صحيفة المثقف

الفكاهة السوداء وفضح الزيف البشري

823-mohamadفي كتاب "فوق بلاد السواد- قصص وحكايات ساخرة" للكاتب العراقي أزهر جرجيس

 تعتبر المجتمعات المغلقة الفكاهة والضحك تهديدا لوجودها وقيمها المحافظة، ولهذا فانها ترى في السخرية والتهكم والطرافة ادوات اجتماعية تتعارض مع اخلاقية التزمت والانضباط، التي على الفرد الالتزام بها للحفاظ على هيمنة القائمين على المجتمع. من هنا نرى ان الفكاهة هي خرق لهذا التابو والمنع والتزمت الاجتماعي. ولهذا تجد الشعوب عبر النوادر والسخرية كوة لتحرير الذات والوعي من الخوف والانغلاق.

في هذا السياق يمكن قراءة كتاب " فوق بلاد السواد" للكاتب أزهر جرجيس، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الذي صدر عام 2015 في بيروت

الكتاب هو مجموعة من القصص والحكايات الساخرة ويتضمن34 قصة وحكاية . انها قصص تتحدث عن الحرب، الزيف الاجتماعي، الكبت الجنسي، تربية الطفل، اللجوء، الارهابي وتحولاته، الزيف الديني، وغيرها من الموضوعات.

823-mohamadتمتاز الحكايات والقصص بالاختصار والتكثيف ولها هدف سياسي واجتماعي. انها تغرف مباشرة من خزين الواقع المليء بتناقضات الحياة والاحداث والشخوص والصور الغنية، دون ان تغيب عنها اللمسة الجمالية الفنية، التي تميز هذا النوع من الادب، وتكشف عن فرادة قص تذكرنا بشمران الياسري في اعمدته الصحفية في طريق الشعب ورباعيته الروائية في سبعينات القرن الماضي، التي كانت سببا في خروجه من العراق بعد تهديده من قبل صدام مباشرة لما تركته حكاياته من تأثير على وعي الناس وبصيرتهم بما يجري آنذاك. الا ان ما يميز أزهر عن الياسري، انه حافظ الى حد كبير في سرد قصصه على اللغة الفصحى، وحتى حين يستخدم اللهجة الشعبية المحلية، فانه يحاول ان يقترب من تلك التجربة التي خاضها الشاعر الشعبي الراحل علي الشباني في شعره، بحيث يقرّب بين العامية واللغة الفصحى او ما اطلق عليه الشباني "اللغة المحكية" التي تقع بين الاثنين، وهي لغة المتعلمين او لغة الطبقة الوسطى في المجتمع..

يمتلك ازهر جرجيس طاقة ابداعية كبيرة في التهكم بحيث تأتي حكاياته سلسلة متتابعة مرحة ذات غائية مركبة فنيا وفكريا، تلتقط الكثير مما يجري بين الناس، مازجا بين ما عايشه في النرويج، بلاد اللجوء التي رحل اليها الكاتب وبين شخصيات الماضي، ماضيه، التي تعود اليه بين الحين والاخر لتشكل عوالم حكاياته؛ فحكاية مكي الاقرع الذي باع بستانه واشترى بدله سيارة وحولها في النهاية الى سيارة لنقل جثث الحرب ص.9-13،تكشف بتهكم اكاذيب النظام الذي كان يتشدق بانتصاراته فيها وهي حكاية تملك تعميما ويمكن سردها عن بلدان وانظمة مشابهة في سلوكها.

 

اما شخصية غريب المؤمن فانها تتحدث عن الطفولة والقمع واشكال التربية السيئة ص.14- 18، ثم زيف التربية الدينية والقائمين عليها التي تحول الدين الى مصدر للتجارة والربح. ثم نتابع في حكاية اخرى صبيح الذي فر من الحرب و وصل الى السويد، و تلك المشاعر المتضاربة التي تتناوبه بين الحنين الى الوطن و الانعتاق عبر تفتح حاجته الجنسية التي تعبر عن جوع وقمع اجتماعي ماضٍ شاخصٍ في وعيه في مسعى للتحرر منه . وتكشف هذه الحكاية المحنة التي يعانيها اللاجيء بين الكبت الجنسي وسوء فهمه للحرية التي يواجهها في بلدان اللجوء، فلا هو يعرف رقصة بلاده ولا هو يعرف الرقصة التي ستتيح له الحصول على مريانا العاملة في معكسر اللجوء ص. 31 . فحين طلبت ماريانا منه ان يرقص لها اية رقصه يعرفها، فانه فشل في ذلك، حتى تذكر "رقصة نوفا" التي لم تكن رقصة، بل عذابا مستديما ..في هذه القصة نلمس الفكاهة السوداء التي تضيء السلوك الانساني ومحنته عبر التهكم والكوميديا اللاذعة، وهي كوميديا تتضح على اشدها من بين قصص و حكايات آخرى في " بلد الزهور " ص. 129-131 ايضا. . حيث المقارنة الساخرة بين العراق والنرويج التي تشيها بعض من الفاجعة، حيث تصر الشخصية الرئيسية في الحكاية على التشابه الكبير بين العراق والنرويج، الى درجة ان كاترين الصديقة النرويجية، لم تفهم تلك المقارنة، فتغادره وهو يقول لنفسه" يا لها من مسكينة ! لم تصدق كلامي عن العراق ..لقد فاتها الكثير !". ص.131، وفي اطار هذه الكوميديا السوداء نقرأ عن محنة نبيل ونسمة، الذين ترعرعا في حياة غير انسانية وعاشا حياة التشرد بلا عوائل او بيوت، حتى التقيا ببعضهما وتزوجا بمساعدة انسان طيب عطف عليهما، ورغم ان الاستقرار الذي تحقق لهما بالعثور على غرفة يعيشان فيها ومصدر عيش، إذ يبيعان في النهار السجائر وورق الكلينكس واعواد البخور، اضافة الى عمل نبيل في احد بارات بغداد لغسل الصحون، فان فجاعة حياتهما لم تتوقف عند هذ الحد، إذ جسد الكاتب ذلك بالحلم الذي حلمه نبيل وهو يهرب الى اليونان بمساعدة نادل البار وسقوط الطائرة في البحر بعد اقلاعها من تركيا، ليجد نفسه في سريره وقد انقلبت عليه نسمه بكل حجمها. فنسمة كانت تمثل مصيره- بؤسه الذي لا يمكن الهروب منه رغم فضاعته. ص.19-29

ولا يفوت الكاتب ان يعرج على واحدة من قضايا عصرنا المهمة، واعني الارهاب، حيث يقدم لنا شعيب الافغاني اللاجيء في فنلندا، الذي غادر افغانستان بعد ان ادرك خطل انضمامه الى " الجهاد" مع ارهابيين كانوا يستخدمون الدين لمصالحهم، فاكتشف عن طريق مصلح ديني، الشيخ المشرفي، ان الجنّة والدين شيء آخر يختلف عمّا يتحدث عنه "الجهاديون". معلنا انه ترك بلاده " كارها لجنّة تنالُ بذبح الابرياء"ص.141  

كتاب "فوق بلاد السواد" يمنحنا فسحة من المرح وسط كل هذا الخراب والظلام والموت الذي يحيق بحياتنا. وفي الوقت الذي يكشف لنا الزيف البشري وعيوبنا المتأصلة فينا، بفعل اسباب عديدة، فانه يقول لنا؛ ما يزال ثمة كوة للامل والفرح في الحياة. أزهر جرجيس يقدم في كتابه هذا تجربة سردية مهمة، تأخذ من السخرية والتهكم منطلقا لكشف المستور في حياتنا اليومية، فيقدم بذلك اداة ادبية، طالما تجاهلها وللاسف، الى حد كبير، الادباء العرب، لنقد السلوكيات الانسانية التي تعيش على الكذب والرياء وخديعة الذات. ورغم ان كتابه هذا هو انتاجه الاول، ويتضمن بعض القصور الطفيف هنا وهناك، فانه يكشف عن مهارة كبيرة في ضبط ايقاعات السرد وادواته والتحكم ببنية مسار الاحداث، واتوقع له ان يكون مستقبلا واحدا من كتاب السرد الساخر المهمين في الثقافة العربية.  

 

قحطان جاسم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم