صحيفة المثقف

الرفاعي والظمأ الانطولوجي: حداثة المنهج وأصالة الدين

801-jabarطالما شاغلني سؤال تاريخي متجدد هو "كيف ندعوا إلى الله؟"، وضمن قراءاتي ومتابعاتي لمخرجات المؤسسات الدينبة من جهة، والحداثة من جهة أخرى، كان القلق عنوان مراحلي في السؤال والبحث، فكلاهما غالبا يغردان في صندوقهما المغلق، الذي لا يفهم أطروحاته ونقاشاته ومشاغلاته إلا النخب، بل يبتعد بمسافات ليست قليلة عن هم الناس ومشاغلاتهم اليومية التي تشكل لهم عوائقا للتفكير خارجها.

ومع التطور السريع الخطى الذي نعيشه في كل لحظة من لحظات عصرنا، كان السؤال يتعمق والقلق يزداد، بل بات السؤال يتشعب لفروعه البديهية حينما البحث عن إجابة في مظانها وحقولها، خاصة في حقل المعرفة الدينية ومن يشتغل عليها، لفحص المناهج وما تحويه من معارف، فهل فعلا هكذا ندعوا الناس بكل أطيافهم ومراتبهم إلى الله؟

801-jabarهل المنهج بسيط واللغة كذلك؟ وهل هو جاذب غير مباشر؟ وهل فعلا يمكن للجميع أن يهتدي به؟ وهل هو وعظي تقليدي أو ماذا؟

(الدين والظمأ الانطولوجي) عنوان كتاب علمت أن مؤلفه هو الدكتور عبد الجبار الرفاعي، وللأسف لم أتمكن من الحصول عليه في معرض الكويت الدولي للكتاب، بسبب المنع الذي بات شعار المعرض دون معايير ضابطة، وإنما بعشوائية يغلب عليها المزاج تارة والتعصب الطائفي تارة أخرى.

ولكن في معرض بيروت الدولي للكتاب وجدت ضالتي، وبعد تصفحي للكتاب زاد اندهاشي من منع الكتاب في الكويت، فهو بعيد عن الايديولوجيا والمذهبيات، بل يتمحور حول الحب والإيمان والتسامح، وتفكيك الايديولوجيا والتفكير الديني المغلق.

في أنطولوجيا الدكتور الرفاعي لمست منهجا حداثيا، لكنه بأصالة دينية حوزوية عميقة، لم أقرأ في الكتاب لغة حوزوي، بل وجدته مفكرا إشراقيا بعمق حوزوي، حافظ على أصالته الدفينة في إيمانه، الذي غرسته وغذت جذوره والدته، وعمقه وكرسه بتجربته الدينية، التي تراوحت بين العمل في الحركات الإسلامية، ثم الالتحاق بالحوزة التي أصلت تلك التجربة بمعارف تأسيسية، مكنته من إدراك الأصول وتثبيتها كثوابت لا يمكن أن تمسها حداثة ولا عصرنة،كونها ترسخ له إيمانه وتعمق له عبادته لله التي ملهمها الحب، وساقيها شوق الوصل.

الدين والظمأ الانطولوجي كتاب تميز بمنهج زاوج بين الحداثة في المنهج والأصالة في الفكرة، استطاع من خلاله أن يمارس دوره الدعوي كرجل دين، لكن بأدوات عصرية جاذبة طرحها بأسلوب الرواية، وبلغة أدبية ملهمة، لها وقعها الخاص في العقل والقلب.

في طيات الأفكار تجد أحكاما فقهية، لكنها لم تلبس ثوب كلمات الفقهاء ( يجوز، لا يجوز، واجبا، مكروها، فيه تأمل .. الخ )، بل تجد ضمن روايته عن تجربته الدينية والمعرفية وقفات نقدية تارة، وخبرة ذاتية تارة أخرى، حيث يجعل من الموقف التاريخي الخاص بتجربته ملهما ينتزع منه أسسا أخلاقية وحقوقية، يرفدها لذهن القاريء دون أن يستشعر القاريء أنه يقرأ لرجل حوزوي، بل لرجل حداثي ملهم استطاع أن يجعل الفكرة حكما شرعيا، وحقا إنسانيا، وموقفا أخلاقيا، ويدمج بعضها بالقيم. بل زاوج بعض الأفكار بالمعايير والمبادئ، وكأنك هنا ترتبط بكل وجودك بالله، دون أي أسلوب وعظي أو إرشادي.

ما ميز الكتاب أنه خطوة جريئة من شخصية دينية لم تكتب كما اعتاد على كتابته الشخصيات الدينية، فقد خرج عن مشهور وإجماع ومألوف الحوزة، دون أن يحول خروجه إلى صدام معها، بل جعل من هذا الخروج منهجا يخترق اختراقا أدبيا أدبيات التابو والدوغما، وكل أطر الممنوع في الجسد الديني.

نقد المؤسسة الدينية، لكنه نقد لا تستشعره مباشرة، بل تنتزعه من بين السطور، فالكاتب فلسفي إشراقي، متصوف عقلي، تمرس ثقافة البرهان العقلي ومارسها في كتابه، ليؤسس لمنهج نقدي تقييمي غير صدامي، ممزوجا بحداثة مقننه أداتيا ومنهجيا.

قد يكون هناك من طرح الدين بثوب غير الثوب الديني المألوف، ولكن أن يطرحه بثوب الرواية الأدبية الفلسفية، التي تتحدث عن التجربة الدينية لشخصية دينية تروي حكايتها مع الحركات الإسلامية والأحزاب، ومع الحوزة والمحيط النخبوي، نقدا وتقييما وتثويرا، فهذا لا يسلكه كمنهج إلا من هم غالبا خارج جسد الحوزة.

فكون الكاتب حوزويا وحركيا جعل للتجربة قيمتها نقدا وتقييما، بل جعل لها وزنا يمكن أن يلقى صداه في سماء النقد والتقييم في داخل المؤسسة الدينية.

وكون الشخصية هنا هي شخصية تاريخية إسلامية علمائية فتصبح تجربتها خلاصة لتاريخ مزج به العقل بالوحي بالوجدان بالحس، وخلص عملانيا لتجربة ميدانية تطبيقية لكل ما اعتقده واستلهمه من كتاب الله وسنة نبيه وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.

وهنا تأصيل لدور التجربة الدينية، وتثبيت لها في جسد مصادر المعرفة نظريا وتطبيقيا، خاصة أن التجربة الدينية كمصدر للمعارف ما زالت لا تمارس عملانيا كمصدرا من المصادر، بل هي كما مهملا في طيات الكتب فقط، لم تأخذ طريقها كقناعة يمكن النظر فيها وتوظيفها باسلوب ينعكس على القراءة للدين ولله والكون والإنسان .

ما ستجده في دين الدكتور عبد الجبار الرفاعي وظمأه الانطولوجي هو المنهج الجديد في الدعوة إلى الله من رجل دين حوزوي، استطاع أن يخرج من صندوق المألوف، ليزاوج بين أصالة الطرح وحداثة المنهج.

 

ايمان شمس الدين

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم