صحيفة المثقف

نضال القاضي في مخاضات شعرية وسط عواء مستمر

wejdan abdulazizالشعر عالم من الانطواءات تتوزع عليه المعاني الظاهرة والاخرى التي تتخفى، وتحتاج هذه الأخيرة إلى ذهنية من المتلقي تمتاز بالتوقد وسرعة البديهة، كي يتمكن من الوصول إلى تخوم المعنى.. (وفي تحديد دلالة العلامة او الرمز ضمن فاعلية علم الدلالة نجد انفسنا بازاء مستويين، الاول هو المستوى"الانطلوجي"او الوجودي ويكشف عن علاقة العلامة ـ الرمز ـ بوجودها وعلاقتها بالموجودات الاخرى التي تماثلها او تختلف عنها، اما المستوى الثاني، فهو المستوى"البراغماتي"او الذرائعي ويعنى بعلاقة العلامة بالواقع او فاعلية العلامة ووظائفيتها في الحياة. والعلامة طبقا للمستوى الثاني ركن اساس من اركان التواصل البشري بينها وبين ما حولها من الموجودات والظواهر والغيبيات، وما تمتلكه هنا العلامة اللسانية او اللغة بوجه عام من فاعلية في اطار حصر المعاني وضبط المفاهيم ورسم حدودها)ص127 المفكرة النقدية، من هذا المنطلق نحاول الدخول الى عوالم الشاعرة نضال القاضي في ديوانها (بينالي عواء وبسكويت)، الذي امتاز بمحاولات التغريب والانطواءات داخل اللغة، التي يقول عنها أدونيس: (اللّغةُ أكثرُ مِن وسيلةٍ للنّقلِ أو للتّفاهمِ، إنّها وسيلةُ استبطانٍ واكتشافٍ، ومِن غاياتِها الأولى أن تُثيرَ وتُحرّكَ، وتَهزَّ الأعماقَ، وتفتحَ أبوابَ الاستبطان. إنّها تُهامسُنا لكي نصيرَ أكثرَ ممّا تهامسْنا لكي نتلقّن. إنّها تيّارُ تحوُّلاتٍ، يَغمرُنا بإيحائِهِ وإيقاعِهِ وبُعدِهِ. هذه اللّغةُ فعلٌ، نواةُ حركةٍ، خزّانُ طاقاتٍ، والكلمةُ فيها أكثرُ مِن حروفِها وموسيقاها، لها وراء حروفِها ومقاطعِها دمٌ خاصٌّ، ودورةٌ حياتيّةٌ خاصّة، فهي كيانٌ يَكمُنُ جوهرُهُ في دمِهِ لا في جلدِهِ، وطبيعيٌّ أن تكونَ اللّغةُ هنا إيحاءٌ لا إيضاحًا).مما يدلنا على تنبيه فكتور شكلوفسكي القائل: (ان الهدف من الفن هو منح الاحساس بالاشياء كما تدرك، وليس كما تُعرف وتتمثل تقنية الفن في ان يجعل الموضوعات "غير مألوفة" وان يجعل الاشكال صعبة، وان يزيد صعوبة الادراك وطوله، لان عملية الادراك غاية جمالية في ذاتها ولابد من اطالتها والفن طريقة لتجريب فنية موضوع ما، اما الموضوع فليس بمهم)، ثم انه اشار (بوضوح الى ان "الموضوع" هو خارج دائرة الفن، وهو لايدخلها الا عبر تغريبه، وجعله "شكلا" لانظير له في الواقع، وبدا واضحا ان عملية الادراك الفني هي عملية غير عقلية تماما، ولابد من الاحساس بمتعتها وجعلها تنطوي على غاية جمالية، وان ذلك يتم بطرائق وتقنيات لابد من تعريتها والتعبير بها، فالتغريب يغير من استجابتنا للعالم، ولكن عن طريق تعريض مدركاتنا التي تعودنا عليها الى اجراءات الشكل، كما يرى رامان سلدن)، (وان بناء المعيار الذي تنتقل به المدركات والافعال المألوفة الى الوصف "المغرب"، او غير المألوف هو غير محدود، وقائم على افق مفتوح لتراكم الخرق، ولانهائيته، واندغامه بالاسلوب الذي غالبا ما يؤثر على طبيعة الادراك ومنظوره، عبر وسائله الخاصة الخاضعة لامكانات التجريب المفتوحة)ص124 المفكرة النقدية، وكما اعتقد ان الشاعرة القاضي كانت منطلقاتها التغريب في اللغة، واعتمادها على البناء المقطعي، وفراغات الفضاء الخالي من الكلمات ... تقول:

(الشباك معنون خطأ الى الجدار

السبابة .. كيس الزبالة .. قضما المجرة

وانا الكوة ..

جميعها يتعاطى عنقي ..

محشرجا مثل غابة

مقايضا على بياض :

الصباحات .. بذرق الطيور على المراكب

الاصابع .. بالتربة التي تغطس الجهات

وتجاهر الفخامات بغسق اليف

الوطن .. بحدبة ذلك الزقاق)

 

وهنا المعنى كامن في حالات قلب موضع الكلمة في سياقاتها اللغوية واسنادها بالفراغ، مما جعلني انا المتلقي اقايض البياض وانسق بين مواضع الكلمات واعيد ترتيبها القاموسي ..ثم ان الشاعرة عمدت الى تخطيط شعري لجعل عائلة البيكونا تعويضا انسانيا في رؤيتها وهي تستعير اشياء المكان ومحتويات المحيط وصراع البقاء .. تقول :

(يا ..

بيكونا!

عائلتي !

حارسة ظلي ..

الذي تقرعه الساعات

كلما زحف الى اوراقه

وتعالى في الرنين ..

:

:

تطحنه العجلات ..

الدائرة التي دارت على الباغي

الاعمى، هذا ، عباد الشمس

وشائعة تستعير قامتي ..

كلما نمتُ)

 

وتبقى في صراع وهذيان لاشعوري، رغم هذا نلاحظ محاولات القاضي استعمال القصدية، الا انها بقيت تتعثر بغرابة حد التعمية وقد تُحبط محاولاتها، لتداعي المعاني وتزاحم الكلمات المفتوحة النهايات من ناحية التجانس والافتراق، لكنها في الحتمية التي تقرر استرداد المعنى، انها كونت نسق رافض يعبر عن المرفوضات المحيطية، تقول :

(مجد ينظف صورته على الحائط

وكلما طالت لحيته

اغلق النافذة في مكان بعيد)

 

فكل شعر وكل شاعر يبحث عن منافذ يطل من خلالها على جماليات الاكتشاف، رغم انه يحمل ذات متألمة وكائنة في سماوات الاستحالة (فالشعر في جوهره تيه، بقدر ما هو مشروع لا مكتمل لا يتحدد بهدف غائي، تتوقف عنده حركة الشعرية، ومن ثم فهو ضد الحقيقة التي تظهر كموجود يمارس إكراهاته على الكائن الجوهراني الشعري، إن اللاحقيقة في الشعر هي الوجود الأصلاني المنفتح، أو التجلي الأكثر تميزا في تعدديته. فهو دليل الحيوية الناطقة التي تعري إمكانات العالم التخييلية، التي تحدس بالظن، بقدرات الكائن الشعري التنبؤية. والشعر في إحدى إمكاناته واختياراته الكبرى مساءلة حيوية للوجود. فكيف تتحدد هذه المساءلة؟ أو بالأحرى كيف يثير الشعر أسئلة الوجود التي يعيد من خلالها كشف التوتر الحيوي للوجود الناطق؟)، وبهذا كانت معالجات الشاعرة القاضي متوترة بين المنطق كونها كاتبة رواية وقصة وبين اللامنطق وهو عالم الشعر، مما جعلها تلجأ لعالم التغريب والهروب من المقالة المباشرة تقول :

 

(كان النهار ..

يخز بساق خشبية الزقاق

ويسير ..

في طريق القوافل ينزل خطوته

عن الكتف ..

وتركض خرافها البيض ..

يركض ..

هو المتآمر كلما طيور ضد عشبة

ورأسه يعوي في غرفة مجهرية

لأن طيورا لم تنقر كما جاء في العشبة

باب غرفته المجهرية

أنت السبب يا أمي

متّ مع ذئب ..

كي تنجبي لاينامون

يا أمي ..

ومنذ غرفتي لطائر الخشب

وأنا حكاية اصبعي العاشرة

ي أمي ..)

 

والنهار كنافذة واقعية مضيئة في هذه المقطوعة ، تأتي عليها العتمة تزاحم الكلمات وغرابة ائتلافها وتستمر الغرابة ترافق الشاعرة في صعود الاقبية الى الساحات .. (وتعوي /الساحات لم تنزل الى الاقبية/الاقبية هي التي صعدت)، وتشتد هذيانات اللغة التي تسير عكس ما تواضعت عليه الكلمات من سياقات قاموسية اعتاد عليها المتلقي ، حيث تعد المفارقات اللغوية احدى الاشارات الباثة في هذا الديوان، وهي دعامة لما ذهبت اليه في التغريب والغرابة ..(هي ذي ../مدن تخرج الى البحر/ووتغرق في اليابسة..)، وتعطي الشاعرة لقصيدتها لحظات (وعلى مقعد في مقهى سيرة ذاتية للقصيدة)، وقد تتصاعد محنة الشاعرة وحيرتها، خالقة صراعا لا تستوعبه الكلمات ومساحات الشعر .. (في كتابة /سواداتها سالت/ حيث خيول تمزق ../مجرى قديما لقامتي)، وهكذا تحاصر نفسها في بودقة الكلمات لتعبر عن هذه الفوضى التي تحاول احتواء قلقها دون جدوى .. وتبقي الفراغ مرادفا لكلماتها، كونه كلام مسكوت عنه ممكن استرداد معانيه، وكونه جزءا من العالم الشعري الحديث، و(كي يصبح النص الشعري الحديث بلغته الكيانية الحديثة جزءا من قلق المتلقي وطموحه ووعيه وشخصيته ، وهو يطمح إلى الدخول بها والتواصل معها والتفاعل مع خصوصياتها ، لتنتقل اللغة الشعرية من وظيفتها التوصيلية إلى وظيفة انبعاثي تتدخل في أدق خصوصياتها الشخصية وموقفها من الجمال والفكر والأشياء ، وتعيد صياغتها وإنتاجها من جديد)، وها هي الشاعرة نضال القاضي في مخاضات شعرية، صعودا للعثور على ملاذات آمنة من قلق وسط عواء مستمر، جعلها تكثر من الفراغات والغرابة ويظل ديوانها مثار جدل في الوسط الثقافي ...

 

وجدان عبد العزيز

....................

مصادر البحث:

1ـ كتاب (المفكرة النقدية) الدكتورة بشرى موسى صالح /دار الشؤون الثقافية العامة الطبعة الاولى بغداد 2008م ص 123 و127

2 ـ كتاب (عضوية الأداة الشعرية) أ.د.محمد صابر عبيد سلسلة كتاب جريدة الصباح الثقافي رقم 14 2008م ص62

3 ـ ديوان (بينالي ، عواء وبسكويت) للشاعرة نضال القاضي/ من اصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 الطبعة الاولى بغداد 2013م

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم