صحيفة المثقف

تبقى في رؤية الشاعرة جودة بلغيث:

wejdan abdulaziz(الحقيقةُ أبعدُ من الأفق)، لكنها (أقربُ من الحلُم...)

وانا في قارب وسط العتمة، كان الرعب آخذا بخناقي، اتحسس حروف الورقة التي تحمل كلمات، تتدفق منها انفعالات لذات قلقة رغم انها ذات حلم اخضر وهاديء، وهناك اسئلة تتكور في البحث عن الذات والشاعرة جودة بلغيث، حيث تقول:

(يرتمي النّورس في حضن المدى

الشّوق يسأله :

إلى أين .....؟؟؟؟

متى السّكن؟؟؟....متى السّكينة؟؟

 

هذي أنا

و المرايا وسع السّماء

تبتلع صوتي...

على عتباتها تتشظّى صورتي

أناءااااات

أضيع بينها و بين المرايا

فأين أنا منّي؟؟ و أين منّي أنا؟؟)

 

وهنا حاولت الشاعرة، باثارة تلك الاسئلة ان تصوغ افكارها من خلال ما يثير مشاعرها الذاتية، وكما نعلم ليس شرطا أن يعيش الشاعر التجربة بصورة فعلية وإنما ينفعل معها وجدانيا بحيث يمتزج معها بشعوره وإحساسه، فيعبر عنها بصدق . وقد يلجأ الشعراء للخيال معبرين عن أساهم وألمهم وضيقهم بهذا الواقع ولذلك راحوا يتغنون بماضي الإنسانية الفطرية السعيدة، وبمظاهر الطبيعة الجميلة، وهربوا إلى مشاعرهم الدفينة ودخيلة نفوسهم، ونسجوا في خيالهم عالما آخرا يتصف بالعدل والخير والجمال والمثل العليا . وبالرغم من استغراقهم في ذاتيتهم واهتمامهم بالخيال إلا أنهم لم يهملوا البعد الإنساني فتعاطفوا مع المظلومين وثاروا ضد الظالمين متجاوبين مع آمال الناس وقضاياهم ومثلهم في زمانهم، وحركوا مجتمعاتهم في سبيل مستقبل أفضل يدعون إليه ؛ ولذلك جاء شعرهم يفيض بإحساسهم الحاد بأنفسهم وذواتهم وبما تنبض به مجتمعاتهم؛ ولذلك تحس عندهم بخفايا نفوسهم ومكنونات عصورهم .

وكان الإحساس بالألم وأثره العميق هو مظهر من مظاهر الذاتية الفردية التي يتألف منها الوجدان بمشاعره المتناقضة، ويأخذ مظهرين : التفاؤل والتشاؤم وذلك بحسب الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر لحظة الإبداع فهو متفاءل عند شعوره بالقوة والقدرة على مواجهة الأزمات وتحدي الصعاب، وعندما يكون محبطا يائسا ضعيفا قانطا يصبغ التشاؤم عمله الأدبي ؛ ولذلك كان شعرهم يفيض باللذة والفرح والسرور تارة ويفيض تارة أخرى بالحزن والألم والهم الدافق العميق .وهنا الشاعرة افترضت بياض نوياها بقرينة النورس، فهي التي تسأل، وهي التي تحاول الاجابة، فهل تصل الى الحقيقة .. بينما (الهُوّةُ مسافة عُمْر) في رؤية الشاعرة، فهل تستطيع اللحاق بسنين العمر، لتجترح مسافة اخرى، بلا ادنى شك هي مسافة جمالية، فـ(مرتبة الجمال ترتفع عند أفلاطون لتصل حدا يعبر فيه الحب الحقيقي هو حب الجمال وان الجمال هو الله وبلوغ إدراك ذلك يصل بالمحب إلى نسيان ذاته , فيندمج مع البحث الهادف إلى إدراك أسرار الكون وتأمل أجزائه والتي تؤدي إلى إدراك جمال الحقيقة الإلهية , فأي شيء جميل فهو مستمد جماله من الله ذاته .)، لكن (نرى أرسطو في موقفه الجمالي مثاليا واقعيا مخالفا أستاذه أفلاطون في أن الفن إذا كان محاكاة فانه أعظم من الحقيقة لأنه يتمم ما تعجز عنه الطبيعة في إتمامه , فالمحاكاة عنده ليست سلبية بل عليها أن تطور وتبنى فالفنان يقوِّم الطبيعة ويطورها نحو الأفضل وبرأيه فهذه هي اجل مهمات الفن .

كما خالف أستاذه أفلاطون في نظرته للفن على انه نتاج للعواطف الإنسانية في حين نظر إليه أفلاطون - كما أشرنا - أنه إلهام إلهي .

فالعملية الإبداعية عند أرسطو عملية إنسانية مرنة يقودها الفنان ذاته ليكشف عن مكامن الجمال في عامل الحس والواقع)، وتستمر الشاعرة جودة ترسم مسارات بحثها، عما هو روحي تميل له الروح لذاته الجميلة، كي تحدث معانقة بين ذات الجمال وذاتها كونها شاعرة تبحث عن الملاذات وتجترح سلالم للهروب من خلالها الى مسافات تسمو وتلاحق الجمال اينما ارتفع .. كما في قولها :

 

(لصدى الرّيح تعزفني الأماني

نشيدا على وتر الشّوق

رجْعُ صدى الأنين يُعرّيني

جرحا علّمَ

وشما أمازيغيا على منبع الحنين

و الآهةُ جبل صقيع

 

أحجّ إلى كعبة روحك

و أطوف أطوف

من زمزم عينيك أرتوي

دهشةَ اليقين أترجّى

بين الصّفاء و المروى سبعا و سبعا أسعى

سارّة الصّبر أنا ...

حين وليدها بكى ظمأ)

فالاهة عند الشاعرة جبل صقيع، بدالة دهشة اليقين، لهذا تحزم امرها للحج الى كعبة روحه .. من هو؟؟ فتستعير آلية الحج عساها ان ترتوي من زمزم عينيه، افتراضا هو الطهر والجمال والامان والايمان، بعلامة امازيعية، أي باستحضار الواقع المتخيل، وهذا شكل عمقا رؤيويا لدي الشاعرة جودة بلغيث، فـ(ليس ثمة عمل ابداعي بلا رعشة جمالية، انها عنصر اساس من جماليات الفنون، حتى الاكتشافات العلمية تشكل فيها هذه الرعشة انعطافا خطيرا في لحظة الاكتشاف، لكن الذي ندعو اليه هنا ان يتحلى الانفعال في النص الشعري عن أوليته وسذاجته وقابليته المنفلتة على البوح، ويتحول بفعل قوة العقل ـ التي يجب ان تسيطر على تيار الانفعال وعلى وفق ضوابطها وقوانينها ـ الى اثر ابداعي ذي بنية معرفية خاصة ممغنطة بالانفعال ومسحورة بطاقة غناء فذة في عمقها وكثافتها)، كما يقول الاستاذ الدكتور محمد صابر عبيد في كتابه تمظهرات القصيدة الجديدة ص9، لتبقى في رؤية الشاعرة (الحقيقةُ أبعدُ من الأفق)، لكنها (أقربُ من الحلُم...)

 

وجدان عبدالعزيز

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم