صحيفة المثقف

في رثاء صديقي المرحوم فزاع الحسون .. لا شئ يستحق التضحية بالحياة إلاّ الحياة بكرامة

892-fazaaيؤسفني أن معظم ضحايا صدام اليوم في السلطة في العراق، نسوا الأيدي الرحيمة التي آوتنا في تشردنا وغربتنا الموجعة، ومن أبرز هؤلاء المرحوم الحاج فزاع الحسون، الذي تعرفت عليه عبر أخي شريف القحطاني (أبو عادل) في الأيام الأولى لوصولي الكويت ربيع 1980. وكنت قبل ذلك أسمع ثناء أخي أبي عادل عليه منذ سنوات، وهو لا يكف عن تبجيل سجاياه الانسانية، وشهامته، وتدفق عواطفه، وغيرته، ونبله. ويدلل على أنه من الشخصيات الفذة في الشجاعة والتضحية والتفاني في العمل التطوعي لإسعاف العراقيين المشردين في الكويت، ممن يعرفهم ولا يعرفهم. رغم أنه لم يكن محتاجاً لهم، كان يغامر بمصالحه وممتلكاته، وأمنه الشخصي والأسري، بل وحياته، من أجل إيوائهم، وتيسير سبل هروبهم الى الكويت، حتى أصبحت مزرعته في المنطقة الحدودية في العبدلي بجوار صفوان محطة عبور للكثير من العراقيين الفارين من جحيم فاشية صدام، ومنهم أنا. وتلك مجازفة مرعبة، يمكن أن تكون ضريبتها وقتئذ مصادرة المزرعة، وكل ثرواته، مضافا الى اعتقاله، لكنه ظل يغامر، ولم يكترث بكل ما من شأنه تهديد حياته وأمنه.

892-fazaaفي رحلة الضياع العراقي صارت داره ملاذاً لمجموعات من الشباب العراقيين، يوفر لهم المأوى، وكل متطلبات العيش الكريم، ولا يتردد في بناء شبكة علاقات اجتماعية كريمة لهم، مع مجموعات من أصدقائه ومحبيه، ممن يشتركون في السهرات الجميلة في ديوانيته. وطالما وجدته ينوه بمكارمهم وتضحياتهم وثقافتهم. أحياناً أخجل لفرط ثقته واحترامه وتكريمه لي حين يعرفني على صديق له. وهكذا كان يفعل مع كل الأصدقاء المشردين منا في الكويت. كنا نشعر مع الكثير من الكويتين بمسافة يصعب علينا عبورها، تعكسها برودة مشاعرهم، وسلبيتهم، لكن فزاع الحسون ظل من القلائل الذين يحرصون على محو كل أشكال المسافات والحدود معنا، بلا تمييز بين شخص وآخر.كان يحتفي بكل مشرد جديد، فأراه يبتهج، كأنه في حفلة مسرات، أنصت لصوت ضميره يتغنى بأنه استطاع إنقاذ كائن جميل آخر من طاحونة الموت العبثي في العراق، ومقصلة صدام الشريرة. إنه من أولئك الذين كانت سعادتهم تتلخص في إسعاد الآخرين.

لا أتذكر أني عرضت عليه مشكلة لأحد الأصدقاء ولم يسخّر كل امكاناته لحلها أو تذليلها. عيشنا في الكويت كان سلسلة مزمنة من المواجع والمفاجئات، إذ كان دخولنا للبلد غير قانوني، وهكذا كانت اقامتنا، وسفارة صدام لا تكف عن التلصص على حركاتنا وعلاقاتنا وأنشطتنا، ولا تتردد في مطاردتنا، واختطاف بعض أحبتنا، سنوات الحرب المجنونة في الثمانينات. لحظة يلتحق بنا أحد الناجين من حرائق صدام نحرص على تأمين المتطلبات الضرورية لإقامته، والتشبث بكل ما يشي بأن وجوده في البلد شبه قانوني، كنا نتذرع بوصفه يعمل في احدى الشركات الكويتية، وليس معارضاً للنظام ببغداد، ولم تكن لدينا وسيلة لتأمين بطاقة عمل سوى "شركة الحسون"، التي تصدر لنا مثل هذه البطاقات، نعم هي لا تعد وثيقة حكومية، ولا تغني عن الإقامة الرسمية في جواز السفر، لكنها تعمل على بث شئ من الطمأنينة في قلوبنا، حين تشعرنا بتضامن أهل هذا البلد معنا، واستعدادهم لحمايتنا، والتضحية من أجلنا. الحسون رحمه الله كان همه دعمنا ورعايتنا، وحماية أمننا، وتأمين كافة ما يمكنه تأمينه من وسائل استقرارنا.

أدرك الحسون ألا شئ يستحق التضحية بالحياة إلا الحياة بكرامة، فمن دون الاستعداد للتضحية بالحياة سيتنازل الكائن البشري عن كرامته وحريته وانسانيته، وينخرط في قطعان العبودية الطوعية، ممن تمسي وظيفتهم تقديم فروض الطاعة والمهانة لكل متسلط مستبد. وهو ما كان يعلنه بصراحة، ويقوله سلوكه، وتحكيه مواقفه. وذلك سر ما كان يعلنه صوت ضميره، ويعكسه شعوره العميق بالمسؤولية الانسانية الأخلاقية حيال العراقيين المعارضين لصدام، لأنه يعرف جيداً توحش صدام وفاشيته.

ما كنا نرغب بدعوة الحاج فزاع للانضمام الى حزب الدعوة، الذي كنت أحد أعضاء لجنته في الكويت، قبل أكثر من ثلاثين عاماً. ولم يكن يعرف هو الكثير من التفاصيل الجزئية لنشاطاتنا ضد صدام، لكنه كان يعلم أن كل ما نقوم به لا علاقة له بالكويت حكومة وشعباً، كل جهودنا مكرسة لإنقاذ وطننا العراق، لذلك لم يمتنع من الاستجابة لأية حاجات ملحة تخص عملنا، وإن كانت تنطوي على مجازفة. فمثلاً كنا في حيرة لتأمين محل لجهاز استنساخ حديث، نُكثّر به بعض بياناتنا ومنشوراتنا وأدبياتنا الخاصة المناهضة لنظام صدام، فتحدثنا معه حول ذلك، بلا أن نضعه في صورة ما نروم فعله، ونوع ما نستنسخه في الجهاز، فوافق بلا تردد، وبالفعل أودعنا جهاز الاستنساخ لديه مدة وجيزة، ريثما استأجرنا شقة في منطقة خيطان، تضم كافة الممنوعات بحوزتنا، مما هو ضروري لعملنا ضد صدام. وتعاهدنا كل أعضاء اللجنة ألا نعرف محل هذا الوكر، ما خلا الأخ الذي أوكلنا اليه هذه المهمة، وهو رجل معروف بكتمانه وصرامته.

رحم الله الصديق النبيل الحاج فزاع الحسون، ورفع مقامه في الصديقين، الذي كان قلبه وطناً يوم غربتنا، وبيته ملاذاً يوم تشردنا، وماله زاداً يوم فاقتنا، وارادته الحرة مصدر طاقتنا يوم خوفنا، وتضحياته وقوداً يوم ضعفنا، وأحلامه بالغد ملهمة يوم يأسنا.

 

د. عبدالجبار الرفاعي

...................

توفي في الكويت يوم 27 ديسمبر 2015.

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم