صحيفة المثقف

هل الجهر بالبسملة من علامات الإيمان؟!

في سياق ما طرحته سابقاً في موضوع: التعميق الاجتماعي الخاطئ لمقولة: (الرُشد في خلافهم) أضع اليوم بين يدي القارئ الكريم مثالاً فقهيّاً آخر نلحظ آثاره بوضوح في صلواتنا اليوميّة؛ فالمعروف بين الشيعة الإماميّة إن الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) بمعنى أعلاء الصوت فيها أمرٌ محبّذ في الصلاة وإنّه من علامات الإيمان، وقد غدا هذا الأمر عندهم أشبه بالجزء الواجب على غرار القنوت في الركعة الثانية، القنوت الذي لم يذهب إلى وجوبه أحدٌ من الفقهاء أصلاً، ولكن لا تجد شيعيّاً يترك ذلك في العادة، بل عدّوه شعاراً للشيعة كما صرّح جملة من الفقهاء.

لكن ما هو الأساس الفقهيّ الذي دفع الشيعة إلى الجهر بالبسملة في صلاتي الظهرين، مع أن الحكم فيهما وجوب الإخفات كما لا يخفى؟!

وجواب ذلك: ذهب المشهور من فقهاء الإماميّة إلى استحباب الجهر بالبسملة في أثناء قراءة الحمد والسورة في صلاة الظهر والعصر، وذهب نفرٌ منهم إلى الوجوب؛ استناداً إلى ما استظهروه من بعض النصوص الروائيّة.

لكنّنا اليوم سنتناول رأياً ثالثاً في هذه المسألة، رأياً يلقي بظلاله على الفكرة التي ما زلنا نطرح الشواهد عليها؛ بغية تعزيزها، وإعادة إحكام بعض القناعات فيها، أعني بها: إسهام الفقهاء في التعميق الاجتماعيّ الخاطئ لمقولة: (الرُشد في خلافهم)، وهو أمرٌ ساهم ويساهم في تعميق هوّة الخلاف مع الطرف الأخر، وتجذير روح التطرّف والانقسام في جسد الأمّة الواحدة.

بيان ذلك: حُكي عن ابن الجُنيد إنكار استحباب الجهر بالبسملة في الصلاة الإخفاتيّة، وخصّ ذلك بإمام الجماعة فقط، بمعنى: إن من يُصلّي فرادى فلا يجوز له الجهر بها أصلاً وعليه الإخفات، وقد تابعه على ذلك جملة من الفقهاء المعاصرين وفي طليعتهم أستاذ السيّد السيستاني: المرحوم السيّد البروجردي، أحد زعماء الطائفة الشيعيّة ومراجعها الكبار في أوّاسط القرن المنصرم.

لقد ناقش البروجردي جميع الروايات التي استدّل بها مشهور الفقهاء على الاستحباب أو الوجوب، ورأى أنّها جميعاً إمّا أن تكون:

ناظرة إلى فتوى أكثر أهل العامّة أو كلّهم ـ كما يُعبّر ـ من: عدم وجوب الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة الجهريّة على التفصيل المطروح بينهم في جزئيّتها أو لا، فلهذا جاءت (بعض) هذه النصوص الروائيّة للتأكيد على هذا الموضوع فقط، وإن الجهر بالبسملة واجب في الصلاة الجهريّة، وبالتالي بطلان قول أهل السنّة والجماعة من عدم وجوب الجهر بها أصلاً، لا أنّها بصدد الإشارة إلى ضرورة الجهر بالبسملة في الصلاة الإخفاتيّة.

وإمّا أن تكون هذه الروايات: مشيرة إلى فعل صامت صدر عن الإمام المعصوم (ع) باعتباره إمام جماعة، ومثل هذا الفعل الصامت لا يمكن تسريته إلى عموم المكلّفين في صلواتهم العاديّة، بل يختص بإمام الجماعة فقط.

لا أريد أن أدخل في تماميّة استظهارات السيّد البروجردي للروايات ولا في مناقشات الفقهاء لما حُكي عن ابن الجُنيد؛ ولا أريد الدخول في تفاصيل هذه المسألة وشمول حكم الاستحباب أو الوجوب فيها إلى الركعتين الأخيرتين لمن أختار القراءة؛ فلا شكّ في أن مثل هذه البحوث لا ينبغي طرحها هنا، لكنّ ما أردنا استفادته من خلال هذا المثال هو وضع المتابع بالصورة العامّة التي تنطلق منها هذه الأحكام، وتأثيرات السياقات السنيّة في فهم بعضها وفي التمسّك بها والإصرار عليها، وإن الفهم الصحيح لها لن يتسنّ دون قراءة بعيدة عن التأثيرات المذهبيّة الشديدة والضاغطة، خصوصاً إذا ما عرفنا إن الذي حدا بالبروجردي لاختيار هذا الفهم من الروايات هو المنهج الذي ينطلق منه في عمليّة الاستنباط، والقاضي بضرورة قراءة النصوص الروائيّة في سياق الجو الفقهي العامّ لأهل السنّة والجماعة؛ إذ سيُعطي هذا الأمر للباحث صورة أشمل وأكمل لفهمها، وموضعتها في إطارها السليم.

ومن هنا فربّما يذهب بعضهم إلى ضرورة الاحتياط في هذه المسألة بترك الجهر بالبسملة في الصلاة الإخفاتيّة؛ وذلك لأن الأمر فيها من قبيل دوران الأمر بين الاستحباب والحرمة مع تضاءل احتمال الوجوب، ولا شكّ في أن براءة الذمّة بمعناها الحقيقيّ تتحقّق بترك الجهر بها، أضف إلى ذلك ـ وهذا شاهد ومؤيّد لضرورة الاحتياط بالترك ـ : إن أغلب الفقهاء المعاصرين يحتاطون في ضرورة ترك الجهر بالبسملة في الركعتين الأخيرتين لمن أختار الفاتحة بدل التسبيح، وهذا خير كاشف على أن ما لحظته النصوص الروائيّة شيء آخر، لا ما فهمه عموم المشهور من ذلك.

وأخيراً أجد من الواجب التنويه إلى: أن كثيراً من طلّاب البروجردي تابعوه في إنكار الاستحباب واختصاصه بإمام الجماعة فقط، كالشيخ المنتظري والّلنكراني ومكارم الشيرازي.

 

میثاق العسر

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم