صحيفة المثقف

الشيخ الطوسي لمحات من حياته

ali jabaralfatlawiهو الشيخ أبو جعفرمحمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي، ولد في رمضان عام (385 هج)، في مدينة طوس وإليها انتسب فلقب بالشيخ الطوسي، ومدينة طوس (هي من أقدم بلاد فارس وأشهرها وكانت ولا تزال من مراكز العلم ومعاهد الثقافة، لأن فيها قبر الإمام علي الرضا عليه السلام ثامن أئمة الشيعة الإثني عشرية، وهي لذلك مهوى أفئدتهم يقصدونها من الأماكن الشاسعة والبلدان النائية، ويتقاطرون إليها من كل صوب وحدب) (1)

وهذا هو دأب محبي أهل البيت عليهم السلام يقصدونهم من أماكن قريبة وبعيدة تأسيا وحبا وتصميما للسيرعلى نهجهم، واليوم وأنا أكتب هذه السطور وملايين الشيعة ومحبي الأئمة الأطهار يحيون ذكرى أربعينية الإمام الحسين جد الإمام الرضا عليهما السلام، وشهداء الطف الذين معه، في مسيرات مليونية راجلة تحديا لأعداء أهل البيت عليهم السلام من الوهابيين التكفيريين والأمريكان والصهاينة، (المسيرة الحسينية الراجلة تعبير طبيعي عن الوجدان الشعبي للمسلمين ونسق الحب الظاهر للإمام الحسين عليه السلام، ونسق التحدي نسقان جامعان لمشاعر الجماهير المليونية التي تتحرك وفقهما منذ العصر الأموي ولغاية عصرنا الراهن) (2)

الإمام الرضا هو حفيد الإمام الحسين عليهما السلام، دفن الحفيد في طوس فشرّفها بمدفنه، وتحولت إلى موئل للعلماء، ومن أوائل هؤلاء العلماء الذين عاشوا في القرن الخامس الهجري هو الشيخ الطوسي (وفي هذا القرن ازداد ازدهار المؤلفات وكثرت المصنفات، فظهر كتاب (التبيان في علوم القرآن) للشيخ الطوسي) (3)

في عام (408 هج) بلغ عمرالشيخ الطوسي ثلاث وعشرون عاما، فانتقل من طوس إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية، وفي هذه المرحلة تتلمذ على يد زعيم الحوزة العلمية الشيخ محمد بن محمد النعمان الشهير بالشيخ المفيد، وبقي مشدودا إليه حتى وفاة الشيخ المفيد عام (413 هج)، بعدها انتقل للتلمذة على يد السيد المرتضى، وكان الشيخ الطوسي متميزا عن بقية الطلاب في ذكائه (فاهتم به أكثر من سائر تلاميذه، وعين له كل شهر إثني عشر دينارا، وبقي ملازما له طيلة ثلاث وعشرين عاما حتى توفي السيد العظيم سنة (436 هج)، وانتقلت زعامة الطائفة وكرسي البحث والدراسة إلى الشيخ الطوسي واصبح علما للإسلام وملجأ للامة ومنارا للعلوم الإسلامية في العالم إلى يومنا هذا) (4)

لقد ذاع وانتشر الصيت العلمي للشيخ الطوسي في البلدان الإسلامية، فكانت داره في بغداد / الكرخ مقصدا لطلاب العلوم الإسلامية، حتى بلغ عدد من تتلمذ علي يديه من العلماء ثلاثمائة، عدا طلاب العلوم الآخرين من الفضلاء، ولشهرته العلمية الكبيرة وتميزه على علماء عصره في مختلف العلوم الإسلامية ومنها علم الكلام، (انفرد بكرسي علم الكلام بتعيين من الخليفة العباسي القائم بأمر الله عبد الله بن عبد القادر بالله أحمد.. وكان على ذلك من الزعامة حتى سقطت بغداد بيد أتراك السلاجقة)(5)

وصف الكثير من العلماء والباحثين القدامي والمحدثين الشيخ الطوسي بكثير من الصفات لتعدد مواهبه، (كان عالما جاذبا بطريقته، ومقنعا باسلوبه، حتى نُقل عن شيخ الأزهر الأسبق الشيخ عبد المجيد سليم أنه كان كثير الاعجاب بفقه الشيعة منذ أن أهدي إليه كتاب (المبسوط) للشيخ الطوسي، حيث تعرّف على الكتاب واستأنس به، وكان يقول أنه يراجعه في مقدمة الكتب التي راجعها قبل إصدار الفتوى، فإذا رأى فيه ما يقنعه بأنه أفضل مما في مذهبه الفقهي أخذ به.) (6)

اشتهر الشيخ الطوسي أنه محيط بفروع العلوم الإسلامية من أصول وفقه وحديث ولغة وتفسير وعلم الكلام الذي برع فيه كثيرا وعلوم أخرى ، وقد أقرّ بمواهبه هذه علماء عصره والعلماء الذين جاءوا بعده، وصفه الشيخ آغا بزرك الطهراني في تقديمه لكتاب التبيان، بأنه قدوة فقهاء الشيعة، ومؤسس الاجتهاد المطلق في الفقه والأصول، وتُعد كتب الشيخ الطوسي مرجعا للمتأخرين والمتقدمين من العلماء والباحثين، كذلك تكلم عنه السيد ابو القاسم الخوئي بمثل هذا الكلام وعدّه مؤسسا لمرحلة جديدة في تطور الفكر الأصولي والفقهي، وأضاف السيد الخوئي أن الشيخ الطوسي (استطاع بنهضته الجبارة أن يقدم في نتاجه الفقهي الدليل المحسوس على ان الأصول الفكرية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام قادرة على تزويد الفقيه بالمناهج والأدوات الفكرية التي تمكنه من استنباط أي حكم في جميع الوقائع .) (7)

ألّف الشيخ الطوسي الكثير من الكتب، بلغ عددها سبعة وأربعون كتابا، لكن بعضها مفقود، وتفسيره (التبيان) من كتبه المهمة، إذ يعتمد عليه الكثير من المفسرين، ومن كتبه المهمة في الحديث، كتابان معتمدان عند فقهاء الشيعة الإمامية لاستنباط الأحكام الشرعية، هما كتاب (تهذيب الأحكام) وكتاب (الاستبصار فيما اختلف من الأخبار)، وله كتاب (النهاية) في الفقه والفتوى الذي دُرّس في الحوزة العلمية في النجف سنين طويلة، حتى زمان المحقق الحلّي، إذ استبدل بكتاب الحلّي (شرائع الإسلام)، وله كتب أخرى في مختلف فروع المعرفة الإسلامية مثل كتاب (الأبواب) في الرجال، و(أصول العقائد) في علم الكلام، و(الأمالي) في الحديث، و(الإيجاز) في الفرائض، و(الجمل والعقود) في العبادات، إضافة إلى (المبسوط) وكتب أخرى كثيرة.

(إن في مؤلفات شيخ الطائفة ميزة خاصة لا توجد فيما عداها من مؤلفات السلف، وذلك لأنها المنبع الأول والمصدرالوحيد لمعظم مؤلفي القرون الوسطى) (8) في عام (448 هج) ترك الشيخ الطوسي بغداد وهاجر إلى النجف، بسبب غزو السلاجقة الأتراك بغداد بقيادة طغرل بيك، فعاثوا في بغداد فسادا، وخربوا البلاد وقتلوا العباد، إذ شنوا حملة طائفية شعواء على الشيعة، وعلى مراكزهم العلمية والثقافية وعلى رموزهم الدينية، وكان للشيخ الطوسي نصيب كبير من حملتهم الحاقدة، وللعلم إن السلاطين الترك يحملون حقدا طائفيا تأريخيا، تحول بمرور السنوات إلى نسق طائفي تأريخي متسلسل، يبدو ظاهرا مرة وأخرى مضمرا، فلا عجب اليوم عندما نرى تصرفات السلطان التركي (أردوغان) سليل الطائفية السلجوقية العثمانية، وهو يريد أن يعيد تأريخ أجداده من خلال دعمه لمنظمات الإرهاب في سوريا والعراق، إذ اصطف بقوة مع الوهابية، بل تبناها فكريا لينفّس عن حقده التأريخي الطائفي، مدعوما من حكام الخليج الأعراب المنتمين لنفس الفكر الوهابي التكفيري المحسوب على الإسلام ظلما، فتأسست أحزاب ومنظمات إرهابية تكفيرية متلبسة بالإسلام، بدعم قوي من أعداء الإسلام والمسلمين، فحققت هذه التشكيلات التكفيرية السياسية المحسوبة على الإسلام عدة أهداف خدمة لأعداء الإسلام، ومن هذه الأهداف تشوية سمعة الإسلام والمسلمين وتمزيق وحدتهم.

وصل الشيخ الطوسي النجف الأشرف، وأسس (الحوزة العلمية) بشكلها العلمي المنظم، (تلك هي جامعة النجف العظمى التي شيد شيخ الطائفة ركنها الأساسي ووضع حجرها الأول) (9)

رؤية أن الشيخ الطوسي هو المؤسس للحوزة العلمية، تقابلها رؤية أخرى تقول: إن الحوزة العلمية في النجف موجودة قبل مجيء الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف، ولكل رأي دلائله الخاصة، والرأي الذي يميل إلى أن الشيخ الطوسي هو المؤسس يفند دلائل الرأي الآخر، لكن من المؤكد أن الشيخ الطوسي كان له الفضل في تطور وتنظيم عمل الحوزة العلمية والإشراف عليها حتى وفاته في (22 محرم 460 هج)، وقد كان كتابه (النهاية) يدرس لطلاب الحوزة لسنين طويلة حتى استبدل بكتاب (شرائع الاسلام) للعلامة الحلّي.

من الذين يميلون إلى أن الشيخ الطوسي هو المؤسس للحوزة العلمية، الشيخ آغا بزرك الطهراني، إذ قال في ترجمته لحياة الشيخ الطوسي: (إنني أميل إلى القول بأن النجف كانت مأوى للعلماء وناديا للمعارف قبل هجرة الشيخ... كان الفقهاء والمحدثون لا يتجاهرون بشيء مما عندهم وكانوا متبددين حتى عصر الشيخ الطوسي وإلى أيامه، وبعد هجرته انتظم الوضع الدراسي وتشكلت الحلقات كما لا يخفى على من راجع (آمالي الشيخ الطوسي) الذي كان يمليه على تلامذته.)(10)

وأنا كباحث أميل إلى رأي الشيخ الطهراني كونه هو الأقرب إلى الواقع، وتؤيده الدلائل التأريخية، فالشيخ الطوسي هو المؤسس للحوزة العلمية بطريقتها العلمية المنتظمة .

 

علي جابر الفتلاوي

.........................

المصادر

1 و8 و9 و 10– الطهراني، آغا بزرك، ترجمته لحياة الطوسي في التبيان، ج1 2– الفتلاوي، علي جبار، قراءات .

3 – العطار، داود، موجز علوم القرآن.

4 و5 – الغروي، السيد محمد، مع علماء النجف، م1 .

6 و 7 - الموسوعة الحرة .

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم