقبل هذا الاستحباب أصلاً، وحاول جاهداً مناقشة الأدلّة الّلفظيّة التي ساقها دعاة هذا القول بشكل وبآخر، ومع إغماض النظر عن البحوث التخصّصيّة التي تُثار حول جوهر الخلاف في هذا الموضوع وأسبابه وأدلّته وما ورائيّاته وتعارض الروايات فيه؛ لكن ما نريد تسليط الضوء عليه هو: ما نصطلح عليه: (عمليّة الفيترة الصناعيّة) في فهم الأدلّة ومناقشتها، والتي آلت بهم (قدّس الله أسرار الماضين منهم وحفظ الله الباقين) إلى تداول احتمال: (استحباب التعجيل والجمع)، لا أن ينكروا استحباب التفريق بين الصلاتين فقط.

قال السيّد الخوئي معلّقاً على مقولة استحباب التفريق بين الصلاتين:

«وأمّا الجمع بين الصلاتين بالاتّصال [أي إقامة العصر بعد الظهر دون فاصل] فالمنسوب إلى الشهرة: استحباب التفرقة بينهما...، والصحيح: أن الشهرة المدّعاة في المسألة ليس لها أساس، وأن استحباب التفرقة بين الصلاتين مما لا مُثبت له؛ فإن الأخبار المستدل بها على ذلك ـ بأجمعها ـ قابلة للمناقشة، من حيث الدلالة أو السند على وجه منع الخلو». مستند العروة: ج1، ص315.

ما يهمّنا التركيز عليه في هذا السطور العاجلة هو: إن هؤلاء الأعلام ـ أعني السيّد الخوئي وبعض طلّابه ـ وإن حاولوا الدفاع عن إنكارهم للاستحباب من خلال الإسقاط (الصناعي) لقيمة الروايات التي استدلّ بها المشهور على ذلك، وهو أمر دفعهم لتأوّلات كثيرة في فهم الروايات وفي دفعها عن ظهورها البيّن والواضح، إلّا أن انطلاقتهم لم تخلو من تأثيرات (لا شعوريّة) أساسها مقولة: (الرُشد في خلافهم)، فهم مأسورون سلفاً لفهم اجتماعي مذهبي خاطئ لهذه المقولة ـ وهم من ساهم في تأصيله وتأكيده بفتاواهم وبحوثهم ـ أجبرهم على لوي أعناق النصوص، ومحاولة فهمها فهماً فضائيّاً يبتعد بمسافات عن الصلاة كسلوك خارجي للرسول الأكرم وبنيه الأطهار (ع)؛ أقول ذلك: لأن قصّة التفريق بين الصلاتين المشتركتين في الوقت ليست ظاهرة استثنائيّة تحتاج إلى أدوات احتياطيّة لاكتشافها، ولا إلى تصحيح رواية أو توثيق أخرى، بل هي أوضح من نار على علم في سيرة النبيّ (ص) والأئمة (ع)، وقد رواها الخاصّة والعامّة، وهذا مؤشّر كاف لحكم مشهور فقهاء الطائفة بالاستحباب كما حكى ذلك الشهيد في الذكرى، مع ثبوت الرخصة في الجمع من باب التسهيل على الأمّة.

لا أريد أن أدخل في مناقشة مناقشات السيّد الخوئي للروايات التي احتمل دلالتها على استحباب التفريق، ولا أريد الخوض في أصل هذا البحث الذي تحكمه مجموعة سياقات (نفسيّة) معقّدة ساهم الفقهاء أنفسهم في توليدها، ساهموا في توليدها وترويض مقلّديهم عليها انسياقاً مع الطريقة الميكانيكيّة في فهم النصوص، وإغفالاً لمواقف الأئمة (ع) العمليّة التي جسّدت أروع صور التلاحم والتجانس مع الأمّة في أمثال هذه المناسك العباديّة، مع الحفاظ في نفس الوقت على الظروف الاستثنائيّة القاهرة التي حكمت ظروف الصادقين (ع)، والتي دعتهم إلى ممارسة خطابات متخالفة مع أبناء المذهب الواحد، أقول لا أريد الدخول في ذلك ولكنّي أودّ الاستفسار من السيّد الخوئي ومدرسته:

هل إن تفريق الرسول والأئمة (ع) (الدائم) بين صلاتهم لا يدلّ على استحباب هذا الفعل على أقل التقادير؟!

يبدو إن السيّد الخوئي ومدرسته لا تقرّ براجحيّة الفعل الصادر منهم (ع) دون أن ترافقه نصوص لتأكيده، وكأن المقياس الذي يُحتكم إليه في هذا المجال هو: نصوصهم الروائيّة المنقولة، وليس صلاتهم الخارجيّة طيلة العقدين والنصف، ولعمري: إن أفضل مناقشة وجدتها في تقريع هذا الّلون من المناقشات هو ما جاء في كلمات الشيخ مكارم الشيرازي في تعليقته على كلمات صاحب العروة الذي ذهب إلى كفاية مسمّى التفريق بين الصلاتين في تحقّق الاستحباب، فقال:

(التفريق والجمع هنا ليسا على ما يُفهم من معناهما لغةً حتّى يكفِ مسمّى التفريق، بل إشارة إلى ما كان متعارفاً في الخارج من لدن عصر النبي (ص) إلى أعصار أئمّة أهل البيت (ع) من فعل كلّ صلاة في وقتها الاستحبابي عندنا والوجوبي عند الجمهور، فلا يكفي مسمّى التفريق قطعاً؛ والعجب من الماتن والمحشّين ـ قدّس الله أسرارهم ـ كيف غفلوا عن ذلك مع ما فيه من الوضوح، لمن راجع الروايات المتضافرة الواردة في الباب، وما استقرّ عليه فعل النبي (ص) والأئمّة (ع) ولم يخرجوا عنه، إلّا نادراً لبيان التوسعة على الأمّة أو لبعض الأعذار)، العروة مع التعليقات: ج1، ص426.

والمحصّلة: إن البوصلة التي تحدّد مسار البحث الفقهي في أمثال هذه الأمور هو الواقع الاجتماعيّ المذهبي الحاكم شئنا أم أبينا، فمنه يُقفز إلى قراءة النصوص الروائيّة ومن ثمّ الاستنباط، مع أن ما تقتضيه الفقاهة هو العكس، الأمر الذي يستدعي من الفقيه أن يقرأ النصوص الروائيّة بمعزل عن الواقع الخارجيّ المحيط به، وأن يقرأها برفقة الواقع الخارجي الذي صدرت فيه، ليمارس بذلك وظيفته الربّانيّة العلميّة فيقرّر: صحّة الواقع الخارجي أو خطأه.

لنقرأ معاً نصّاً تاريخيّاً أقرّه الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد، وهو ينقل فعلاً مارسه الحسين بن علي (ع) وهو في سفر الشهادة إلى كربلاء، قال:

(فلم يزل الحرّ مواقفاً للحسين (ع) حتّى حضرت صلاة الظهر، وأمر الحسين (ع) الحجاج بن مسرور أن يؤذن، فلما حضرت الإقامة خرج الحسين (ع) في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال... فقال للمؤذن : (أقم) فأقام الصلاة فقال للحرّ: أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا ، بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين بن علي (ع)، ثمّ دخل فاجتمع إليه أصحابه وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان فيه، فدخل خيمة قد ضربت له واجتمع إليه جماعة من أصحابه، وعاد الباقون إلى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه ، ثمّ أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلها.

فلما كان وقت العصر أمر الحسين بن علي (ع) يتهيؤوا للرحيل ففعلوا ، ثم أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فاستقام الحسين (ع) فصلّى بالقوم ثم سلّم وانصرف إليهم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال...) ج2، ص78ـ79.

هذا هو الحسين بن علي (ع) يفرّق بين صلاة الظهر والعصر وهو في حالة سفر، مع أن المفروض كما هي فتاوى الفقهاء الشيعة إن عليه الجمع؛ حيث لا نافلة في السفر أصلاً.

وأخيراً: لا يسعني إلا أن أسأل الشيخ مكارم الشيرازي المؤمن باستحباب التفريق: إذا كان التفريق عملاً متعارفاً و (مستحباً) في عصر النبي والأئمة (ع) كما قرّرتم... فلماذا لم نر أحداً من مراجع الشيعة المعاصرين عمل بهذا الأمر المتعارف والرائج والمستحب، وفرّق بين صلاته؛ ليحتذي به مقلّدوه ويصلّوا وراءه في خمسة أوقات لا ثلاثة؟!

كلّ هذا الواقع العملي يؤكّد على أن الفقهاء يتحمّلون الجزء الأكبر في تعميق الفهم الخاطئ لمقولة: (الرشد في خلافهم)؛ فرغم حكم مشهورهم باستحباب التفريق، لكنّهم يمارسون خلاف ذلك عمليّاً.

 

ميثاق العسر.

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم