صحيفة المثقف

الكتل التعبيرية المتوهجة عند كريم عبد الله

anwar ghaniالتوهج النصي المتقوم بالادهاش والتكثيف من اهم مميزات كتابات كريم عبد الله، والظاهر لكل من يطالع اي نص من نصوص كريم عبد الله يجده لا يقبل ابدا ان يكتب نصا الا بكلمات متوهجة تتلألأ. انك حينما تقرأ نصا لكريم عبد الله تشعر وكأنك ترى سماء صافية ونجوم مشعة تبهر وتدهش .

هنا سنحاول تتبع الخصائص الابداعية في كتابات كريم عبد الله والتي تعطيها هذا الوهج الجمالي الفتان، والميزة الاهم لكتابات كريم عبد الله الجمع بين الفنية العالية بمثل هذا التوهج النادر وبين العذوبة والقرب وفي الواقع اننا ندعو دائما الى ادب قريب وممتع وفي نفس الوقت احترافي وعالي الفنية، يجمع بين الابداع والقرب وبين الفنية العالية والامتاع، وهذا ما لا يجيده الا قليليون من كتاب الادب اليوم، لكن وبصراحة الشعر السردي والسردية التعبيرية قد مهدت الارضية لهكذا ادب نادر وفذ، وشعراء مجموعة الشعر السردي قد حققوا تلك الغايات، وهذا امر مهم وتأريخي .

هنا سنحاول تتبع تلك الميزات والخصائص الجمالية والتعبيرية في قصيدة (كلّما أناديكِ تتعطّرُ حنجرتي) وهي نموذج لكتابات كريم عبد الله في هذا الشكل الكتابي .

كريم عبد الله؛ كلّما أناديكِ تتعطّرُ حنجرتي

هذا النص قصيدة تعبيرية باسلوب الشعر السردي، يجمع بين البوح الرقيق والقرب والامتاع وبين التوهج العالي للمفردات والتراكيب والفنية العالية محققا كما وكيفا ابداعيا حسب قانون الابداع في جوانب معادلته من الاصالة والتجديد والرسالية .

بخلاف الفنون البصرية فان الكتلة التعبيرية – وهي الوحدة المادية التي يشتغل عليها المبدع لانتاج فنه – والتي تتوحد في الفنون البصرية، فانها في الفنون السعمية كالنص هي في الاصل متعددة، فالوحدة الكتابية في الاصل تعتمد البناء الطولي الزماني وليس العرضي المكاني البصري، فلدينا المفردة ثم الاسناد بين مفردتين او اكثر ثم الجملة ثم النص، فهذه اربع وحدات كتابية كل منها يمكن ان تكون كتلة تعبيرية ابداعية . ولقد اجاد كريم عبد الله في ابداعه الادبي على المستويات الاربعة، فعلى مستوى المفردة هو معروف باستخدام خاص للمفرادت والتطعيمات وعلى مستوى النص هو معروف بالنص المفتوح والمجانية وعلى مستوى الجملة ايضا معروفة كتابته بالكثافة والومضة والضربة الشعورية، واما على مستوى الاسناد وهو العمل على جزء الجملة فهذا مما يتقنه كريم عبد الله فعلا وهو ما خصصنا هذا المقال له لان الحديث عن المستويات الاربعة يطول فعلا، كما ان كلامنا هنا اي على مستوى الاسناد وجزء الجملة سيكون نموذجا لتبين جماليات التعبير عند كريم عبدالله في المستويات الاخرى .

و بخصوص الفردية والاسلوب الخاص الذي تتميز به كتابات كريم عبد الله، فان اي متتبع ومتأمل في تلك لكتابات سيجد واضحا الضربة التأثيرية التي يعتمدها كريم عبد الله في اجزاء الجمل معطيا اياها توهجها الخاص المستقل عن الجملة، بمعنى اخر ان كريم عبد الله ليس فقط يعمد الى التأثير الجملي وتوهج الجملة الشعرية، بل انه يعمد الى تركيب الجملة وتكوينها من اجزاء متوهجة لها تأثيرها الجمالي الخاص .

ان فهمنا للكتلة التعبيرية كمؤثر جمالي ضمن ادوات النقد التعبيري يختلف عن الفهم الاسلوبي له الذي يتمحور حول الشكل والنص والعلاقات النصية لذلك كان الانحراف والانزياح والذي هو فهم متطور للمجاز مركزيا في الاسلوبية. اما النقد التعبيري الذي نتبناه فانه ينظر الى التوهج اكثر من النظر الى الانحراف، ويرى الفردية والتفرد في تلك القدرة على تعظيم الطاقات التوهجية للوحدات التعبيرية، وما الانزياح الى جزء من ذلك التوهج، ذلك التوهج الذي يمتد في عمق النص باعتباره كلاما ونظاما لغويا وفي الانظمة الماوراء نصية باعتبارها انظمة جمالية وتأثيرية وشعورية وانسانية، بمعنى اخر ان النقد التعبيري يهتم بالانظمة الجمالية للوحدات التعبيرية اللغوية اكثر من لغويتها ونصيتها . وهذا الفهم يعطي مساحة وفهم اوسع للظواهر الجمالية والادبية . لذلك يمكننا وصف النقد التعبيري بانه تجاوز للفهم الاسلوبي وانه يمثل مرحلة (ما بعد الاسلوبية) للحقائق التي بيناها .

في قصيدة (كلما أناديك تتعطر حنجرتي) واضافة الى نراه من ان هذا العنوان وحده نص تقليلي متكامل، وبجانب الابهار والضربة الشعورية والجمالية في هذه الجملية الشرطية والرابطة الانسانية العميقة التي يصورها، فاننا نلاحظ ان التوهج في عبارة ( تتعطر حنجرتي) غير مقتصرا على الانزياح، وانما هناك عمق تعبيري حقيقي، وأثر جمالي يعطي للكلمات معان اخرى وهذا ما نسميه (الرمزية النصية) حيث تصبح للكلمات رمزية ومعان تختلف عن معناها ودلالاتها خارجه، كما ان هذا التوصيف للشعور الانساني الذي يصف بها الشاعر نفسه، اي تعطر حنجرته يعد من حالات بلوغ الحدود الشعورية القوى، اي ان المعبرقد بلغ اقصى درجات ومستويات التجربة الانسانية في هذا الشأن وهذا حقيقة يذكرنا بالشعر العذري عند العرب، حيث انهم يبلغون مثل تلك المستويات القوية جدا في تعبيراتهم وتعلقهم ووضعهم الانساني مع من يحبون، ولقد وصفناه في كتابات لنا (بالبوح الاقصى) وهذا بلا ريب عامل من عوامل الصدمة وكاشف عن معادل جمالي عميق يتحرك في مجال ما وراء النص في وعي القارئ والانسانية . ومن المهم التأكيد ان التأثير التعبيري والجمالي والشعوري عموما بل والانساني لا يوجد في النص حقيقة بل يوجد في عوامل الوعي الانساني والمجالات الجمالية واللغوية الماوراء نصية، ووظيفة الشاعر ليس اختيارات نصية فقط، بل اختيارات ماوراء نصية، بل الشاعرية تكمن في امساك الشاعر بتلك المعارف الماوراء نصية ثم يترجمها الى عوامل نصية تعبيرية .

ان كريم عبد الله في نصه هذا لا يرى الكلمات فقط بل يرى الشعور الانساني حتى انك تشعر انه عوالم شعورية وتأثيرية عميق في الوعي قبل ان يرى التعابير مكتوبة وهذا ما بديع الادب فعلا، اذ يقول في قصيدته هذه :

(هذا الأثيرُ يحملُ عطرَ تصاويركِ وحدها تتفتّحُ في ليلِ عيوني)

العذوبة والهزة لا تكمن في التصوير البديع والبوح الرقيق، وانما في الوقفات الانسانية في اجزاء هذه الجملة،حيث نجد عمقا صوتيا شعوريا في اسم الاشارة وبدله في عبارة ( هذا الاثير ) وفي الحقيقة لا يعطينا كريم عبد الله وفي بداية قصيدته الا ان نلفظ هذه العبارة بهذه الكيفية (هذااااااااا.. أل …أثيييييييي…ر) وبقدر النًفًس وعمقه تضرب هذه العبارة في عمق الانسانية والشعور الانساني، وتخبرنا وبوضوح ان الادب ليس نصا فقط بل هو عالم كبير واسع، ثم يتقدم الشاعر في بناءاته الكتابية حتى يصل الى كتلة تعبيرية اخرى ايضا تضرب في العمق تتمثل بعبارة (عطر تصاويرك) ومن الواضح اتقان كريم عبد الله لتجريد الاشياء من خصائصها المعروفة وتحويلها الى كيانات اخرى فالبصري المادي الجمادي يلبس صفة العطر وهذا المجاز والانحراف بل والمجانية احيانا وان كان فنا عاليا وبديعا لكن في العبارة وكما اشرنا ما هو اكثر عمقا وابهارا الا وهو رؤية الشعور الانساني وتجسيده وتجلي الأثر الجمالية، أي رؤية الكيانات والانظمة الماوراء نصية العميقة في الوعي المنتجة لكم كبير من المعاني الجمالية والتأثيرية اللانصية وتجليها بقوة في الكتابةو لقد نجح الشاعر في ذلك.

تتكرر هذا الظاهرة الابداعية في باقي مقاطع النص حتى يقدم لنا الشاعر لوحة فريدة تقول كل شيء وتبوح بكل شيء وتدخل في مصافي البوح الانساني الجميل بما بذل الشاعر فيه من وقفات تعبيرية وما قصده من تأثير جمالي وشعوري وتوهج للمعاني في الوعي الانساني الكبير والعميق . ففي مقطع اخر:

(تمطرُ أحلاماً غزيرةً تسبحُ في ينابيعها الجديدةِ أصواتُ صبواتي) وايضا يتكرر البوح التعبيري الاقصى وبلوغ المستويات العليا من البوح والتعبير بعبارة (تمطر احلاما) وهو المناسب لهذا النص الوجداني الجياش .

و هكذا نجد ذلك الاداء وتلك القوة التعبيرية والطاقات الواضحة في اجزاء الجمل كعبارات (ألمَّ بريقَ عينيكِ) و(النجوم تستجدي أنْ تغسلَ عتمتها) ولا نحتاج الى كلام للاشارة الى بلوغ اعلى مستويات الانبهار الذي حل بالشاعر تجاه المثال الذي يحاكيه متمثلا في (عتمة النجوم)، وعبارة (أكاليلُ الأزهار تصطفُّ كلَّ صباحٍ على شرفتكِ) وعبارة (أسرابٌ مِنَ الطيور تحطّ ّ ُ على مائدتكِ لعلَّ فُتاتَ صوتك يجعلها تغرّدُ) وعبارة (فقبلَ أنْ أناديكِ تتعطّرُ حنجرتي) لقد اراد كريم عبد الله ان يكتب هذه التجربة الانسانية الرفيعة قصيدة خالدة حيث يقول (فأكتبكِ قصيدة خالدة) وقد نجح فعلا .

 

د أنور غني الموسوي ؛

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم