صحيفة المثقف

في سبيل نبع الأبد نبع الشعر .. قراءة في نص: أنتِ الـ "سارية المَفعول" للشاعر جلال جاف

أنتِ الـ "سارية المَفعول"

أعيدي تشكيل البَحر

أنتِ "سارية المفعول

دعي مَرمَرَ المَوج

أول الحبر .. في المَسار الأخير

فأنا .. موفدُ الجحيم الى شفتيكِ:

السّائرُ الغائرُ

"الخارقُ" كِ كجذورالبوح ..

أقدّسُ أمكنة الوقوع في أديمك المبّجَّل ..

المَرسومُ .. بيننا

مُعادَلة للرذاذ

تمارسُ غواية الماء فيكِ

حين تجري النار في مستقر آهِك ..

تستبيحني في عينيكِ:

الغازيات

الماحقات الحارقات الساحقات

أنا البرئ من دم الليل

المُهاجرُ الطاعنُ في يقين الريح ..

لن تعودي مكسورة الشِّعر ..

 

أجري اليك .. بللاً

أنا رَبيبُ مفازاتك

أطعنيني ب " ذي الفقار" ك ....

تقاسميني الليلة

بيني وبينك:

لكِ الخُبلُ، صلاة المُشتهى،

ولي أنتِ "برقٌ من بلل الشيطان .."

أرتقي "فردوسات" صدرك

البتول:

والدّهرُ فسيلتان .. واحدةٌ لي .. و واحدةٌ لي ..

أبيدي جسدي الجائر .... وماتبقّى من الحَديث

افعلي بي .... ماااااشئت

النبع عاقبتي ....

فأنتِ .. سلطانة الحرير

سارية المفعول ....

"بين كل مفعول وفاعله مما تقدم ذكره ضرب من ضروب المناسبة والمشاكلة.. فلابدّ أن يعلم منه قدر ما بينهما من المناسبة، إما من جهة الجوهريّة أو غير ذلك..."

(ابن عربي /الفتوحات المكّيّة)

 

النّاعمات القاتلات المحييا           ت المبديات من الدلال غرائبا..

(المتنبّي)

 

1) أسطورة الخلق والفناء..

يكتب الشاعر في هذا النص أسطورة الخلق والفناء، أو أسطورة إعادة الخلق أو استعادته في صورته الباهرة الأولى التي كانت الأبد، وما الأبد إلا التوق إلى تلك البداية المفقودة.. وما الفناء إلا الوجه الآخر للرجوع الاستعادي بإعادة تشكيل الكون، ليكون على صورته الأولى...

وككلّ كتابة شعرية مؤسطرة ومؤسطرة للكون، يبني الشاعر كونه الشعري على أربعة عناصر أو حقول معجميّة متداخلة متفاعلة مندمجة متظافرة فعلا شعريّا شوقيّا خلقيّا استعاديّا للحظة التي تصل بالنبع.. هذه الحقول هي: الماء والنار والحب والموت..

منها، منفصلة أو متصلة، مؤتلفة محققة وحدة القول الشعري وتماسكه، تنشأ حركة النص وتتنامى وتنتهي إلى مستقر لها، وبها وحولها تتشكّل الصور ولغة الشعر إجمالا، لتقول، إيماء وإيحاء وإشارة، الشوق إلى الأبد ..وهو شوق "شبقيّ" الصّورة، كونيّ المدى، أبديّ الأفق، ضارب في القدم وفي القادم المراد خلقا آخر، وكونا آخر، على وجه آخر، أكمل وأجمل...

 

2) العنوان الجامع..المخاطب الجمع

أنت سارية المفعول...

عنوان إخباريّ البناء.. هو للنص عنوان، أي علامة..مركّب من مخاطب مؤنّث بملامح يختزلها العنوان وتنتشر في النص انتشار ثنائيّة الفاعليّة والمفعوليّة في أبعاد متعدّدة، يوحي بها النص ولا يضبطها، ويفسح لنا مطلق المجال والحرية لتحديد تلك الأبعاد، بما فيها هويّة المخاطبة، ولم لا هويّة المتكلّم..؟

كذلك هذا النص في "غموضه" الواضح، ووضوحه "الغامض" لا تمسك منه بشيء حتى تفلت منه أشياء، ولا تعلم منه أمرا إلا تفلّتت عنك منه أمور..

التقط الشاعر عبارة شائعة (سريان المفعول) عابرة لمجالات عدّة، توسم بها القوانين والمراسيم والأوامر والأحكام والاتفاقات والمعاهدات، وكل النصوص التي تنبثق عن سلطة، أو تستحضر سلطة، فتسري، أي تفعّل وتطبّق ويكون لها أثر باد ملموس، لا يردّ ولا يعترض عليه، بل هو منتشر سار سريان الهواء في ما يخفى ولا يخفى..

والمفعوليّة هي إذن أثر أي فعل أو أفعال، تظهر فتُظهر فاعلا متعاليا، ذاته هي محصّلة أفعاله، تتعدّد وهو واحد أحد، كثير في أعماله، أثير مؤثر أبدا.. والمفعوليّة أيضا خضوع وامتثال واقتبال وتسليم.. وهي كذلك وجه لحضور الفاعليّة، فلا مفعول بلا فعل ولا فاعل، كالتلازم بين المسبّبات والمسبَّات، أو العلل والمعلولات.. والمفعوليّة، في المنتهى، حدوث وحياة وكون بفعل الفاعل..

وحين دخلت العبارة الكون الشعريّ أُعيد تشكيلها الدلاليّ، وأضحت "جديدة" مثقلة بما حمّلها الشاعر من لطيف المعاني والإيحاءات...ولذلك كانت مبتدأ للخطاب ومنتهى له:

أعيدي تشكيل البَحر

أنتِ "سارية المفعول"

..

..

..

 

فأنتِ .. سلطانة الحرير

سارية المفعول ....

وما بين المفتتح والمختتم يتشكّل النص انتشارا طلبيّا تفسيريّا حجاجيّا وصفيّا ابتهاليّا أسطوريّا وثنيّا شبقيّا عباديّا، جاهدا إلى إدراك لحظة عصيّة واصلة بين الموت والحياة أو بين مبدأ الخلق ومنتهى الفناء..

وأنت تقرأ، يفتح لك النص آفاقا رحبة لترى مخاطبك الذي تصنعه بأدوات الشاعر التي هي أدواتك، فإذا هو امرأة تصبو إليها أو وطن تحنّ إليه أو آلهة تعشقها أو قصيدة تتمناها، أو كلّ ذلك في واحد، يتراءى في مرايا متعددة، بلغة متعددة، خارقة قانون التعيين والتسمية، معلنة الإشارة و" إعادة تشكيل " الخطاب الشعريّ، صعودا أو نزولا إلى "النّبع"..إلى "العاقبة"..

هكذا ينبثق النص عن شوق عظيم، أصيل أصليّ، من "شهوة" كونيّة تتعلّق بالبدايات والنهايات وهي تأتلف في "النبع" الأوّل.. وهذا النبع هو منطلق الوجود ومرجعه، ومتعلّق الشّوق ومنتهاه...

 

3) حركة النص: جدل الفناء والكون..

•الطّلب...والمطلوب

ينشأ النص طلبيّا ابتهاليّا متّخذا القصيدة محرابا أو هيكلا للصّلاة والدّعاء، وتتراءى المخاطبة قادرة آتية عظيم الأعمال، مقدّسة مطلوبا فعلها، ليكون الكون وتكون الحياة..وفي الماء ومنه ينبثق الخلق الجديد المطلوب:

أعيدي تشكيل البَحر

هي "تيتيس" أو "كاليبسو" أو غيرهما من آلهة البحر والموج، تعيد تشكيل البحر صورة للكون منه وإليه المرجع، وهي المطلوبة وصلا عشقيّا شبقيّا مقدّسا، ينعكس على رؤية الكون فيكون على صورة أخرى، جديدة متجددة أصيلة قادمة من الأقاصي.. هي الأنثى القادرة الصانعة، الآلهة الواهبة الحب والحياة..وما خطابها إلا خطاب الابتهال والرجاء والتقديس والشوق إلى الفناء عشقا أبدا...وهي القصيدة تعيد تشكيل العالم، ولا يتشكّل إلا حين يعاد تشكيل اللغة خطابا جديدا كونيّا صاعدا إلى الحقيقة والأصل و"النبع"..

وبين البحر والحبر والحب تواشج وتماسّ في الدلالة والإيحاء بهذا الطقس العشقيّ الوثنيّ المقدّس الذي "يحكيه" على نحو أسطوريّ، فلا تظهر سوى لمحات دلاليّة مفتوحة مبثوثة متفرّقة.. إلاّ أنّها محكومة بمنطق النموّ والتّصاعد المتباطئ بطء البدايات..بطء أول الحبّ أو أوّل القصيدة أو أول الخلق:

 

دعي مَرمَرَ المَوج

أول الحبر .. في المَسار الأخير

 

•جدليّة الماء والنّار..

من الحسّ يصطنع الشاعر عناصر تخييله المادّيّة، فيلتقط عنصرين حسّيين (الماء والنار) ويبني بهما أو عليهما كونه الشعريّ الرؤيويّ، ويتوسّل بهما باعتبارهما "شيئين" من أشياء الطبيعة، ولكنهما قادران على قول هذا الزخم الوجدانيّ الذّهنيّ الباطنيّ، ونقله إيحاء إلى العالم الخارجيّ..وفي تردّد بين التصوير الرمزي والتصوير الاستعاريّ، يتجلّى ما في "المادّة" من امتلاء وانسجام بينها وبين دواخل الذات وعمقها العاطفي، وتظلّ منفتحة للامتلاء من جديد كلّما تعدّدت الذوات وتنوّعت الأعماق، واختلفت التّجارب..

وبين انسيابيّة الماء وأنثويّته (باشلار) وفحولة النار وعنفها يتشكّل القول الشعريّ ليكون اللقاء المطلوب وحدة للنار والماء:

 

فأنا .. موفدُ الجحيم الى شفتيكِ                  

السّائرُ الغائرُ

"الخارقُ" كِ كجذورالبوح              

أقدّسُ أمكنة الوقوع في أديمك المبّجَّل                          

المَرسومُ .. بيننا

مُعادَلة للرذاذ

تمارسُ غواية الماء فيكِ

حين تجري النار في مستقر آهِك...

 

هكذا تكون النار المعادل الكونيّ للماء، بكل ما يمكن أن "تعنيه" عندك، وهي هنا شوق وتوق وحرارة وثنيّة و"جحيم" مقدّس، وتوق إلى إرواء غلّة الصّادي تلهبها "غواية     الماء"...وتتجلّى الذّات الشّاعرة مبرّرة الطّلب، مندفعة وقد "سرى مفعول" السّحر فيها، فتكثّفت قطعة من جحيم كاسح غامر مشتاق..:

فحرقنا نفوسنا في جحيم من القبل (بشارة الخوري)

 

•جدليّة التّيه والاهتداء..

ويندفع النص مجددا حركته متّخذا من سحر العينين الأسطوري سبيلا إلى "مفازات " التّيه عشقا وتوقا وبحثا وموتا وفناء واهتداء ويقينا ريحيّا عاصفا مطوّحا، لتلتبس الثّنايا، وتكون "الهجرة" هجرة شاعر نبيّ يريد أن يضرب في مفازات الضياع "جريا" إلى ربّة الجمال: أنثاه أو آلهته أو وطنه...

تستبيحني في عينيكِ

الغازيات

الماحقات الحارقات الساحقات

أنا البريء من دم الليل

المُهاجرُ الطاعنُ في يقين الريح

         لن تعودي مكسورة الشِّعر.

أجري اليك .. بللاً

أنا رَبيبُ مفازاتك...

 

جدليّة السطح والعمق...وبلوغ القصيدة مستقرّها

ومثلما انطلق النص بالطلب، يندفع اندفاعته "الأخيرة" لتكون حركته عمقيّة اتّصاليّة واجدة في وحدة الشّبقيّ والمقدّس إطارا تعبيريّا رمزيّا إيحائيّا، تكثيفا لمفهوم "الفناء" حبّا وسكونا في الأبد.. ووجد الشاعر في فعل القتل الرّمزيّ ما به بلغت القصيدة "ذروتها" الفنّيّة أو ما به بلغت "النّبع".. وهو مدار القول مبتدأ ومنتهى.. نبع الحياة.. نبع الأبد...

 

أطعنيني ب " ذي الفقار" ك....

تقاسميني الليلة

بيني وبينك:

لكِ الخُبلُ صلاة المُشتهى

ولي أنتِ "برقٌ من بلل الشيطان .."

أرتقي "فردوسات" صدرك

البتول:

والدّهرُ فسيلتان .. واحدةٌ لي .. و واحدةٌ لي ..

أبيدي جسدي الجائر .... وماتبقّى من الحَديث

افعلي بي .... ماااااشئتِ

النبع عاقبتي ....

 

الحبيب بالحاج سالم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم