صحيفة المثقف

اغفرلهم يا أبتي

ibrahim yousifمادونا عسكر شمعة المعابد

وابنة أوديسيوس من أبطال طروادة

كاتبة مؤمنة وصلبة بلغت بر الأمان

على ظهر زورق مقلوب

من أجلها كتبتُ هذه الكلمات

 

أنا مخلوقٌ في مواصفاتِ الحَمَل، "عاقلٌ" وعاطفيٌ وضعيف، متردد أيضاً وكثيرُ الهَمّ والشكوى. أغرقُ في شبرٍ من الماء.. هكذا تحوَّلتُ بتأثيرِ ما ألمَّ بنا من أربعِ رياحِ الأرض في الشرقِ والغرب، وما ورأيتُ من فظاعةِ الجهلِ والحقدِ والحرب. لا صبرَ لي على الشدائدِ والمحن. بكيتُ في طفولتي بسببِ الخوفِ والفقر والقهر، ولم تَخُنِّي دُموعي في كِبَري بفعلِ القسوة والمواقفِ المحزنة والهزائم وأفلامِ الهندِ العاطفية، وكيفَ "ضاعَ العمرُ هَباءً يا ولدي".

وما يجري من سفكٍ للدماءِ في كلِّ مكان، من الأسبابِ التي تحملُني مرةً أخرى على البكاء. ولا أدري أيُّ دَعيٍّ أو "قوّاد " ولن أعتذر عن هذا التعبير المناسب الوضيع.. من يرى في أرضِ الشِّعْرِ والأنبياء، طفلاً يتيماً قُتِلَ أبوه جهلاً وظلماً وأرملةٌ مهجَّرَة من دارها وديارها، يكسو محياها الذل والكرامةُ المهدورة؛ تعرضُ نفسها على من يرغب..؟ وتجدُ دائماً من يشتري. ثم يكذب ويكابر ويدَّعي أن الرجلَ لا يبكي..!؟ هل هكذا يا سادة يا كرام.. "لا يَسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى" وقد أرِيْقَتْ من أجله الكرامةُ والدماء..!؟ فأيُّ ضيمٍ في البكاء ما دامَ يفرِّجُ الهمّ ويَقِلُّ إيلاماً عن الهروبِ إلى الموت..!؟

أمَّا مسموعاتي فمشكورةٌ بينَ الناس والحمدُ لله. لا أضمرُ إلاّ الخيرَ للجميع لا أستثني منهم أحدا. اعتنيتُ جيداً بتربية أولادي وتعليمهم، وبذلتُ جهداً شاقاً فتمكنتُ من مواكبةِ ما أحتاجُهُ من حضارةِ العصر. أمينٌ في عملي، مخلصٌ لأسرتي وأصحابي، أحبُّ بلدي وأبناءَه بلا تمييز، وأردِّدُ نشيدَهُ بالصوتِ العالي في المناسباتِ الوطنيةِ المجيدة، بل أحبُّ شعوبَ الأرضِ قاطبةً، وأحترمُ أوطانَها ومبادئَها.

تمسَّكتُ بالبقاءِ في أرضي، إبَّانَ الحربِ الأهليةِ على الامتيازات بين مختلفِ الطوائفِ والعقائدِ والمِلل، وبقيتُ على الحياد، فلم أشهرْ سلاحاً في وجهِ أحد، ولم أغادرْ إلى أمكنةٍ أكثر أماناً كانت متاحةً في بلدانٍ عديدة، ومع القرارِ الخارجي "بالمصالحة الوطنيَّة " على أرضٍ صديقة، ارتاحتْ أحوالُنا قليلاً وأما الامتيازات فبقيتْ كما هي.. لكنها انتقلتْ من طائفةٍ إلى أخرى. قَضَى مَنْ قَضَى ومن ماتَ ماتَ بلا ثمن، وانتهى الأمرُ بالعناق "بلا غالبٍ ولا مغلوب"، "وملوكُ الطوائفِ" إيّاهم زمنَ الانحطاط، عادوا إلى الواجهة يستبدون بنا من جديد بلا حسابٍ أو عتاب. حلقة من حلقات الجحيم تبدأ من حيث انتهتْ، بلا أملٍ أو رجاء في ربيعٍ عربيٍّ صحيح يقضي على كل أسباب الظلم والجهل والتعصب والفساد.

أشعرُ باْنتِكاسِةٍ عاطفيَّة وبالغصةِ في حلقي تخنقُني، حينما أتناولُ طعاماً وفيراً ويخطرُ في بالي أنَّ على أطرافِ الأرضِ في دنيا المجاعات، هيكلاً لطفلٍ آدمي من جلدٍ وعظم وعينينِ جاحظتين ورأسٍ بارز.. لا تسعفُه القدرةُ على الحركةِ والكلام. يحومُ على وجهِهِ ذبابٌ أزرق يستعجلُ موتَه. لا تساعدُهُ قدماه على المشي، فيزحفُ على يديه وقدميه لينالَ حصّتَه من الغذاء، وصحافيٌ لم يفقدْ إنسانيتَه بعد، يشهدُ الواقعة، تخونُهُ أعصابُه، فيرسلُ تقريرَه إلى وكالتِهِ عن معوناتِ الأممِ المتحدة التي وزعوها على الفقراء في النهار ويهربُ إلى الانتحار.

وهناك في المقلبِ الآخر، على موائدِ الإفطار في مطعمِ "شاطىء المرجان".. تعلو خطاباتُ التّبجحِ والنفاق كما في القصورِ والدارات، ولا تُلقى بقايا الطعام إلى القططِ والكلاب، بل تستقرُّ في مستوعباتِ النفايات في إحصائية تشيرُ إلى أرقامٍ ماليةٍ مذهلة، عن الهدرِ في شهرِ المغفرةِ والتّوبة في العالمِ الإسلاميّ وسائرِ الأقطار..!؟

سعيد عقل العبقريُّ المَمْسوس. تَفَرَّدَ يوماً وأعلنَ على الملأ عن مسؤوليتِه الكاملة، عن أسبابِ المجاعةِ والحربِ في العالم فقالْ: وحدي أنا المسؤول..! ضاعتْ مساعيه أدراجَ الرياح.. مات الرجل ولم يتمكنْ بعدَ عمرٍ تجاوزَ قرناً من الزمان، أن يصححَ هذا الخلل فيستأصلَ الجوع ويضعَ حداً للحرب.. ليتني كنتُ أملكُ ثرواتِ الأرضِ وأتحلى ببعضِ جنونِه..؟ لوزّعْتُها بلا تردد على أهلِ الأرضِ جميعا. ألتَّجَلِّي وأحلامُ اليقظةِ والجنون وتوهج الأحلام وحمى الهَذيان..كلُّها؛ تجعلُ منكَ "دونكيشوتياً" آخر، يَمْشي مُسْبَطِرّاً أو يَمْتشِقُ سيفاً صَدِئاً، ويعتلي حماراً هزيلاً أعرج، ويرفعُ شارةَ النصرِ على كلِّ أرضٍ وفي كلِّ زمان.

أدَّيْتُ واجبي في خدمةِ العَلَم، وتعلمتُ كيفَ أحترمُ إشارةَ المرورِ الحمراء، فلا أخالفُ قوانينَ السّير ولا أتهرَّبُ من دفعِ الضرائبِ والمستحقات، وأسدِّدُ لدولتي ما يستحِقُّ في ذمَّتي من المالِ العام بلا مِنَّةٍ ولا نقمةٍ مني ولا إحساسٍ بالغبنِ ولا مماطلةٍ أو تسويف. أخافُ ربِّي وأسبِّحُ بحمدِهِ وقتَ المَسَرَّةِ والضِّيق.

لكنَّ هزيمةً تكمنُ في أعماقي؛ حينما تراودني فكرة إحراقِ البشرِ الأحياء، أو الحكمِ عليهم بالموتِ نحراً وغرقاً.. فلم تستنكِرْهُ محكمةُ العدلِ الدولية ولا حقوق الإنسان، ولم يندِّدْ به أحدٌ في الغربِ والعالمِ المتحضر، بل ازدهرتْ تجارةُ الأسلحةِ في مصانِعهم وارتفعتْ معدلاتُ القتلِ بيننا. ناهيكَ عن أخبارِ السياراتِ المُفَخّخة، تحْصُدُ عَشْوائياً عشرات الضحايا في كلِّ يوم.

أي قلوبٍ مُتَحَجِّرة وعقولٍ مغلقة لهذه الأشكالِ البَشرِيَّة..!؟ أساليبُ القتلِ هذه تؤرِّقُني وتحْبِطُني وتحملُ غثياناً مدمراً إلى نفسي.. وصوت "التكبير" أسْتنكِرُه حينما يأتي مصحوباً بأزيزِ القذائف في الاتجاهِ الخاطىء.. "ألم يكنْ من قتلَ نفساً بغيرِ حقّ، كأنّما قتلَ الخلقَ جميعاً"..؟

وكيفَ نفصِلُ في الحقّ "المُزَأْبَق" لكي نبررَ القتلَ أو ندينَهُ، عندما يكونُ هذا الحقّ موضعَ خلاف..!؟ ومطلقو هذه القذائف.. هل سيعيشونَ لاحقاً في التنصُّلِ والانكار، وإذا أصابَهم إحساسٌ بالخطيئة.. هل يتحول هذا الإحساس إلى سببٍ آخر ونقمةٍ جديدة للمزيدِ من العنفِ والموتِ في سائرِ الأقطار..؟ ألفُ سؤالٍ وسؤال عما يحدثُ للدُّنيا ولنا، وماذا أصابَنا وكيفَ تبدلتْ في حالِنا الأحوال.

فواتيرُ المياه أدفعُها في مواعيدِها وألتزمُ الأمانةَ في عدَّادِ الكهرباء. أنا مسلمٌ على رؤوسِ الأشهاد، وشديدُ الحرصِ على انتمائي إلى القرآن. أتصدقُ على الفقراء فلا أميِّزُ بين الهندوسِ والسريان. لا أحتفظُ لنفسي بمالٍ ضائعٍ وجدتُه في الطريق؛ فأدسُّه في صناديقِ الصدقاتِ وما أكثرها في بلدانِ العربِ والإسلام.

لا أتطلعُ "انتصاراً" لله؛ بحقدٍ أوغضب إلى المفطرينَ في رمضان، ويحزنُني حقاً من يزاودُ عليَّ ممن يتعصبون للإسلام. لكنني لا أقبلُ لبشريٍّ مثلي ممن نصّبوا نفوسَهم قيِّمينَ على الجنةِ والنار أن يقرِّرَ مصيري بالوكالةِ عن الله، ويفرضُ رأيَه أو يملي علي قناعتَه فيوصدُ بابَ الجنَّةِ في وجهي، ويفتحُ أمامي باباً واسعاً للعبورِ إلى النار. هذه ديكتاتورية وتعسفٌ على ضمائر الناس. واهمٌ وملتبسٌ كثيراً، من يعتقد لحظةَ واحدة، أن اللهَ "يثأرُ" من عبادِهِ بالعذابِ في النار. اللهُ "سيحزن" حينَ نمارسُ فعلَ القتلِ لنصرتِه، أو نصرة الحق فيما نراه صواباً بلا استثناء.

مقتنعٌ تماماً بالانتماءِ إلى الدَّيْنِ الحنيف، وإن قصَّرتُ في واجبي تجاهَ ربَّي فأنا صاحبُ الوزرِ دونَ سواي. لستُ ظلامياً أو كافرا بالله أستبيحُ دماءَ الناسِ أو أموالهم، أو مطروداً من المساجدِ وخارجاً على الدينِ وأنَّ الإسلامَ عليَّ حرام. أمارسُ قناعتي في الدِّين، وأحترمُ كلَّ الطوائفِ والعقائدِ والملل، فلا أستفزُّهم أو أدعوهم إلى التعاطفِ مع قناعتي بالحُسنى أو الإكراه.

لا أنفعلُ ولا أرفعُ صوتي في النقاشِ معهم، لأقنعَهم أننا أصحابُ الحقّ في الجنّةِ دونَ سوانا من الناس، وأن دربَ الخلاص إنما يَمُرُّ فقط في الحجِّ إلى بيتِ الله الحرام، وما من دِيْنٍ يعتقُنا من عذابِ النارِ سوى الإسلام. أتوخى دخولِ الجنّةِ على حسابي الخاص؛ فقط في التوكّلِ وعلاقتي المباشرة مع الله.. دونَ اللجوءِ إلى وسيطٍ أو ملاك.

في المنزلِ لا نرفعُ صوتَ المذياع، ولا نستخدمُ "الغسّالة" ليلاً لكي لا نزعجَ الجيران، فنمشي بحذرٍ على رؤوسِ أصابعِنا كاللصوصِ أوِ كالظِّلال.. بلا ضجةٍ ولا ضوضاء. ولكن في أيامِ العطل.. يحلو لي أن أتفقدَ سيارتي وأنا أرتدي (الشورت) وأنتعلُ حذاءَ الرياضة، الأمرُ الذي لا ينالُ استحسانَ الكثيرين في الحيّ، بل أتلقى ملاحظاتٍ تبلغُ حدَّ التنبيهِ والتنديد على استهتاري وقلةِ لياقتي..؟ ولا يشفعُ لي أنني أرفعُ في طريقي عن درجِ المبنى دونَ تذمرٍ أو عتاب، كل ما خلَّفَهُ أولادُ الجيران من العلكةِ وأوراقِ الشوكولا وعيدانِ المثلجات.. .. هذه بعضُ أحوالي.. إن شئتم اعتباري مسلماً من منظورٍ مختلف فأنا حقاً كذلك.

كلّما تصدَّقتُ على فقير؛ تذكّرتُ "ابراهيم الترشيشي" حتى غدا الرجلُ محطةً تلازمُني كلّما مرَّتْ في خاطري أحوالٌ لِطافْ. كان أستاذ مادة العربي في ثانوية "زحلة" الرسمية من طائفةِ الروم الكاثوليك. هو من علَّمني "القواعد" وفعلَ المحبّة وأرشدَني إلى عملِ الخير، حينما لم يكنْ يعفي فقيراً من الانتفاعِ بمالِه القليل، ويَصِحُّ فيه القولُ الكريم: "فيطعمون الطعامَ على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيرا". أرجو أنه ما زالَ على قيدِ الحياة، ليسمعَ شهادتي فيه ووفائي له واعتزازي أنه كانَ أستاذي يوماً من الأيام.

منه تعلمتُ الكثير. تعلمتُ كيف يكونُ الخجلُ والوفاء، وكيفَ "أغضُّ طرفي إن بدتْ لي جارتي"، وكيفَ أحترمُ كبارَ السنِّ والعميان. "ابراهيم الترشيشي" كانَ من المواكبين المعجبين بسعيد عقل ومن مريديه.. وهو الذي علّمني كيفَ أعتزُّ بما أفعل بلا زيفٍ ولا ادِّعاء. كان قِمَّةً في التجرُّدِ والعفةِ والعطاء. كانَ الأغنى وأنا الأفقر.. فكيفَ يصحُّ أن أعاديه وأنكِّلَ به وأشهرَ سلاحاً في وجهه.. أو في وجهٍ رَضِيٍّ آخر كوجه "غريغوار حدَّاد" الذي توفاه الله منذ عهد قريب، وقد قاسَمَني هذا الرجل ذاتَ يوم خَلاصَهُ وشفاعته بالسَّيدِ المسيح، في واقعةٍ مُسيئة أبكتني فلن أنساها ما حييت. نالوا منه وألقوه إلى الأرض وَضَرَيوه أمامَ عدساتِ المصورين، لأنَّه "ادَّعَى" أن المسيح إنما أتى خلاصاً للمؤمنين والضالين من سائر بني البشر بلا تمييز..!؟

"وهيلدا" من أصدقاءِ العائلة، وأكرمهم وأكثرهم حباً وإيثاراً وشغفاً بالأطفال.. "وكاتيا" تاريخٌ قديم من العلاقاتِ الإنسانيةِ النبيلة. ابنةُ جارتِنا "أم إدوار" وصديقة أولادي في طفولتِهم، ولسانُ حالِها يذكِّرُنا بجيرةِ الرضا والخير، ويردِّدُ على مسامِعنا 1(سوا ربينا).. كيفَ أخونُ نفسي وأغدرُ بكلِّ هؤلاء، وأدفعُ بهم إلى النار لأنهم لا يدينون بالإسلام..!؟ هل هكذا يكونُ جزاءُ الإحسانِ بالإحسان..؟ "فبأيِّ آلاءِ ربكما تكذِّبان"..؟

هذا الشرق يتحولُ إلى محكمةٍ باطلة وقضاءٍ مُبْرَمٍ قائمٍ على الشهادةِ بالزّور، حينَ يغيبُ عنه أبناءُ السيدِ المسيح. كلُّنا أبناءُ هذا السيِّدِ العظيم. أنا مسلمُ الهويةِ والانتماء.. لكنَّ أصدقائي وصديقاتي من المسيحيين ومن مختلفِ الطوائف الأخرى، أكثرُ من أصدقائي وصديقاتي من المسلمين.. فأنا "عيسوي" الهوى ومن أشدِّ المعجبينَ بهذا الرسول الكريم، وهؤلاء القوم علةُ وجودِه، متى خلا الشرقُ منهم سيخبو بريقُه ويخرب.. ثم ينهارُ الوطنُ على رؤوسِنا، ورؤوسِ كل المكفِّرين الغيارى على الدِّين، والعِبْرة قائمةٌ دوماً فيما جرى ويجري في بعضِ الدِّيار.. "فاغفر لهم يا أبتي لأنّهم لا يعلمونَ ماذا يفعلون".

أمَّا وإني قلتُ بعضَ ما في نفسي، فلن أعودَ إلى فراشي هذه الليلة وقلبي مثقلٌ بالأحزان. وإن كُتِبَتْ لنا الحياةُ عاماً آخر، وعادَ صوتُ العقلِ يحكُمُنا فربما التقينا في العام المقبل. أليسَ "أجملُ التاريخِ كانَ غَدا"(2)؟ حتى ذلك الموعد لكِ مني يا صديقتي وسيدتي حبا كبيرا بحجم عفتك وصلابتك.. وألفُ تحيةٍ لكِ وألفُ سلام.

 

ابراهيم يوسف- لبنان

.................

1 من أغاني السيدة فيروز

https://www.youtube.com/watch?v=gK0QXWJOD3I

2 من قصيدة "مرَّ بي" لسعيد عقل، وغناء السيدة فيروز

https://www.youtube.com/watch?v=Akk3eDEtFnQ

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم