صحيفة المثقف

رائحة العراق صبيحة هذا العام

mulehim almalaekaرائحة البارود تعمّ العراق هذه الليلة، وهو بارود - ويا للعجب - يبشّر بحب بعام جديد يريده أهل هذه الارض بلا دماء وبأمل جديد بطرد الارواح الشريرة مع رحيل العام الذي يحتضر (واستخدام الالعاب النارية لوداع العام في الموروث الاوروبي يرتبط بتعويذة الفرقعة لطرد الارواح الشريرة التي رافقت العام الرحل، وهكذا يولد عام جديد بلا اشرار ولا شرور).

 

روائحٌ وليس عطورا !

ترى الأمُ وطنها في رائحة الحليب التي تضوع من فم رضيعها الراقد بهدوء ملاك في مهده لا تهمه حروب، وهي تشمّه في مسام ملابس طفولته المتعثرة بحبيه على ارض الدار الندية ذات ظهيرة صيف.

ولمن يرى الوطن عطرا وليس رائحة، ترحل الذاكرة الى شوارع وزيرية بغداد (ففي الموصل وزيرية وفي كركوك والسليمانية اخريين) التي تغمرها رائحة الجهنمية (الميموزا) وعطور ملكة الليل، وهي تتمطى على اسفلت شوارع غسلها مطر الشتاء او مياه الصنابير في الصيف لتبعث بردا وعطرا لذيذا يميّز الشوارع عن غيرها.

لكن هذا التعطّر لا يبتعد عن شوارع حي الجزائر في البصرة التي تغمرها رائحة هي مزيح من قداح الحدائق وعلق النخل وملح شط العرب لا تبدده عواصف الباحورة المرة، فيراه البصريون رائحة لوطنهم. لكن البائعات الجالسات على رصيف مرائب السيارات والحافلات في ساحة سعد ومراكز البصرة الاخرى تلف مشامهنّ رائحة أبخرة الديزل والبنزين المنبعثة من مواسير عوادم السيارات، وروائح الاتربة والرمال التي تلف البصرة وهي المدينة الغارقة بالمياه بلا رحمة، وهنّ بلا شك يتنشقن في كل ذلك رائحة وطنهن.

وطن سكان الجبال، تميّزه القمم، والعيون والثلوج، وعطره يضوع دائما من البيبون والقرنفل البري الذي يجهله كثيرون، ومن ابصال "كل مريم" التي تنمو غبّ كل مطر وينتهي عمرها في الغداة.

وطن الموصليين، يضوع برائحة البرغل والهيل الحلبي ورغوة الغار المنبعثة من المطابخ والحمامات النظيفة، وتستجيب له مئات الاشجار الممتدة على سفوح دجلة في الغابات.

ولكن كرادة بغداد تسكنها رحيق زهيرات الآس واريج الاثل وعطور الكالبتوس النفاذة، وهي ترسم ملامح وطنٌ لا يعرفه الا اهل الكرادة والمسبح والعرصات وما حولها، ويختلط غالبا بعطر شواء السمك المنبعث من اشتعال حطب الطرفة الزبيري على شواطئ دجلة بدءا من ضفافه في الاعظمية وانتهاء بضفافه في الجادرية والدورة وعطفاته حولها.

وليس بعيدا عن عقول أهل العراق اغانٍ تعشّقت برائحة البارود " يمه البارود من اشتمه ريحة هيل"، وحين صحا العراقيون على رائحة الهيل وجدوا انفسهم يطاردون رغيف الخبز بشق الانفس ويقارعون اعداء الوهم حتى ضاع حساب سني الحروب وبات السلام حكاية خرافية، وهم نفسهم الذين عايشوا كافور المقابر بعنوان" يا كاع ترابك كافوري" وهذا ليس عجيبا، فالبعض يرى وطنه مقبرة، وغيره يرونه روضة اطفال " جنة جنّة جنّة، جنة يا وطننا".

 

ليل البنفسج

ولعل العطر لا يعرفه الا عشاق البنفسج، وهو عند بعض الأمم، رديف العشق، وعند غيرهم عطر المقابر، وعندنا عطر الليل الحبيب الغامض الذي تغنى به شاعر بات ليله في سجون اعداء البنفسج، ولكن هذا ليس كل شيء، فالعراق غرين يفوح بأحلى عطر، وقصب يرقص على حافات الاهوار فتضوع مياهها بسيل روائح من سمك ورطوبة وملح وبردي لا يفيق من أرق التاريخ.

والوطن برتقال من بساتين ديالى التي تفتخر بالحمضيات ولا تهتم لرمانها، هل شممتم رحيق الرمان في شحمه العذب؟

الوطن طِيب ومسك يتهادى في اسواق النجف والمراقد، وهو وإن اختلط برائحة بخور الحضرة الكيلانية الا أن روائح اخرى في الازقة لا تسمى عطورا لكن الناس يعشقونها. هل شممتم رائحة ازقة المدن العتيقة، مندلي، والحي، وزرباطة، والخالدية وتلعفر واحمد آوه وقلعة اربيل وشورجة كركوك؟

انها خليط من عفونة الشوارع والمياه الاسنة التي تسيل في المجاري الوسطى المكشوفة ومن رائحة آجر ولِبِن البيوت المتهالكة تخالطها رائحة العاقول وهو يحترق ليصنع خبزا تروسه الامهات في تنانير الزوايا. لماذا تموت المخابز وما مصير حنطتنا؟

محبة الوطن هي رائحة الانسان وقد غادر الحمام فتفتحت مسامه لأحلى عطور، بل هي رائحة حمامات الاسواق التي تتهرب من التاريخ لكنها تنقرض بلا رحمة، لماذا باتت مدننا بلا حمامات؟ عطر الحمامات احلى من عطور المغاسل رغم المسك والكافور والبخور، الحمامات بيوت الأحياء، والمغاسل بيوت الجثث!

البارود الذي ضاع شذاه سلاما ليلة 1.1.2016 في شوارع المنصور والكرادة والكاظمية واطراف الأعظمية اينع في النفوس شلال ذكريات، شلال لا يهمه أن يبقى- فقد مضت ليلة راس السنة بسلام- لكنه ما برح لا يغادرنا رغم عقود الغربة.

 

ملهم الملائكة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم