صحيفة المثقف

أزمة الزهد في الواقع الديني

كان لديّ صديق يمارس هواية العلوم الدينيّة كغيره من الهواة، يركب سيارة متواضعة من فئة (السايبا) حينما يخرج إلى المحافل العامّة والّلقاءات والاجتماعات، وفي مرأب [كراج] بيته تصطفّ سيّارات فخمة ومظلّلة، تُقدّر بعشرات الآلاف من الدولارات من فئة (الّلكزس) وغيرها، يستقلها بنفسه حينما يريد ممارسة قضاياه الشخصيّة، ويحرص قدر الإمكان على أن لا يراه الناس... تذكّرت هذا المِراء وأنا أقرأ قصّة حدثت للإمام الصادق (ع) مع سفيان الثوري في مطلع القرن الثاني من الهجرة؛ إذ يروى: إن الثوري قد رأى جعفر بن محمد الصادق (ع) يوماً في المسجد الحرام، وعليه ثياب كثيرة القيمة، جميلة المظهر، فوجدها فرصة مناسبة لتوبيخ الصادق (روحي فداه) كما في نصّ الرواية... فدنا منه وقال:

يا ابن رسول الله، والله ما لبس جدّك محمد (ص) مثل هذا الّلباس، ولا أحدٌ من آبائك، فكيف سوّغت لك نفسك ذلك؟!

فقال له الصادق (ع) يا سفيان: كان رسول الله (ص) في زمان قَتر مُقتر، وكان يقتّر على نفسه وعياله، أمّا الدنيا اليوم فقد توسّعت نعمها، فأحقّ أهلها بها أبرارها... غير أنّ الّلباس الفاخر الذي تراه عليّ يا ثوري إنّما لبسته لكي لا ينظر الناس إلينا نظرة مهانة وذلّة...، وبعد ذلك أخذ الصادق (ع) يد سفيان الثوري فجرّها إليه، ثمّ رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوباً تحت ذلك على جلده غليظاً، وقال له يا سفيان: هذا لبسته لنفسي، وما رأيته من لباس حسن الظاهر لبسته للناس.

بعد هذا أراد الصادق (ع) أن يكشف للناس الحقيقة التي تكمن وراء هذا الدجل الظاهريّ لسفيان، فجذب ثوباً لبسه سفيان، أعلاه غليظ خشن، وداخله ثوب ليّن، وقال له يا سفيان: لبست هذا الأعلى للناس، ولبست هذا لنفسك تُسرّها؟!

أقول: يبدو إن (بعض) رجال الدين فهموا من هذه القصّة العكس؛ فأظهروا الزهد والتواضع أمام الناس، واستهووهم على أساس ذلك، لكنّهم يمارسون خلافه في واقعهم، وبعضهم جعل هذه القصّة مبرّراً ليخلع لباس الزهد والتواضع، وهو الأصل العلويّ الحاكم على رجال الدين إلا في بعض الظروف القاهرة، فتمادى في توظيف السيارات الفارهة؛ لأغراضه ومكاسبه ومصالحه… إليك سيّدي يا أبا تراب أرفع شكوايّ، متذكّراً هدير مفرداتك وهي تقول: ظهر الفساد فلا منكر مُغيّر، ولا زاجر مزدجر، أ فبهذا تُريدون أن تجاوروا الله في دار قُدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده، هيهات لا يُخدع الله عن جنّته، ولا تُنال مرضاته إلّا بطاعته، لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المُنكر العاملين به.

ملاحظة: قد تكون (نفس) هذه الرواية ضعيفة السند وفقاً لمقاييس علم الرجال، لكن هناك روايات غيرها صحيحة السند وبنفس المضمون أيضاً، وإنّما اعتمدنا هذه الرواية لوجود بعض الخصوصيّات، مضافاً إلى إن الضعف السندي غير ضار في المقام أيضاً؛ لأنّا لا نريد استفادة حكم شرعي (فقهيّ) منها، لذا وجب التنويه.

 

ميثاق العسر

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم