صحيفة المثقف

في التباس الحب والتباس العلامة.. قراءة في نص للشاعرة منال سركيس

 لم أبلغ بعد عمر القناع

لأعرف كيف أبقيك

ما زلت ألوح بحزني الوفي

خوف اختناقي

و ما زلت تتقن صمتك

ويتقن الحب

موته البطيء في اللامبالاة

أنت عمر الهواء في الأنفاس

و أنا بضع حروف في شفتيك

غريبة عنك

كغربة الحب في قبلة يهوذا

قريب

كقرب الصلب في جسد المسيح

أكمل بالموت

مراسم الدين الجديد

 

القراءة :

("..الذي معه كانت تحلو لنا العشرة.." مز 55: 14)

يتعلق الشعر بلحظات نادرة لا يلتقطها إلا الشعراء، هي لحظات الرعب وفاجعة الفقد والموت والفناء، في كل الصور التي تتشكل فيها هذه المعاني.. ولعل فناء الحب أو موته هو أشدّ وقعا وأوجع ألما وأعمق أثرا، وأكثر اتصالا بالشعر خصوصا، وبالفن عموما..

ويتمايز قائلو الفناء بمدى القدرة على تشكيله الشعريّ بيانا وتخييلا وإشراكا في لحظة الرعب هذه..

وفي هذا النص للشاعرة منال سركيس جهد فني لافت في قول الفناء وتحويل لحظته والوعي بها لحظة إبداع وجمال، فيتشارط الرعب والجمال، وتجد النفس في الشعر مجالا للنطق بالحقيقة الصادمة القاتلة التي لا يقولها خطاب الواقع والعقل والمنطق الجماعي الاجتماعيّ..

لذلك جاء هذا النص مركبا، من حيث أنك لا تستطيع أن تمضي في قراءته وفق فهم واحد بسيط.. وتركيبه هذا هو أحد أسراره ومداخله الجيدة.. فهو في موت الحب أو رثائه أو طلبه، أو هو في غربة الإنسان عن الإنسان.. أو عن الحب أصلا.. وهو أيضا في العجز عن الحب، عن الموت، عن الحسم، عن البقاء، عن الرحيل..وهو في النهاية في الإيمان بالحبّ واتّخاذه دينا...

وهو أيضا في "الخيانة" لا في معناها العامّيّ بل في معناها الوجوديّ غير المعياريّ إن جازت العبارة.. ونرى في ثنائية يهوذا والمسيح ما يمثّل عصبا محوريّا وقطب الرحى الذي عليه وحوله مدار القول الشعريّ.. ففي هذه الصورة (قبلة يهوذا) وجدت الشاعرة ضالتها الشعرية التصويرية الإيحائيّة، وجعلت منها بؤرة التوتر الشعريّ المركزيّة، وحولها نشأت كل المكونات الشعرية، وإليها ارتدّت..

ونرى في معنى الالتباس ما يمكن أن نحاول به فهم هذا الكون المرعب الذي تدخلنا فيه الشاعرة، لنجد أنفسنا نحيا في عمق كون ملتبس، ثنائيّ أو متعدّد الدلالات، فيجاور المعنى اللاّمعنى، ويكون الوجود في صورة العدم، وتقال العبارة لتعني غير ما يعنيه ظاهرها..

وهذا مستوى من الالتباس اشتغلت عليه الشاعرة، وجعلته ربما مدار اهتمامها ورعبها الحقيقي.. ليكون التباس العلامة هو أفظع ما نحياه من انفصام..

وفي "القبلة"، من حيث هي علامة، مدخل رائع لتفكيك هذا الالتباس المرعب وسبر أثره في وجدان الشاعرة وذهنها عموما.. فهي "اللفظ" الذي يصطلح على ربطه دلاليّا بالحبّ، إلاّ أنّ هذا الوصل الدلاليّ العرفيّ الآليّ ينقطع بما تجتلبه الشاعرة من الرمز المستقى من السيرة اليسوعية، لينشأ اقتران بديل، بين القبلة والخيانة، ليعني "اللفظ" غير ما وضع له في الأصل، أي ليعني ضد ما يدل عليه في الذهن..

وحين ينهار هذا النظام الدلاليّ يكون ذاك دليلا على انهيار أبشع، يتعلق بالحب ذاته عمادا لوجود حلمت به الشاعرة، وهي الآن تفتح عينيها على زيفه وزواله.. فتتألم وهي عليمة كما كان يسوع عليما بالخيانة قبل وقوعها، مشفقا على يهوذا رفيقا به غير كاره.. كذلك هي، تبني خطابها عن علم، بلا صراخ ولا عويل، بكل الحزن وكل الوضوح الفاجع، وكل التسليم..

لكل ذلك بدا النص قائما على إيقاع تقابليّ حادّ، متوتّر، تقوله اللغة في مختلف تجلياتها الخطابيّة (المعجمية والتركيبية والبلاغيّة.)..وهذا التقابل يتنزل في ثلاث مستويات:

• مستوى الذات(المتكلمة)

• مستوى المخاطب

• مستوى العلاقة بينهما

 

1) مستوى الذات:

تتحدد الذات المتكلمة عاشقة مجردة من معرفة ما.. كيانا منزّلا في طور زمنيّ يجعله قاصرا عن "كيفية الإبقاء" وهي "كيفية" مرتهنة ببلوغ طور عمريّ تقدمه الشاعرة بعنوان

" القناع".. فينشأ تلازم تناسبيّ بين "النضج" القناعيّ والقدرة على الإبقاء، أي الاحتفاظ بالشخص أو بالعلاقة في سياق انفصاميّ لا تناسب ولا انسجام فيه بين الباطن والظاهر، أو بين العلانية والسرّو، أو بين ما يقال ولا يقال.. وهذا باب من أبواب هذا النص إذا اعتبرنا أن الشاعرة تأبى التقنّع والتظاهر بما لا يناسب حقيقتها الباطنة.. فهي العاشقة الشابّة ذات القلب الفتيّ الذي لم يبلغ بعد سن الكهولة والعمل بمقتضى العرف والمنطق والعقل، في سياق العلاقة كما تمليها "قواعد العيش ...":

 

لم أبلغ بعد عمر القناع

لأعرف كيف أبقيك

فمنذ المطلع تكشف المتكلمة في خطابها عن مقوم أساسيّ من مقومات هويتها، وهو الصدق ونبذ الزيف والاصطناع.. وهي كاشفة عن معيار تصنيفيّ زمني ينقسم به البشر صنفين : من لم يبلغوا عمر القناع، وهو عمر الصدق .. ومن بلغوا عمر القناع، وهو عمر الزيف وحفظ "العلاقة"..

والفارق بين العمرين هو فارق بين "معرفة" تترجم في قدرة على اتخاذ موقف أو بناء علاقة على ما لا يطابق الحقيقة، و"جهل" يترجم في ضرب من "العجز" الذي ينقلب قدرة على اتخاذ موقف عنيف يبطل علاقة كانت تبدو في الماضي متينة البنيان العاطفي..

وفي هذا السياق يمكن أن ينقلب الموقعان إن أردنا المضيّ بعيدا في سبر هذه الثنائيّة، فنعتبر من يبدو قادرا عاجزا في الحقيقة، من يبدو عاجزا قادرا في الحقيقة..

والأهم من هذا أن الشاعرة تنطلق من حس زمنيّ وجداني رهيف جدا، يمكنها من التقاط التحولات التي يحدثها الزمن في الذات الإنسانيّة وهي تمارس" لعبة الحب" التراجيدية المدمّرة..

وهي عليمة أنها لم تبلغ "بعد" عمر القناع، ولكنها بالغته في المقبل من الأيام.. وربما تكون عندئذ قادرة على الموقف الذي تأباه وتقصر عنه الآن (الإبقاء عليه)..لذلك يبدو النص إعلانا للرحيل أو القطيعة، بصورة ما...

وفي الديمومة الزمنيّة الوجدانيّة التي يبرزها الناسخ الفعليّ (مازال) المتصدر للوصف، ما يؤكد التقابل بين الحال الراهنة المفتوحة والحال المقبلة المحتملة، لأنّ في (مازال) وفي (بعد) ما يشي بإمكان الانقطاع لما هو راهن وظهور ما يقلب الحال..والحال من الحول أي من التغيّر والتقلب والنسخ..:

 

ما زلت ألوح بحزني الوفي

خوف اختناقي..

وفي الحزن مقدمة للخوف، وحجّة لرفض المضي في درب الزيف والحب الكاذب، فالشاعرة عاجزة عن هذه اللعبة القاتلة (خوف اختناقي) مصممة تصميما دراميّا على هدم البناء المتهاوي أصلا.. عاجزة على ألاّ تكون إلاّ هي.. ولذلك كانت ذاتها متكلما وموضوعا للخطاب من حيث أنها كائن هشّ غريب عن هذا العالم المتحوّل الخالي من الثوابت والمطلقات القيمية، الذي يؤول فيه كل شيء إلى الفناء...وهو عالم موسوم أساسا بموت الحبّ..وهذا ما يشكّل مدار الرعب الأساسيّ في النص..ومن وراء ذلك أو بجانبه يقف الإنسان صورة لذاك الموت..

 

2) في مستوى المخاطب..

يتجلّى المخاطب قادحا للخطاب، شريكا في الفاجعة، صورة لمحبوب ينهار صرحها الذي كان، فتبدّت فيه ملامح لم تكن:

ومازلت تتقن صمتك...

فيرتقي الصمت ليكون اللغة الأخرى أو العلامة المفتوحة على اللاّشيء، خصوصا حين يقترن بالامتداد (مازلت) فيوحي بانقطاع التواصل وحلول اللامبالاة محلّ القيمة

تبرز في خطاب الحبّ الذي انقطع واستحال..وفي هذا وجه بارز من وجوه الرعب في عالم لا يتكلّم فيه النّاس ولا يتواصلون، فيخيّم عليهم الصّمت، مقدّمة للموت: موت العواطف..موت الحبّ..وليس أثقل من صمت حبيبين كانا حبيبين فأضحيا كائنين صامتين..ولكن الشاعرة تكلّمت، فقالت ما لم يجرؤ المخاطب على قوله، أو هو قاله على نحو آخر، باللغة الأخرى التي "يتقنها"..ويشاركه الحبّ، بمعنى ما، في إتقانها :

 

                           ويتقن الحبّ موته البطيء

                                     في اللامبالاة...

وبذلك يتنامي البناء الدلاليّ للنص من الأطراف أو هوامش التجربة أو خاصياتها، إلى مركزها وعمقها وجوهرها، ويتجلّى ذلك في التدرّج من الحزن إلى الخوف فالصمت فاللامبالاة، فالموت..موت الحب.. موت الإنسان...

هكذا تكون المعاينة الفاجعة للوجود الإنسانيّ الموسوم بالخيبة والعجز عن الحبّ، والوقوع أبدا فريسة سائغة للموت، لا حين يموت بل حين يصبح عاجزا عن الحبّ..

 

3) مستوى العلاقة بينهما..

هذه العلاقة تصوغها الشاعرة "شعريّا" فتجرّدها من يوميّتها دون فصلها عن إيقاع الحياة، وتجليها لنا، فإذا هي محصّلة التفاعل بين الطرفين، بما فيه يشتركان، وما به يفترقان أو يتقابلان، وما يمثله أحدهما بالنسبة إلى الآخر:

 

                         أنت عمر الهواء في الأنفاس

                         وأنا بضع حروف في شفتيك..

 

ولا يخفى ما تشترك فيه الصّورتان من إيحاء بالقلّة والخطّيّة والعبور والانقضاء والزوال..فالموت..وهذا الاشتراك يخرج التجربة من مألوف الخطابات، فلا نكون بإزاء اتهام أو حساب، بل بإزاء رثاء للذات والآخر..إلاّ إذا فهمنا الصورة الأولى على وجه آخر..وقد يكون في هذا   انسجام مع ما يأتي وما كان من النص..فلعلّ المخاطب في وجدان المتكلمة وكيانها صنو للحياة وشرط للكون، مثلما يكون الهواء شرطا للبقاء والاستمرار في الوجود:

أنت عمر الهواء في الأنفاس...

فهو إذن ذاك المطلق الملازم للوجود مادام الوجود، ومادام هو شرطا للوجود..فنخرج نهائيّا من سياق التسوية إلى سياق التناقض..وكذلك يكون النص منسجم التركيب في مختلف مكوناته، لتتجلّى بصورة أبرز مظاهر التباين بين طرفي العلاقة:

 

                                        

غريبة عنك

كغربة الحب في قبلة يهوذا

قريب

كقرب الصلب في جسد المسيح

 

وفي هذا الموضع من تنامي النصّ مبلغ الذروة والسّنام، دلالة وفنّا، فتكون الغربة أكمل الوصف للمتكلمة، تبيانا لمعنى المسافة والتّنائي بينها وبين المخاطب، ويجد المخاطب كمال صورته الفاجعة في "قبلة يهوذا" وما تعنيه من هوّة بينه وبين الحبّ، وما تبرزه من خيانة تجرّده تماما من المقومات التي تجعله حبيبا.. فيحلّ قربه موتا محدقا محل قربه محبوبا، وتتماهى الشاعرة في النهاية مع الرمز اليسوعيّ الثريّ، لتكون غربتها غربته، ويكون صلبه صلبها..هي التي تماهت والحب، ونشرته، وانتهت إلى "الفداء" لتظل أبدا مؤمنة بالحبّ دينا:

أكمل بالموت

مراسم الدين الجديد..

وهكذا تراوحت القصيدة بين الحزن والخيبة والقسوة والألم والعنف والأسى والغربة والرثاء.. ولكنها انتهت إلى مستقر دلاليّ اعتصرت فيه كل هذه المعاني في معنى مشتق من الرمز اليسوعيّ، وهو الإيمان المطلق بالحبّ دينا..وهذا جوهر الرسالة الشعريّة ...

 

الحبيب بالحاج سالم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم