صحيفة المثقف

البحث عن الحرية في رواية " قلب اللقلق" للروائي العراقي زهير الجبوري.

805-rwayaرواية "قلب اللقلق" هي رواية البحث عن الحرية، الاختيار وفعل ارداة الفرد من خلال تقاطعات انسانية معقدة ولدتها سياقات اجتماعية واقتصادية وسياسية في فترة خاصة من تاريخ العراق السياسي والاجتماعي (في نهاية الحكم العثماني ووصول الانكليز لاحتلال العراق). وهي رواية، رغم انشغالها باستعادة وتذكر التاريخ والحفر فيه والاستفادة من مادته، الا انها لا تعيش في ابتهاجاته او انكساراته النكوصية، بل تجعل من التاريخ اطارا لاضاءة صراعات الناس العاديين الحيّة آنئذ، وهم يواجهون شروطهم الانسانية الوجودية. كما انها رواية تكشف عن معرفة جغرافية عميقة للاحداث، بحيث تضيف بعدا جماليا وفكريا واقعيا ومتخيلا لبنية الرواية وتضفي على سرديتها غنى أضافيا.

 

بين الذكرى والتكرار:

805-rwayaأولى المفكر الوجودي الدانماركي سورن كيركگورد مفهوم "التكرار" اهمية خاصة في الادب والفكر والحياة. وقارن بين هذا المفهوم الذي نحته بنفسه وبين مفهوم آخر هو " الذكرى" الذي كان يستخدمه الفلاسفة الاغريق في عصرهم. يطرح كيركگورد سؤالا في مستهل كتابه " تكرار" : "فيما اذا كان التكرار ممكنا." (1)

وحسب رأيه و ما يستخلصه من تجربته الخاصة، فانّ مسألة التكرار ممكنة و "ستلعب دورا مهما في الفلسفة الحديثة لان التكرار هو تعبير حاسم لما كانت تعنيه " الذكرى" بالنسبة للاغريق. فكما علّموا ان كلّ معرفة هي تذكّر، تعلم الفلسفة الحديثة كذلك ان الحياة هي تكرار." ومن هنا يمكن القول، ان ما يميز مفهومي الذكرى و التكرار، ان الاول يتعلق بامر تجريدي، اما الثاني فانه حياتي، ملموس.

اضافة الى ذلك يميز كيركگورد بين المفهومين ويقول ان " التكرار، والذكرى لهما نفس الحركة، لكن في اتجاهات معاكسة، لان ما تم تذكره كان موجودا مسبقا و هو على هذا النحو يتكرر من الماضي بينما التكرار الاصلي هو تذكر نحو المستقبل." (2)

أستخدم مفهوم "التكرار" الكيركگوردي لا في حقل الفلسفة فحسب، بل تعداه ليشمل، في العقود الاخيرة، حقل النقد الادبي ايضا.

انطلاقا مما سبق، يمكن القول ان رواية " قلب اللقلق" الصادرة عن دار فضاءات - عمان، عام 2011، للروائي العراقي زهير الجبوري، هي رواية تتأرجح بين الذكرى والتكرار، وهما يكملان بعضهما على مدى مشاهد الرواية. فالتكرار استعادة اصيلة للانطلاق نحو الحاضر والمستقبل، أي، انها لم تكن مجرد تذكّر لمشاهد التاريخ واحداثه، بل تمثله من خلال العيش فيه وممارسته والاحساس به راهنا، ولهذا فان اهمية استخدام فكرة التكرار في رواية" قلب اللقلق" تنبع من قدرة الراوئي الجبوري على التعاطي مع احداث وثيمات واشخاص لا تنقطع في أتون الماضي وتنتهي عنده فحسب، بل لها تماهيات تمتد في الحاضر، بحيث تحفز القاريء على البحث في وجوده الراهن عمّا يماثلها من شخصيات ومواقف وسلوكيات في ذلك الماضي. انها رواية تستعيد التاريخ وتكرره من اجل فهم الحاضر والنظر الى افق المستقبل، وهي على هذا النحو تنفتح وتنشغل في البحث عن الحرية.

بنية و ثيمة الرواية:

تقع الرواية في اربعة فصول، و تدور احداثها بين الكاظمية والبصرة على مدى اشهر؛ بين نوفمبر وآذار. الفصل الاول، وهو الاطول، يرسم لنا بالتفصيل حياة "اللقلق" الذي "ارتبط اسمه بوجود ذلك الطائر الذي قذف في روحه ما يمكن تسميته بالتوهج دافعا إياه ليكون عاشقا للحياة والحرية" (الرواية، ص. 16)؛ شخصية مرحة، ذكية، ساخرة، محبوبة، له القدرة على كسب الاصدقاء، الا ان له اعداء ايضا. هو ليس مؤمنا او كافرا، ويرى ان هذا الامر يخصه وحده (الرواية، ص.29). حتى انه كان يستنكر إلحاح الآخرين على اقرار الفضيلة. لم ير أمه منذ أن كان عمره ستة اعوام، حيث عُزل عنها في بيت عمه بسبب مرضها، وماتت بمرض السل و "لم يعد يتذكر منها الا تلك الصور الباهتة لوجهها المدور الابيض وعينيها الواسعتين وهما يذبلان على سرير خشبي" (الرواية، ص.73). له القدرة على تعلم اللغات؛ يتحدث العربية والتركية والفارسية. يتابع الاحداث السياسية ويقرأ الصحف، و بعض القصص فيها. وهو علاوة على ذلك شخصية بوهيمية، تتماهى في وجودها مع طائر اللقلق تعبيرا عن هذه البوهيمية والتطلع نحو الحرية. لا نعرف الكثير عن خلفية "اللقلق". فهو يشكك بنفسه باصوله ويطرح سؤالا عن جذوره العائلية :" عائلتي هل كانت مسلمة؟ ويشك بصلة القرابة بعمه ذي اللحية الطويلة الذي كان يتحدث الفارسية " (الرواية، ص.23). لم تكن سنوات صباه منعمة، فقد انتقل بعد موت عمه الى السكن فى خان التمر وينام فيه، " في تلك الغرفة الجانبية التي تنبعث منها رائحة بول الجرذان، ساعات عمل كانت تنهك عضلاتي الصغيرة الى الحد الذي يجعلني منقادا الى النوم بلا عشاء" (الرواية،ص. 24)، حتى يستقر في غرفة طينية في بيت ذي طابقين يقع في باب المارد- الكاظمية، يتكون من "عشر غرف. ست منها في الطابق الثاني، احتفظ صاحبه بغرفة واسعة له تقابل غرفة اللقلق تماما" (الرواية، ص 25). كان سكان الدار العزاب من اصحاب الحرف، العمال المهاجرين من مناطق الفرات والجنوب وبعض الايرانيين " (الرواية، ص. 25)، الذي كان يشهد صخبا ومشاجرات ولقاءات حميمية ايضا خاصة في ايام الصيف. عاش متنقلا بعد ذلك في اعمال مختلفة؛ حمالا في خان التمر، و عمل في دكان لصناعة الامشاط وبيعها، ودلالا لبيع السمك في العشار، وحمالا عند تاجر حبوب هندي في المعقل، حتى ينتهي به الامر للعمل في ملهى يملكه ارمني في مدينة البصرة، الذي يتسبب في نقله الى مخفر صحرواي على اطراف الزبير، على خلفية مشهد تمثيلي يهين فيه ضابطا انكليزيا، على عكس رغبة صاحب الملهى الذي طالبه " ان تضحك الزبائن بطريقة لا تثير انزعاج احد خاصة الانكليز" (الرواية، ص.161)، وبسبب اشتداد مرضه ينهار بعد ثلاثة ايام من الاعمال الشاقة فيطلقون سراحه برفقة عباس ابو العبد.

تتمحور حول شخصية " اللقلق" الشخصيات الاخرى في الرواية و تنمو الاحداث منها وخلالها ؛ تاج الدين النداف الذي اشترى منه اللحاف، سيد مرتضى ابو الطرشي في جادة باب المراد، جواد الخباز الذي يقع مخبزه في الجهة الشمالية من المرقد، الريفيات بائعات القيمر المنتشرات في ساحة المرقد، شيخ عباس النجفي في جامع براثا، مديحة الخياطة، العاهرات، أحمد بلبل مطرب المقامات، كامل الحواف، دانيال،عباس الكليدار، العمال المتوجهين الى اعمالهم في السوق الموجودة في الجنوب الشرقي للباب القبلاني او لسوق الاستربادي او في المحلات المنتشرة على طول جادة باب المارد، عبود المطيرجي صاحب محل لبيع الطيور والدجاج، شكرية بنت حيدر النجار التي استنكرت فقر "اللقلق" ورغبته اليها فهي كانت تبحث عن رجل غني ومتدين، كما قالت له. (الرواية، ص.20)، وهذا الرجل الغني، هو مظفر القصاب. نطلع ايضا على الرجل الفرنسي الذي التقاه صدفة في مقهى عزاوي، واهداه لوحة اللقلق ذات الالوان الباهتة، الشاب الاصفهاني الذي تكومت جثته الضخمة في باحة الدار بعد ان سقط من الشرفة، جاره الهندي الذي كان يلح عليه باسئلة مزعجة مما اضطره الى الانتقال الى غرفة اخرى في الطابق الاول، الراقصة الحلبية "جرادة" التي تصبح حبيبته، عباس ابو العبد الذي يلتقيه ويعمل معه في البصرة.

بعض هذه الشخصيات يكون وجودها عارضا وتختفي آن ظهورها، لكن بعض الشخصيات الاخرى تعاود الظهور في فترات اخرى او تواجه مصيرا آخر؛ سيد مرتضى يتحول اثناء الحرب الى "لقلق" آخر ويحكم عليه بالاعدام، لانه يتهكم ويتهجم على حكومة السلطان وحربها، عبود المطيرجي يعود من الحرب وقد بترت قدمه اليمنى بعد ان قبض عليه في النجف التي "لم تحميه بعد الاختفاء بها فهناك من كان ايضا يقوم بوظيفة المخبر من اجل جهاد الحكومة" (الرواية، ص. 157)، اما حبيبته الراقصة "جرادة" فتموت بمرض السل.

اما الفصول الثلاثة الاخرى، وهي قصيرة بعض الشيء مقارنة بالفصل الاول، فيوظفها لوصف اجواء الاعداد للحرب مع الانكليز، هروبه من الجندية، الراقصة "جراده"، ثم تجنيده بعد القبض عليه ونقله الى البصرة مع الانكشارية العثمانية على ظهر سفينة وهروبه ثانية . تختتم الرواية بمشهد ينفتح على تأويلات متنوعة، إذ ينظر عباس ابو العبد الذي يلتقي "اللقلق" في البصرة ويرافقه في ساعاته الاخيرة، " وهو يشاهد الطائر الابيض الذي يرتفع كسهم ابيض يشق السماء الزرقاء بجناحين ينفردان يسبقهما عنق طويل في نهايته رأس صغير بمنقار احمر يتجه الى الشمال" (الرواية، ص.176).ويمكن ان ينطوي واحد من هذه التأويلات على مغزى العودة الى فضاء الحرية متمثلا في طيران " اللقلق" نحو السماء وتحرره من أسر العذابات الحياتية.

لا يكتفي الكاتب الجبوري بهذه الحيوات الانسانية، بل يرفقها بوصف شيق مع اشياء و مخلوقات اخرى في لوحات سردية متناسقة؛ الكلاب والطيور و عربات الخضار، الخراف وصهيل خيول وحتى "نداءات عالية لا يمكن التكهن بما تحمله من معنى" (الرواية، ص. 13)، تكبيرات وأدعية، ثم الطبيعة حيث الامطار التي تنبأ بقدوم فيضان دجلة الذي يغرق قسما من بغداد، مضيفا لصورة كارثة الحرب بعدا وجوديا مأساويا آخر،الذي كان يترك "مظاهر الاسى المرافقة لعدة خسائر في الممتلكات والحيوانات النافقة، البساتين والبيوت، غير ان اكثر النتائج المؤثرة، ذلك الانين الذي يجهتد بتعبيرات الفقد التي ترافق مجالس العزاء بعد كل كارثة" (الرواية، ص.11)، في مسعى للاقتراب من وصف ملموس للمشاهد ونقلنا الى واقع الحياة اليومية آنذاك. لكن تلك المآىسي والكوارث الانسانية والطبيعية التي لحقت بالناس تولد الصورة المعارضة لها ؛ حيث يأتي الرد الشعبي العفوي على شكل شتيمة : الوالي راح يفتر باجر بالكاظمية؟

- يمعود لا هله ولا مرحبا . ص11

ترافقها تعليقات متهكمة تعكس امتعاض الناس ورفضهم لاوضاع مرتبكة تضيع فيها الحقائق، فتتحول تلك الحكايات الشعبية الى صحف اخبار متنقلة تبث الاخبار عن كل شاردة وواردة، دون ان ينسى المؤلف ذكر المواقف التي تعاضد العثمانيين في حربهم تارة تحت ذريعة الجهاد واخرى انطلاقا من المصالح والمنافع الذاتية.

ينجح المشهد الافتتاحي البانورامي للرواية بصوت الراوي- المؤلف " دقت ساعة المرقد الكاظمي، فتردد صدى اجراسها العظيمة في الفضاء للاسواق مرتطما بابواب (دكاكينها) الخشبية المغلقة، ثم دقت مرة ثانية كأن حصى ثقيلة شقت بحيرة الفجر الساكنة فتكونت دوائر صوتية اندفعت من مركزها مثل نداء طويل سرى في كل الجهات، كان مسنودا بريح خفيفة هي واحدة من علامات خريف ذلك العام الذي تساقطت فيه اوراق الامل ولم يبق شيء سوى انتظار حذر كعيون (الزرازير) لوصول الحرب القادمة" (الرواية .ص.5 )، بشد فضول القاريء منذ البداية لمواصلة الغور في معالم النص واحداثه؛ مستخدما دلالات لغوية؛ دقات اجراس المرقد العظيمة، الدكاكين المغلقة، البحيرة الساكنة، النداء الطويل في كل الجهات، الخريف، الانتظار الحذر. هذا التلاحم بين المكان، الصوت، الحركة، الزمن، لرسم صورة الحدث القادم : الحرب. انه يصف حياة صاخبة حيّة في طريقها الى التلاشي والانكماش. هذه الساعة ودقاتها الازلية تتحول الى عنصر اساس في حياة الناس وايامهم " كان يتخيل احيانا انه لولا هذه الساعة ستضطرب الكاظمية كلها" (الرواية، ص.14)، انها رمز للايقاظ والحثّ في آن واحد على بعث الحياة من سباتها، واشارة على تلازم الحركة مع فعل الارادة والحرية.

 

البحث عن الحرية :

في ظل هذه الاجواء تتطور الرواية. لكنها ليست عن الحرب بين العثمانيين والانكليز رغم ان ثيمة الحرب تشكل خلفية لاحداث النص، بل تجري بموازاتها. انها نزوع الانسان الدائم نحو الحرية وما يعانية من تناقضات وحالات فزع ومعاناة في اختيار هذه الحرية التي تحدث عنها سورن كيركگورد في كتابه المهم " مفهوم الفزع" (3). وهكذا نرى ان " اللقلق" يستيقظ في سياق هذه الاحداث الديناميكة : "رفيف عظيم لطائر ابيض" (الرواية، ص.13). فقد وجد في هذا الطائر وفي هجراته وتنقلاته صورة للحرية والبحث عن اختيارات الانفكاك من اسر المحدود والقائم. حتى انه راح يقلده مثلا في طريقة "الوقوف على قدم واحدة، واستحضارا دائما لروح هذا الكائن الحر المستعد دائما للطيران" (الرواية، ص.16).

في كل هذه الاجواء والعلاقات الانسانية تنكشف رويدا ريدا شخصية "اللقلق" ومواقفه وسلوكياته، عبر صراعات انسانية وحياتية، حيث نراه يعيش اضطراب وصراع و حالة لا استقرار وبحث دائم عن شيء غير مفهوم او واضح، يولد لديه الخوف احيانا و التردد والعجز أو الاندفاع الى المغامرة احيانا اخرى. يرفض الانصياع للتجنيد في حرب لا تعنيه، فيختار الهروب لكنه يقع في قبضة الجنود العثمانيين بعد ان يغادر حبيبته الراقصة "جرادة"، مريضة بداء السل وهي تواجه الموت، حيث تقضي نحبها في ما بعد وحيدة" لم يكن في جنازتها غير دانيال وحوذي العربة التي نقلت جثمانها." (الرواية، ص.152)، و يساق الى جبهة الحرب لمواجهة الانكليز في البصرة على ظهر باخرة لنقل الجنود، التي يصلها بعد ستة ايام عصيبة. تبقى فكرة الحرية تراوده، الا ان اشتداد مرض السل عليه يضعه امام عجز كاد يجعله يذعن للامر الواقع، لولا روح "اللقلق" الكامنة فيه، التي توقظ فيه حنينا دائما الى الحرية والانعتاق والمواجهة. فحتى شعوره بانه بفعل الرضوخ تحول الى " نعجة، لم يقوده الى الاستسلام الى فكرة عدم الطيران، الهروب ونيل الحرية (الرواية، ص.128). اننا اذن امام انسان عادي من لحم ودم، بضعفه وقوته، رغم انه يتماهى مع طائر اللقلق، فهو ليس سوبرمانا، بل مخلوقا حساسا يبحث عن آدميته، يكره الاذعان ويمقت الظلم واللاحقيقة.

 

استعادة التاريخ :

لا تتعامل الرواية مع الحدث التاريخي الا باعتباره مادة وعنصرا لاضاءة موضوعات الرواية التي يمثل موضوعها الاول الحرية برمز الشخصية الرئيسية في الرواية؛ "اللقلق" وروحه المضطربة. ويمكن القول انها الشخصية التي يتسلل عبرها الكاتب ذاته ليعبر احيانا عبر لغة مكثفة شعرية ذات منحى فلسفي وفكري عال عن تصوراته الخاصة بقضايا الحرب ومواقف الناس المتنوعة اتجاهها. وقد تجلت فكرة "التكرار" التي يتحدث عنها كيرككورد عند "اللقلق" في مواقف معينة؛ في تذكر حبيبته "جرادة"، او حينما يشتد حنينه في البصرة الى ماضي ايامه، يستذكراحمد بلبل ومقاماته فيندفع بالغناء، كأنما يسعى لتحرير روحه المنسحقة بفعل الاغتراب والمرض لتحقيق حريته : " اشتاقيت للكاظم، وللساعة، ولجرادة وسيد مرتضى ومقهى عزاوي" (الرواية،ص.171)، كما يضيء حنينه الى "جرادة" بعض السمات الانسانية فيه. انه اشتياق للماضي وتكرار لعواطف وتاريخ قائم في روحه، تعوضه عن خسائر يعيشها وتطمئن روحه المضطربة و تحفزه للتمسك بالحرية واختيارها.

 

لغة السرد في النص:

يكشف زهير الجبوري عن قدرات متنوعة فهو يستخدم تقنيات عديدة محسوبة سلفا لاثارة فضول القاريء والامساك به: انه يستخدم رموزا تحيل الى دلالات ذات قيمة فنية وفكرية : دقات الساعة في الكاظمية، 21 آذار، خصوصية أسماء الشخصيات في الرواية. ناهيك عن امتلاكه معرفة عميقة بجغرافية المكان وتفاصيله، حيث يقدم لنا وصفا دقيقا للامكنة التي تحدث فيها مشاهد الرواية: جغرافية بغداد في نهاية الحكم العثماني (الرواية،ص.5-6،وص.34-35)، ومسح مكاني عند وصول "اللقلق" الى القرنة والبصرة، بحيث يقترن المكان الملوس بالمعنى الذي يوظفه في فضاء النص، لما للمكان من اهمية في اثراء المحتوى الادبي والفكري للثيمة الرئيسية في الرواية، وهي الحرية، حيث نرى وصف لفضاءات مكانية عديدة ومتنوعة مفتوحة على مداها كأنها تساهم في اغراء " اللقلق" على التطلع الى هذه الحرية. وهذا التأكيد على العلاقة الحميمة بالمكان هو ايضا تعبير عن " الهاجس الخفي السحري الذي يشد الانسان اليه بمجموعة من القيم النفسية والغرائزية." (4). الى جانب ذلك استخدامه للغة سردية تقترب من لغة السرد التي استخدمها ما يسمى "تيار الوعي" في الادب القصصي والروائي، الذي ظهر منذ ستينات القرن الماضي، وكاد يطغي لفترة على كل منظومات السرد الروائي، بما امتاز به من جمالية سردية تحتاج الى رائي لديه القدرة على ضبط السلاسة اللغوية ودروبها المتشعبة سواء في الوصف او الحوار او طرح الأسئلة عبر الحدث والصورة والرمز والشخصيات .اضافة الى ذلك فانه استخدم "التهكم" لكي يضفي شيئا من الاقناع على النقد الذي يوجهه " اللقلق" الى محيطه، وبالتالي يكشف لنا مستوى وعيه من خلاله.

 

اشكالية التفاوت بين وعي شخصية النص ولغته:

استخدم الروائي الجبوري اللهجة العامية في الحوارات باقتصاد شديد. وهي لهجة تقترب من اللغة الفصحى، ويبدو انه مسعى، من جهة، لإضفاء مسحة واقعية تساعد في كشف خلفية و طبيعة الحيوات البشرية التي تتحدث هذه اللغة، وتبعد عنها لغة نخبوية مقحمة في متن النص، ومن جهة اخرى، تفاديا لاغراق النص بلغة حوار تضعف من سردية النص الشعرية العامة. يمكن للقاريء ان يلاحظ وجود صوتين متوازيين في الرواية؛ احدهما صوت المؤلف والثانية هي الشخصية الرئيسية "اللقلق". وهما صوتان متلازمان ويتبادلان الادوار على امتداد الرواية (الرواية،ص.17،27،ص 28،38،56،66،75،88،165). هذا يقودنا الى طرح سؤال ملح على انفسنا: كيف يتم الموازنة بين الصياغات الفلسفية التي تتطلبها ثيمة الرواية التي تتمحور على قضية فلسفية وفكرية عموما كالحرية، مثلما يمكن ملاحظتها، على امتداد النص، واللهجة العامية، التي نطقت بها بعض شخصيات الرواية كاللقلق مثلا، دون الوقوع في شراك الانحياز الى هذا الشكل من التعبير او ذاك، مما يخلق خللا يترك ظلاله الى حد ما على بنية السرد؟ و الى أي مدى يكون هذا الانحياز والاختيار للغة السرد مقنعا جماليا بما فيه الكفاية؟

لا شك ان الروائي الجبوري سعى، بالتفاتة ذكية، الى منح "اللقلق" بعض الصفات البوهيمية والمتعلمة، باعتباره يقرأ الصحف ويتابع السياسة، وله قدرات اخرى كمعرفة لغات وتقليد الناس والملكة النقدية وغيرها، للتخفيف من ضرر هذه الهوة بين استخدام لغة الكلام الشعبي في الحوارات وبين الافكار التجريدية التي يطرحها " اللقلق" في منولوجاته المنبثة على امتداد النص، والتي يبرز فيها صوت الراوي- المؤلف واضحا رغبة منه، على ما يبدو، في تطعيم افكار الشخصية الرئيسية بهذه الافكار. لكن المؤلف بالرغم من هذا الحذر الذي يحسب له، لم يتمكن من تسوية هذا الامرتماما، للحفاظ على هذا التوازن الصعب، إذ يهيمن صوت الرائي- المؤلف في بعض مواضع النص، بطرح افكار في لغة سردية تجريدية لا تتناسب، بتقديري، مع وعي الشخصية " اللقلق"، وهذا التفاوت ربما يدهش القاريء بأحقية الكاتب لفعل ذلك، وفيما اذا كان هذا الامر يؤدي الى تغييب حقيقة وإصالة الشخصية الرئيسية "اللقلق"، وتغريبها عبر تحميلها افكار تبدو نابعة من وتتطابق مع المستوى الفكري والثقافي للمؤلف!!.

ولكي اكون اكثر ملموسية اشير الى المثالين التاليين، الاول هو " لا يتملكني ذلك الاحساس الذي تتوفر فيه امكانية ان انشطب كوجود بهذه الطريقة الغبية " (الرواية، ص.17). اما المثال الآخر فهو حين يوضح "اللقلق" سبب عدم مشاركته في جنازة الاصفهاني" انه يكره الطقوس التي تحاول تأكيد صورة الفقد (...) يفكر بضرورة عرقلة اكتمال فكرة الموت، كان يقول : ان الحرص على نسيان الحوادث بعدم المشاركة برسم صورتها النهائية، يجعل الموت صورة ناقصة لن تكتمل ابدا" (الرواية، ص.27). حيث نلمس التفاوت بين وعي " اللقلق" والمستوى الفكري للغته.

يمكن القول ان هذه واحدة من الاشكالات التي تعاني منها العديد من الروايات والسرد في العراق، حيث تطغي افكار المؤلف احيانا عبر تشكيل صياغات تفضي الى تشويه الطبيعة الحقيقية للشخصيات الناطقة بتلك التعابير، مما يساهم برسم صورة غير واقعية، او مثلومة أوغير اصيلة، جماليا عنها. ان هذا الالحاح على ابراز هذه الصياغات قد يكون منبعه نزوع الروائي الى ضرورة ايقاظ فضول فكري لدى القاريء. وهو امر يمكن تبريره الى حد ما، لكنه يحتاج الى عملية ضبط وتوازن دقيق بين طبيعة الشخصية، الحدث، المكان وشرطه التاريخي، وما تطرحه من آراء لكي تكون اكثر اقناعا، لا للقاريء فحسب، بل ضمن سياقها الادبي والفكري ايضا.

 

الخاتمة

رواية "قلب اللقلق" هي رواية تمزج الخيال بالواقع، المتأمل بالحقيقي، الحلم بالملموس، استخدمت " التكرار" الذي تحدث عنه كيركگورد، للبحث عن الحرية والمستقبل، اتخذت من احداث الماضي لتضيء احوالنا الراهنة وتستفز وعينا كأنها تطرح سؤالا : مالذي تغيّر في العراق بعد كل هذه العقود؟

ويمكن القول انها رواية تمكنت، من وجهة نظري، من تحقيق انجاز أدبي راقٍ، يساهم في تعزيز مسيرة الرواية العراقية، وتحسب خطوة متقدمة باتجاه ولادة اعمال ادبية ذات مستوى عالٍ، وهذا يجعلنا نتطلع مستقبلا الى النتاج الادبي القادم، لما يمتلكه الروائي زهير الجبوري من قدرات لغوية وفكرية وجمالية كبيرة في صياغة الاحداث و عرضها ادبيا.

 

 

قحطان جاسم

.........................

هامش: كل الاستشهادات المحصورة بين قوسين المشار اليها في المقالة مأخوذة من الرواية. زهير الجبوري، قلب اللقلق، عمان، دار فضاءات، 2011

 

....................

المصادر:

1+2) Søren Kirekegaard ، Samlede værker ، København، Gyldendalske Boghandels forlag، 1901، bind. 3، p. 173

3) Søren Kierkegaard، Samlede værker :Begrebet Angest- En Simpel Psychologisk- Overvejlser i retning af det dogmatiske problem om arvesynden، København،، Gyldendalske Boghandels forlag، n.d. ، bind، 4.

4) شريبط أحمد شريبط، الفضاء، المصطلح والاشكاليات الجمالية، المدى، نيقوسيا، دمشق: شركة النشر ف.ك.ا، 1994،ع.6، ص. 10

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم