صحيفة المثقف

الغواية وضحايا النساء في رواية "هسيس اليمام" للروائي العراقي سعد سعيد

810-saedالكتابة المبدعة تشبه مغامرة صعبة، انها تجاوز للمألوف، ومواجهة لما هو عام وشائع، انه بحث دائم عن تلك الاماكن المخفية في الحياة السائدة المقنعة للناس. العمل الادبي الاصيل لا يكتفي بعرض ما هو قائم او التعامل مع ما هو معروف ومتناول، بل يذهب الى ابعد مما هو امام أعيننا ليكشف لنا ابعادا اخرى تغور في اعماق الحدث، الصورة، الايماءة او السلوك. وهذا ما يبدو لي هو ما بحثت عنه وسعت اليه رواية سعد سعيد، الصادرة عن دار الضفاف في بيروت عام 2015.

 

غائية النص؟:

810-saedتعالج الرواية موضوعا خطيرا وهاما؛ العلاقة بين المرأة والرجل في عالم غير متوازن تحكمه علاقات هيمنة ذكورية وتتحول فيه الرغبة الجنسية، التي هي في طبيعتها حاجة انسانية طبيعية لدى البشر، الى ممارسة هيمنة واذلال، ابتزاز او انتقام.   فالجنس يعتبر من جهة، على الاقل، في فضاء اجتماعي يتسم بهيمنة بنى ثقافية تقليدية، من المحرمات لدى الوعي الجمعي العادي، لكنه، من الجهة الاخرى، يصيب غالبية المتعلمين، إن لم نقل المثقفين، غالبا، بفهم ذكوري تحكمه الشهوة. ومن اجل الولوج في صميم هذه العلاقات التي تتمحور حول موضوعة الجنس، ومحاولة فهم ما يحكمها، وسلوكيات الشخوص التي تتجلى في سياق الاحداث، علينا النظر الى الوجه الآخر للمدالية، لعلنا نتوصل الى معرفة ماهية الهدف من طرح قضية الجنس في هذه الرواية، وفيما اذا كان هذا الطرح هو لاثارة الغرائز الرخيصة المكبوتة لدى القرّاء، أي النظر الى الجسد باعتباره مصدر اثارة فحسب، كما ينحو بعض الكتّاب، ومن ثم الوقوع في مستنقع ذكورية جنسوية لا تتعدى عرض اباحية رخيصة مبتذلة، أم ان الهدف هو كشف ما يختفي خلف هذه العلاقات الجنسية ومظاهرها، والنظر الى الجسد باعتباره "حيزا اجتماعيا"، بحيث يكون الاستخدام البورنوغرافي في الرواية، كما تشير الكاتبة الاميركية سوزان سونتاج في دراستها لكتاب جورج باتاي"قصة عين"، متضمنا" امكانيات جمالية " ناهيك عن انه " نوع من الفن"(1). ففي النص البورنوغرافي تتوفر حسب تعبير الروائية والكاتبة الانكليزية انجيلا كارتر امكانيات كبيرة، في قدرته على كشف اللامساواة واللاعدالة في العلاقات بين الجنسين، او كما تكتب" تبعث النوعيات الرذيلة للبورنوغرافي غالبا ردود افعال معقدة من الجمهور - المتلقي " لان العلاقة بين الرجل والمرأة تقدم بصراحة دائما طبيعة العلاقات الاجتماعية في المجتمع التي تحدث فيها، وحين تصف صراحة، فانها تشكل نقدا لتلك العلاقات، حتى وإن لم يكن ذلك هو الهدف، او نيّة الكاتب الاباحي ابدا " (2)   ويمكن طرح السؤال التالي هل ساعد الاستخدام البورنوغرافي في رواية سعد سعيد في كشف هذه العلاقات الاجتماعية بين المرأة والرجل ونقدها، او بصيغة اخرى، هل اماطت اللثام عن عالم الغواية وضحاياها، خاصة من النساء، في مثل هذه العلاقات؟

 

بنية وثيمة النص:

تتكون الرواية من سبعة عشر مشهدا- فصلا، يفتتحها صوت الشخصية الرئيسية "هديل" وهي تعترف للموت فيما يشبه طلب الغفران الكاثوليكي" موتي يا موتي العزيز.."(الرواية، ص.11)، لتبوح له عن تفاصيل حياتها في مسعى للتطهر الذاتي الاخلاقي، وتعلن بما يشبه الوصية، ترك مذكراتها، اوراقها او اعترافاتها مثالا لعله يثير الاخرين ويدعوهم الى التفكيربعد موتها. انها اعترافات اصيلة واقرار "لا ينتظر تعاطفا من الآخرين"( الرواية، ص.11). وبهذا تحمل اعترافات هديل مغزى وهدفا اخلاقيا، وليست مجرد احساس ذاتي للتطهر من ذنوب ما، او كما تعبر بنفسها" لعله سيكون مفيدا ان يطلعوا عليها فنحن نحتاج احيانا الى ضربات قوية على رؤوسنا لنصحو"( ص.12)، لكنها تريد ذلك بعد الموت، لانها لا تجرأ البوح بكل ما واجهته في حياتها في مجتمع لا يمنحها مكانا ما متعللة " آه يا موت، لم خلقتني امرأة"..... "لانني لوفعلت نفس الاشياء التي وانا رجل لما كان هذا حالي"(الرواية، ص.21،و ص.26). فالمرأة في كل الاحوال غير مسموح لها بالتعبير عن مشاعرها التي تتطلب صراحة قد تصل حد الفضيحة. ومن خلال هذه الاعترافات نطلع على قصص عن طفولتها المدللة في عائلة تتكون من أم شبه أمية متزمتة ومتدينة، وأب يعمل موظفا حكوميا يتسم بالتسامح واخ اصغر منها، رغم ان طفولتها لم تكن خالية من المحرمات " لا تلعب بهذا ولا تداعب ذاك" ( الرواية، ص. 67)، ثم تحدثنا عن حياتها في الجامعة وعلاقتها مع بعض صديقاتها، حتى اجباراهلها لها كي تتزوج عوّاد ابن العائلة الغنية، بعد ان رفضوا زواجها من حبيبها "حبيب"، الطالب الذي التقته في السنة الثالثة في الجامعة. ورغم انهم يجبرونها على الزواج من شخص لا تحبه وتكتشف فيه مسبقا جشعا وانانية، الا اننا نشهد غياب المقاومة او الرفض لهذ الزواج من قبلها، اذ " ان القمع لا يمكن ان يحدث دون ان يولد شكلا ما من المقاومة، فمهما كان الفضاء الاجتماعي، فلدى المقموعين امكانية ممارسة الضغط على اؤلئك الذين يقمعونهم"(3)،

خصوصا، انها تمتلك مقومات هذه المقاومة، لان لديها ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو "الرأسمال الاقتصادي والرمزي" من خلال حصولها على شهادة الصيدلة وعمل في المستشفى، واكتفى الروائي بالجانب الوصفي لاذعانها وقبولها للقمع العائلي، فضيّع بهذه الصورة فرصة تصعيد الصراع وتعميقه وكشف خصائص اخرى لم يتمكن الحوار من عرضه. تخبرنا هديل ايضا عن علاقات مرتبكة مع رجال آخرين يظهرون في حياتها؛ وسام، لؤي، سرمد وحيّان. بعض هذه العلاقات كانت مرغمة عليها، يسودها الاغتصاب، اكثر مما يمكن وصفها بعلاقة اختيارية متساوية بين طرفين، اما العلاقات الاخرى فتتفاوت بين الحب ( حيّان) وعلاقة جنسية، لؤي، سرمد، ووسام رغبة منها للانتقام من الزوج، مثلما تصرح مثلا: " أنا اريد وسيما، اريده بأيّ ثمن، وإن ارد ان يتخذني عشيقة له فانا له، تبا للزواج..تبا للاولاد..تبا لكل شيء"( الرواية،ص. 43). بموازاة ذلك نسمع صوت نسوة اخريات يسردن قصصهن او عن بعضهن بصوت المؤلف الحيادي، إذ يحافظ على انثوية القص، ويشغل ذلك اربعة عشر مشهدا. اما باقي المشاهد وهي خمسة، فانها توظف تقنية الفيسبوك وتشغل الصفحات " 22-24، 91-94، 159-167، 175-184،202-206".

يعرض نسيج الرواية لنا الحياة الخفية للنساء في فضاء اجتماعي عراقي مقموع، مشوّه، تسوده "ثقافة الصمت"، التي تعقلن سلوكيات الخضوع والأّذعان والاعتماد على الآخر، أو اخلاقية الانتقام باعتباره تعويضا سلبيا عن الامتهان الذاتي. لكن هذه المقاومة سلبية، تدميرية، انتقامية، يهيمن عليها السلوك الحيواني، حيث تغيب عقلانية الفعل واهداف الممارسة ومنطقها. اضافة الى ذلك تشوب هذا الفضاء علاقات مرتبكة موسومة بالشك ولا يحكمها الود الانساني ومشاعر الحب او التعاطف الاخلاقي، بل مشاريع الحيازة، الكسب، والاحتيال، سواء المادي او الجسدي، فكل شيء فيه عملية احتلال؛ مخططات لاختراق عالم الاخرين والاطاحة بهم. الرواية بهذا المعنى تعالج ما هو غير مكشوف زائف، نوع من الوهم، يمارسه الفرد باطمئنان كاذب، معتقدا انه يمارس كل ما هو غير مباح في السر، بينما الجميع في الحقيقة يعرفون ما يجري. انه عالم تحكمه الغواية ويتحول فيه سلوك الانسان الى مجموعة من آليات نصب واحتيال وغدر من اجل البقاء، تختفي او تتلاشى المشاعر النبيلة للانسان وتحل فيه محلها الشهوة، الامتلاك، الانانية، او باختصار السلوكية الحيوانية.

وهي رواية عن نساء في علاقاتهن الجنسية المشوبة بالخوف والزيف والعذاب والخسارات والترقب والاحلام الخائبة، التي تبدو للاخرين، كما تقول الشخصية الرئيسية في الرواية هديل " هناك الكثير من الحشو في تفاصيل حياتنا..ولكن لا ...لا حشو في التفاصيل ولكل ما يحدث مغزى" ص.197، وفي هذا المغزى تنكشف تلك المعاني لهذه الحيوات النسوية المقموعة المقهورة التي تكافح في مجتمع ظالم، وحشي، مخرّب بالحروب والقتل السياسي والجشع المادي، حيث كان المال " يمتلك كلمة السر"ص. 193، والاكاذيب والسلوكيات المركبة، الخادعة، ونرى الانسان المكسور، المجروح في عواطفه والمهان في حياته الى درجة ان" معظم النساء يرحلن وهن مظلومات "(الرواية،ص.201). وهي علاقات تجري في أطر عائلية قائمة وبحمايتها. فهديل، سلمى، هيفاء، عذراء؛ نساء متزوجات، متعلمات ولديهن وظائف، وبعضهن لهن اولاد وبنات، مع ذلك تحدث سلسلة من العلاقات خارج اطر العائلة، تكشف عن عالم من الاغواء وغريزة الانتقام، تكون المرأة فيه على الاغلب ضحية. الا اننا مع ذلك نلتقي بسهاد وهي غير متزوجة، التي تفضل علاقات جنسية مثلية، حين تبرر رفضها للزواج في حوار مع سلمى " الزواج علاقة غير منصفة في مجتمعنا") الرواية، ص.121). كما انها تميز في حوار آخر مع هيفاء بين الغريزة والرغبة والحاجة: " الامر مختلف هنا، فنحن نحتاج الى الرجل عندما نريد ان ننجب، ولكن الامر مرهون بارادتنا عندما نريد ان نتمتع، ان نشعر باللذة" ( الرواية،ص. 58). في الوقت الذي ترى هيفاء في العائلة قانون طبيعي فرضته الحياة للانجاب والممارسة الجنسية واشباع الغرائز" ( الرواية، ص.56-58). ولهذا فان انجاب الاطفال وما يلازمه من اشباع جنسي عند سلمى وهيفاء، تقابله ارادة فردية باختيار نوع اللذة وطريقتها. سهاد لا تريد ان تخضع اللذة الى مفاهيم وآليات خارج عن فضاء الجسد، بينما تلجأ هيفاء، مثلا، الى الاعراف والتصورات الاجتماعية عن المرأة والعائلة لتبرير استمرار علاقتها المضطربة مع زوجها "ماهر" واذعانها لعبودية وضعها البائس. ورغم ان سهاد تكون امينة الى اختياراتها فتحرض هيفاء على الخروج على قيم الطاعة، الا ان تحريضها لم يكن دون اهداف مسبقة غرضها اشباع شهوتها الجنسية والايقاع بهيفاء، وبذلك فان دعوة سهاد الى الانعتاق الجنسي هي دعوة ناقصة تحكمها نظرة ضيقة للجسد تقوم على نفعية بديلة؛ الحصول على هيفاء كعشيقة لها، وبهذا يكون سلوك سهاد ونظرتها الجنسية الى الآخر نتاج لمجتمع مشوّه أيضا، مع انها الوحيدة التي اختارت الانفلات من أسر الاخلاقية ذات الوجهين التي تحكم طبيعة المجتمع العراقي المصغر، الذي تتحدث عنه الرواية.

في وسط هذا الجو من الخيانات والاغواء والزيف تلتقي هديل برجل يختلف عن الاخرين( حيّان) يمنحها الحب، دون ان يسعى الى اغوائها، بل يكتفي بعذرية العلاقة مما يقود الى افتراقهما في النهاية .

 

تقنيات السرد:

استخدم الروائي سعد سعيد خمس ادوات فنية لعرض حبكة خطابه السردي وبناء روايته ؛ ثنائية القص، الزمن، الحيادية، الفيسبوك، الحوار، لتشّكل في النهاية ككل وحدة النص.

 

ثنائية القص والزمن:

ثمة ثنائية في القص، أيّ اننا نلاحظ صوتين يتناوبان في وصف الاحداث في الرواية، صوت هديل - "الانا" وصوت يتحصن خلفه راوٍ آخر هو المؤلف. وفي هذا الانتقال بين الصوتين نرى ديالكتيكية توحد بين الخارج والداخل، الايجابي والسلبي، الخير والشر، الحاضر والماضي، وهي ثنائية تواصل حضورها وبصورة متعاقبة في المشاهد- الفصول، على امتداد الرواية، مع استثناءات قليلة،، حيث تدخل شخصية اضافية او مشهد جديد، كما في مشاهد الحوار على الفيسبوك.

تختتم الرواية بثنائية، اي بخاتمتين؛ الاولى حيث تنتهي بافتراق هديل عن حيّان، الذي احبته بصدق، لكنه لم يلمسها واصر ان تبقى علاقتهما عذرية، نزيهة وفاضلة، رغم رغبة هديل الايروتكية الكبيرة نحوه. ولان فرضية إمكانية وجود الفضيلة والعذرية والنقاء في العالم الذي عرضته الرواية، وعلاقات شخوصها التي اتسمت بالغواية والمكر والخديعة، يكاد يكون معدوما، لهذا فان فراق هديل وحيّان كان موفقا في التعبير عن هذه الثنائية المتضادة المتنافرة، التي لا يمكن التوفيق بين طرفيها. اما الخاتمة الثانية، فكانت على شكل رسالة من عذراء الى صديقها همام،الذي تعرفت عليه عبر الفيسبوك. وكانت عذراء قد هربت من زوجها المقاول الذي ارتبط بمصالح ايام الحصار مع موظفين كبار في الدولة، بعد ان سعى لاستخدامها كوسيلة إغراء للحصول على مقاولات آنذاك، فتحول بنظرها الى "قوّاد" ( الرواية، ص. 133-134). غادرت بعدها العراق مع عائلتها واستقرت في اميركا. كان سبب الرسالة اكتشافها لخبر يشير الى ان زوجها المقاول قد غيّر اسمه ورشح نفسه الى البرلمان الجديد، بعد ان ادّعى انه كان ضحية للعهد السابق لعام 2003، بينما تعتقد هي "ان سجنه ربما كان لسرقة او اختلاس او جنحة مخلة بالشرف"، كما كتبت الى صديقها همام.( الرواية ص.202-206). وترمز هذه الاشارة حول تحولات زوجها السابق، حيث يتحول من متعاون مع النظام السابق الى ضحية له، ومن ثم الى مرشح للبرلمان الجديد، الى حقيقة التحولات في العراق وطبيعتها، ولها دلالة سياسية تضاف الى صورة الزيف التي يعيشها المجتمع العراقي. مع ذلك يمكن للقاريء ان يطرح سؤالا؛ ألم يكن بالامكان اختصار هذه الخاتمة ويدرجها ضمن سياق الاحداث الاخرى لتجنب بعض الاستطراد في النص؟

لا تقتصر هذه الثنائية على القص فقط، بل تتعداه الى زمن الرواية، فهناك زمن واقعي للاحداث، الذي يقع خارج النص، وزمن النص الذي ينبع من فضائه. فبينما تمتد الاحداث الواقعية خارج النص على مدى عقود من السنوات( منذ السبعينات وحتى سنوات ما بعد عام 2003)، من خلال اشارات متفرقة الى احداث وقعت في فترات متباعدة لخلق اطار تاريخي يمنح الاحداث والاشخاص والعواطف انسجاما واقعيا. فنحن في ثمانينات الحرب، الحصار،الحملة الايمانية، مابعد سقوط النظام عام 2003، الانتخابات وغيرها، حيث تفصح دلالة الزمن المختلفة عن طبيعة الظروف التي تدور فيها احداث الرواية، ومدى الخراب الاجتماعي والاقتصادي والنفسي الذي القى ظلاله على المجتمع، بينما لا يغطي الزمن في داخل فضاء النص الا اسابيع معدودة، كما تكشف عنها اعترافات هديل امام الموت.

 

حيادية القص:

واحدة من السمات الاخرى التي تجلب الانتباه في رواية" هسيس اليمام" ان الراوي الرئيسي هو امرأة تلقي باعترافاتها امام الموت، اي ان الروائي اختار شكلا حياديا ولو بصورة جزئية للقص. فالمعروف ان معظم الروايات التي كتبت عن قضايا المرأة، اما كتبتها امرأة أو يقوم الكاتب بسرد الموضوعات عن المرأة، أي اننا نجد صوت المؤلف حاضرا، خصوصا حين يكون رجلا، في متن النص ونسيجه. الا اننا نلمس هنا تقنية سردية مغايرة، او لنقل مخالفة لما هو معهود، حيث اتاح الروائي للمرأة ذاتها ان تتحدث وتعبر عن مشاعرها ومواقفها، بينما اتخذ هو موقفا شبه محايد يعاين الاحداث والشخوص ويحركها من خلف كواليس النص، رغم انه يتدخل احيانا فيه، لكن عبر صوت نسوي ايضا، وقد منحت هذه الاسلوبية شيئا من صدقية المشهد واحداثه، وجعلته قريبا الى موضوعية الحدث ومنحته اقناعا جماليا اكبر.

 

الحوار والفيسبوك، أو فضاء التواصل الاجتماعي:

اعتمد الروائي الى حد بعيد على فن الحوار، كأداة فنية في بناء روايته، ليترك الفرصة الى الشخصيات للتعبير عن سلوكياتها وافكارها بحرية وحيادية. لان "حالة الحوار هي ليست مجرد حالة اتصال. انها ايضا وضع، تتجلى فيه علاقات السلطة الرمزية وتتعاضد مع علاقات السلطة السياسية والاقتصادية"(4)، كما كتب عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وهي برأيي التفاتة مهمة من الروائي، حيث ان اللغة هي حامل الاسرار الحقيقية للانسان، وتساعد في الكشف عن طبيعة وحقيقة العلاقات بين الشخصيات وسلوكها، اذا عرفنا ان اللغة تحمل لا افكارنا فقط، بل تتضمن افعالنا ايضا، وهي علاوة على ذلك الموجه لهذه الافعال. ورغم ان اللغة المستخدمة في الحوار هي اداة وليست هدفا بحد ذاتها، بل عنصر مهم فيه، يكون لاستخدامها هدف ونية محددة دائما، كما يؤكد الباحث الفرنسي باول ريكور " انه لا توجد لغة دون ان يكون للمرء غرض ليقول شيئا من خلاله" (5). وقد استفاد الروائي من تقنيات الاتصال الحديثة المتمثلة بالفيسبوك، كفضاء اجتماعي مفترض لخرق الحصار والقيود المفروضة على العلاقات الاجتماعية بين الجنسين. وقد سبق للروائي سعيد ان استفاد من تكنولوجيا الاتصال في روايته السابقة "فيرجوالية"، لمنح خلفية الاحداث قيمة حداثية وواقعية في آن واحد، وهي برأيي، انتباهة مهمة، توفر فرصة اكبر للاطلاع على افكار وسلوكيات شخصيات الرواية التي لا توفرها مجتمعات منغلقة على نفسها محكومة بالمحرمات. لأن الحوار كجزء من الخطاب الروائي يفيدنا الى حد ما بتوضيح كيفية انتاجه وتأويله في السياق الاجتماعي، ويساعدنا كعنصر مهم في السرد الروائي على كشف كيفية توطد علاقات السلطة اللامتساوية بين الرجل والمرأة، مثلما يكشف لنا تأثره بهذه العلاقات في صيرورة تكوينه.

شكلت هذه الثنائيات وحدة للنص ومنحته ديناميكة اضافية عوضت بعض الشيء عن الخسارات التي قد تعاني منها رواية "الحوار"، بسبب غياب الوصف واركان السرد الروائي الاخرى كوصف المشاهد والتفصيل في عرض المكان واستجلاء الوضع النفسي للشخصيات وغيرها. الا ان هذه الوحدة ترتبك ويصيبها الخلل بعض الشيء، في اقحام ثلاثة مشاهد، وهي حوارات على الفيسبوك بين عواد وجمّارة (الرواية، 22-24،91-94، ص.175-184)، وكان بالامكان اختصارها، ألا اذا اعتبرنا ان المؤلف اراد بهذه المشاهد وتكرارها، ان يكشف لنا عن سمات اضافية لعوّاد من خلال استخدامه للمستوى الهابط للغة. وهو أمر يمكن ان يكون منفتحا على اكثر من تأويل.! اضافة الى ذلك كان بالامكان التعمق اكثر ي وصف خلفية الاحداث والكشف عن عناصر اخرى في الصراع الاجتماعي والنفسي للاشخاص.

 

إشارة أخيرة:

الرواية تمكنت من كشف تلك الحياة السرية للنساء في مجتمع مقموع ظاهريا،ولكنه غارق في علاقات سرية من الاغواء والاغراء والكبت والخيانات .عالم نساء ورجال يعيشون منصاعين لغرائزهم كتعويض عن خسارات حياتية او مادية او انسانية، تحمل مضمونا وغائية اخلاقية ترمي الى الكشف عن المواقف والسلوك الذكوري السائد في المجتمع، الذي يجعل من المرأة غالبا ضحية.

وهكذا يمكن القول ختاما أن رواية " هسيس اليمام" للروائي سعد سعيد قد حققت هدفها الفكري بكشف القمع الجنسي في المجتمع العراقي والرؤية المتخلفة للمرأة، وقدمت متعة جمالية على مستوى الادب، والى حد كبير، وربما تعود هذه المحدودية الجمالية الى تعقيد وصعوبة الاعتماد على عنصر الحوار وحده في بناء النسيج السردي للرواية.

 

قحطان جاسم

.....................

هامش:

كل الاستشهادات المحصورة بين قوسين المشار اليها في المقالة مأخوذة من رواية:

سعد سعيد، هسيس اليمام، بيروت، منشورات ضفاف، 2015.

 

المصادر:

(1 Susan Sontag,. “The Pornographic Imagination.” Styles of Radical Will. New

York: Doubleday,1991, p.65

2) Carter Angela, The Sadeian Woman: An Exercise in Cultural History, London, Virago, 1979, p.20

3) Pierre Bourdieu, Loic J.D. Awcquant, Refleksiv Sociologi, Mål og Midler, oversat på dansk ved Henning Silberbrandt, Hans Reitzels Forlag, 2001, p.70

(4 Pierre Bourdieu, Centraler tekster indenfor Sociologi og kulturteori, Redigeret og oversat af Staf Callewaert et al., Akademisk Forlag, 1994, p. 18

5) Paul Ricæur, Sprogfilosofi, Oversat af Grete Karl Sørensen og Peter Kemp, København, J. Vintens Forlag boghandel,1970, p.10

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم