صحيفة المثقف

"رقصة الجديلة والنهر" وصرخة ضد الإرهاب

yasamyna hasybiالأعمال الفكرية الكبيرة هي التي تأتي محملة بالرسائل الإنسانية؛ تأتي على شكل "صرخة" يظل صداها يتردد على مدى الأجيال .

ورواية "رقصة الجديلة والنهر" للأديبة الروائية وفاء عبد الرزاق تجسد هذا النوع من الكتابات، النوع الذي يضرب عرض الحائط بترف الألقاب الأدبية، ويكتب بحبر الضمير وبريشة الحقيقة .

فعبر فصولها التسعة وصفحاتها الــ142، تسْحب هذه الرواية القارئ من تلابيب روحهِ، تشدّهُ من إنسانيته بعيدًا عن أيّ انتماءات جغرافية أو عرقية أو دينية لأن الحبر مهما كان قويًّا، ينحني أمام نقطة دم أُريقت بغير حق.

الروائية وفاء عبد الرزاق لم تخترع شخوص روايتها "رقصة الجديلة والنهر"، وإنْ صاغتها بأسلوب فانتازي وغرائبي، بل هم شخوص حقيقيون عاشوا محنة العراق من إبادة جماعية وسبْي وتهجير ومجازر، ومن خلال مأساتهم دوّت صرختها ضد الإرهاب.

وفاء عبد الرزاق المغتربة التي يعيش الوطن بين ضلوعها، جعلت من غربتها "مجْهرا" أو "ميكروسكوب" تستكشف به التفاصيل الدقيقة للحقيقة ثم تنقلها إلى القارئ العراقي والعربي بأمانة وحرية عبر لغة تتداخل فيها ذاتها الساردة بذاتها الشاعرة، ضاربة عرض الحائط بالمحظورات، تسمّي الأشياء بأسمائها وتؤرخ للمسكوت عنه بإيمان الاديب الذي يعتبر العمل الإبداعي "مسؤولية " قبل أن يكون متعة كتابية أو قرائية.

فجاءت الرواية كوثيقة تاريخية تسجل للاجيال القادمة دموية تنظيم "داعش" والمتواطئين معه وجرائم العصر في سبايكر وسنجار والموصل وغيرهم .

"ماذا سيحدث بعد هذا الرأس المقطوع ؟

واين تلك الكلمة التي تهز السماء؟ "

بسؤالين على شكل صفعة مدوية، تستهل وفاء عبد الرزاق روايتها، وما أشدّها من صفعة حين تكون موجهة للضمير العالمي، صفعة تتقزم من وقْعها كل النُظم السياسية الكونية التي تدّعي الدفاع عن حقوق الانسان.

الزوائية تتحدث عن رأس " ريحانة "، الفتاة الأيزدية التي تطوّعت للدفاع عن أرضها وعرضها فنحرها "داعشي" من زمن الظلام، ورفع رأسها المقطوع متفاخرا في منظر مقزز للنفس، في حين ظلت " جديلتها" متدلية على الأرض وابتسامتها مرسومة على محياها، هذا المنظر الذي تناقلته وسائل الاعلام، كان شرارة الرواية وإنتفاضة الحبر على الورق.

إن اختيار الروائية لكلمة " جديلة" في العنوان لم يأتِ اعتباطا بل له معناه العميق في رسالة الرواية.

فما معنى الجديلة؟

الجديلة تعني الشعر المضفور، المجموع والمنسوج بعضه على بعضه الآخر، والجدْل هوالفتْل المُحْكَم، فالتوظيف لكلمة "جديلة" في عنوان الرواية جاء بغرض التأكيد على " الفَتْل المُحْكم" بين الأنسجة الإجتماعية العراقية ورفض الروائية رفضًا قاطعاً المساس بمكونات الشعب العراقي.

بأسلوبها السردي المبني على الفانتازيا الممتزجة بالواقع، تأخذنا وفاء عبد الرزاق الى قرية عراقية، سكانها أناس بسطاء، " يجملون أحلامهم بتعب الايام ويغرسونها في الارض، عشقهم الكبير .. " ص18

يتساءلون عن مصدر السنابل المبروكة التي "تُترك ليلا عند الأبواب دون تمييز بين الأديان والأعراق بل بعدد المفقودين من الدور .." " ويتناقلون فيما بينهم قصة الملاك الذي يهبط من غيمة ليضع السنابل عند اعتاب البيوت. ص69  

عدم التمييز بين الاعراق والديانات تأكيد جديد للروائية على تماسك اللحمة العراقية.

إن وفاء عبد الرزاق تلجأ الى الفانتازيا في السرد كي تُقَلّب تربة الواقع بمعول الخيال لعلها تقدم الصورة الحقيقية للواقع العراقي المرير الذي لم يعد يستوعبه عقل الانسان العادي.

يقول عازف الناي: " من المستحيل أن يصدقوا ما أرويه لهم، إنما اعظم ما يبهج قلبي فرحتهم بالسنابل " (ص14)

لماذا اختارت الروائية رمز " السنبلة " تحديدا ؟

السنبلة هي النبات الذي يتكون فيه القمح وقد جاء في معجم مالك شبل للرموز الاسلامية أن " القمح هو أشرف الزروع . تقدسه البلدان العربية والإسلامية . يرمز إلى العيش والتجديد وإلى الأدوار الكونية للأرض الأم المخصبة والكريمة"

وفي الطقوس التموزية، كان الاحتفال بعودة الإله الميت من باطن الأرض حاملا معه حزم القمح، وكأن القمح هو السبيل الوحيد للخلاص، وبه يتحول الموت من الظلام الى النور.

وهذا ما تؤكده الروائية على لسان " هافال" الذي قال لجاريْه أبو علي والقس موريس: ( انظروا معي كيف توظف وفاء الأسماء لتؤكد على التقارب والتعايش بين الديانات المختلفة ) :

"ملعون من لا يشعر بجمال السنبلات وملعون من لا يدرك أنها الحياة " ص 69

قال هافال ثم استطرد في ص 70 :

"أشم رائحة لغز بهذه السنابل، ربما هي رسالة ربانية لنا كي نتحرك ونشتلها لنطعم الارض جهدنا وحبنا بدل القتل والذبح والتناحر من اجل لا شيء .."

 

"لكن بشاعة الصور التي تبتها محطات التلفزة والاخبار عن داعش وسلوكهم اللإنساني واللامنتمي الى دين أو ملة، بحجة أنهم يدافعون عن دين الله، تجعل الكرد في هيستيريا المفاجأة .. (لكم دينكم ولي دين)

عن اي دين يتحدثون ياترى؟

وكيف يصبح الدين الشيطان بعينه؟ (ص 27)"

تتساءل الروائية بحرقة ونتساءل معها دون أن تسعفنا الاجوبة أو يسعفنا فهم ما يجري ..لأن الإرهاب لا دين له ولا وطن !

في القرية "الساعات تمر، كما الايام والليالي، والسنابل المبروكة تتكاثر، والتساؤلات تخنق الافواه" (ص23)

يتصاعد الفعل الدرامي عبر فصول الرواية دون أن تَحيد الروائية عن أسلوبها الذي يمزج بين الفانتازيا والواقع.

عازف النايّ في القرية يستنكر ما يحدث :

"" لماذا الجلادون ينحتون أحرف أسمائنا، ويشاركهم جلادون مثلهم من ارضنا ؟ أبناؤنا ضدنا، لماذا ابناؤنا ضدنا ؟ " ص22

وهذا إشارة قوية من الروائية بجرأتها المعهودة إلى مرتزقة الحروب الأهلية والخونة الذين يتواطئون مع الإرهاب من أجل مصالحهم السياسية والمادية، هؤلاء الذين ماتت ضمائرهم فباعوا الوطن وإخوانهم بأرخص الاثمان.

ففي الرواية يجسدهم "مختار القرية ذو العصا السوداء برأس ثعبان .. هو الوحيد لم يمت له احد، ولم يُقتل له قريب على يد احد منهم "

لاحظوا معي التوصيف الذكي لعصا المختار، إن الروائية ترمز إلى الشر من خلال الثعبان، ومن منا لا يعرف أسطورة أبوفيس (Apophis) ثعبان الماء رمز الفوضى والشر الذي طالما تربص بالكون؟

تسترسل الروائية : ".. يتوقع أن المختار متواطئ مع داعش، فمن اين بنى له قصرا وبيوت القرية كلها متواضعة؟" ص 56

وهنا تشير صريحا إلى سرّاق الوطن، هؤلاء الذين ينهبون خيراته ويغتنون على حساب الجماهير الكادحة .

ثم تتوالى الأحداث في الرواية، تكبر معاناة سكان القرية من فقدان بناتهم وابنائهم على يد تنظيم داعش الارهابي والمتواطئين معه، ففي كل بيت حكاية مؤلمة وصراع مرير من أجل الأرض لأن " ذبح الارض اكثر إيلاما من ذبح الرقبة" ص 32

إن ريحانة وعادل وشيرين وحامد (عازف الناي) وروناهي وبريفان، أبطال الرواية "الأرواح"، أرادت لهم الروائية، وعبر تحكم متقن في زمكانية الرواية، أن يظلوا أحياءا في ضمير العالم فــهم " رغم موتهم لايريدون مفارقة الوطن ".

انهم يجسدون شباب العراق الذين كانوا يحلمون بالحب وبالعيش الكريم لكنهم صحوا على كابوس "داعش " المرعب، فأجّلوا الحلم وألغوا قلوبهم ثم تطوعوا للدفاع عن الارض وعن المهجَّرين واللاجئين من أبناء الوطن، فقضوْا مذبوحين، مدفونين أحياءاً أو مقتولين بالرصاص على أيدي الدواعش مجرمي العصر، إنهم شهداء جريمة سبايكر وسنجال والموصل وغيرها من الجرائم التي ستبقى وصمة عار على جبين الإنسانية وسيتحملها الضمير الانساني على مرّ التاريخ.

وتأخذنا الروائية الى قاعدة سبايكر التي اطلق إسمها على جريمة العصر.

1700 طالب من طلبة القوة الجوية لقوا حتفهم برصاص الدواعش والمتواطئين معهم على ضفة نهر دجلة الذي تلون ماؤه بالأحمر من دمائهم الزكية، لتكون مذبحة النهر التي سجلها التاريخ والتي تشهد على خِسّة الانسان وغدره وتفضح الحكومات والدول وتلغي كل القوانين الإنسانية وبنودها .

"ما الذي فعله الكرد، الأيزيديون، المسيحيون، الشبك، الشيعة، السنة، السوريون والعراقيون ؟ " ص102

الموت يحصد الأرواح دون أن يعرف أحد لماذا يحدث ما يحدث؟

الموت هنا لا يفرق بين الديانات والأعراق، لا يفرق بين الطفل والشيخ والشاب والفتاة !

والأسئلة لا أجوبة لها في زمن تتشدّق فيه الأمم والجمعيات بالدفاع عن حقوق الإنسان.

سبايكر مجزرة تاريخية موشومة بالدم لن يستطيع الزمن أن يدفنها في عتمة الذاكرة.

"ارواح الجنود صعدت لينعمها عرش الله على ايقاع صرخة الجديلة والنهر" . ص122

ترافقها أرواح فتيان وفتيات سينجار والموصل، يرقصون جميعا رقصة الشهادة التي لا تشبه أية رقصة ، و"ريحانة" الملاك "تهدي كل شهيد سنبلة" وجديلتها الشقراء تطوف حول النهر.

إنه الأمل في تحقيق الصعود صوب عالم أكثر رحمة وأمانا من عالمنا الارضي الملطخ بالدم .

فالموت في منطق إنسان وادي الرافدين يستبدل الأجساد الدنيوية بالأجسام النورانية الخالدة.

وفاء عبد الرزاق، رغم الواقع المرير ورغم كل ما حصل ما زالت تؤمن بالتغيير يحذوها الامل في غد افضل :

وعلى لسان أم جوان تقول : " نعم، اذا لا نغير ونتغير ليس لنا حق في الحياة" ص 32

صاحبها هذا الأمل منذ بداية الرواية حتى نهايتها، كان يعلو ويخفت حسب أحداث وفصول الرواية لكنه أبدًا لم يختفِ ولم تتقهقر روحها رغم بشاعة ما حصل .

إنها تؤكد على ذلك في جملة النهاية :

و" سيسير الوطن باتجاه صوت الشرف، لقد بشرت السماء بالمعجزة وسينهض العراق من نومه الطويل".

"ولكي لا تبقى الحياة بكماء" .. كانت هذه الرواية .

رواية "رقصة الجديلة والنهر" للأديبة وفاء عبد الرزاق صدرت عن مؤسسة المثقف في سيدني – استراليا، ودار العارف في بيروت – لبنان.

تقع الرواية في 142 صفحة من الحجم المتوسط، بتسعة فصول وصمم غلافها الفنان مطيع الجميلي.

 

ياسمينة حسيبي

 

906-wafaa

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم