صحيفة المثقف

منهج التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي (1)

ali jabaralfatlawiلماذا اسم (التبيان) ودوافع التأليف؟

التبيان في اللغة من التبيين يقول الجوهري: (الإيضاح أو الوضوح، والتبيان مصدر وهو شاذ لأن المصادر إنما تجيء على التَفعال بفتح التاء مثل التذكار والتكرار، ولم يجئ بالكسر إلّا حرفان، وهما التبيان والتلقاء).

وإذا أخذنا المعنى اللغوي للتبيان يتضح لنا سبب تسمية تفسير الشيخ الطوسي بهذا الإسم، فمن الواضح أن الشيخ الطوسي يعني أن تفسيره سيهتم بمعاني الآيات القرآنية بصورة جامعة بحيث يصل إلى المعنى المطلوب بصورة واضحة وكاملة، يؤدي الغرض من التفسير وهو بيان معاني ومقاصد الآيات القرآنية، وقد أشار الشيخ الطوسي في مقدمة تفسيره إلى الدافع الذي دفعه لتفسير القرآن (فإن الذي حملني على الشروع في عمل هذا الكتاب إني لم أجد أحدا من أصحابنا – قديما وحديثا – من عمل كتابا يحتوي على تفسير جميع القرآن، ويشتمل على فنون معانيه).

ونستوحي من كلام الشيخ الطوسي أنه لا يوجد تفسير للقرآن جامع يفي بالغرض لغاية عصر الشيخ الطوسي، وهو قد ألّف تفسيره ليتجاوز الثغرات في التفاسير الموجودة وليسد النقص في هذا الباب، فألف تفسيره (التبيان) ليكون جامعا متجاوزا لثغرات من سبقه، وعدد اسماء السابقين له في هذا الباب، فشخص عيوب مؤلفاتهم، ذكرالطبري وعدّه من المطيلين في شرح المعاني، وذكر آخرين عدّهم مقصرّين في شرح المعاني إذ اهتموا بالغريب من الالفاظ، وقال في مقدمة تفسيره (التبيان):

(وسلك الباقون المتوسطون في ذلك مسلك ما قويت فيه مُنتهم – قوتهم – وتركوا ما لا معرفة لهم به).

وذكر الطوسي أمثلة لبعض الاسماء التي سلكت هذا المسلك الوسط، لكنهم أخلوا جميعا في الجوانب المهة الأخرى، ذكر الزجّاج والفراء من النحويين إذ اهتما بالاعراب والتصريف على حساب الجوانب الأخرى، وذكر مفضل بن سلمة إذ إستكثر من علم اللغة، واشتقاق الالفاظ، وذكر من المتكلمين كأبي علي الجبائي الذي اهتم بالمعاني الكلامية، وذكر البلخي الذي أضاف من علومه الخاصة، وعدّ ذلك مما يعاب على من سلك هذا المسلك، لأنه يخل بالجوانب التي يفترض أن يهتم بها المفسر، لا أن تدخل علوما وفنونا لا علاقة لها بالتفسير، لكنه لم يغمط حقّ من سلك مسلكا سليما في التفسير، وذكر مثالاعلى ذلك أبا مسلم الاصفهاني، وعلي بن موسى الرماني،(فإن كتابيهما أصلح ما صنف في هذا المعنى، غير أنهما أطالا الخطب فيه، وأوردا فيه كثيرا مما لا يحتاج).

ذكر الشيخ الطوسي في مقدمة تفسيره (التبيان في تفسير القرآن) كل هذه النماذج والأمثلة، كي يمهد لرؤيته عن التفسيرالجامع للشرائط الصحيحة، ومتجاوزا للسلبيات التي وقع فيها من سبقه من المفسرين، وقد تجسدت رؤيته التفسيرية الجامعة هذه في تفسيره (التبيان)، إذ اهتم الشيخ الطوسي بجميع الجوانب التي يفترض أن يهتم بها كل مفسر مع مراعاة الجوانب الفنية والعلمية حتى يؤدي التفسيرالغرض المطلوب ويحقق الهدف، يقول الشيخ الطوسي وهو يتكلم عن الدافع الذي دفعه لتفسير القرآن: (سمعت جماعة من أصحابنا قديما وحديثا، يرغبون في كتاب مقتصد يجتمع على جميع فنون علم القرآن، من القراءة، والمعاني والإعراب، والكلام على المتشابه، والجواب عن مطاعن الملحدين فيه، وأنواع المبطلين، كالمجبرة، والمشبّهة والمجسّمة وغيرهم، وذكر ما يختص أصحابنا به من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحة مذاهبهم في أصول الديانات وفروعها).

وتعهد الشيخ الطوسي بأن يفي تفسيره بكل هذه المطالب، وهذا عهد من الشيخ الطوسي أن يكون تفسير التبيان تفسيرا جامعا، وسنذكر أمثلة على هذه المطالب في الصفحات القادمة، وتفسير التبيان من خلال استعراضنا لصفحاته، نرى أنه تفسير جامع إضافة لتوفر عنصر الاجتهاد فيه من خلال السير بالمنهج العقلي في التفسير، وقد أفرد الشيخ الطوسي فصلا تحدث فيه عن المبادئ التي يُفترض بالمفسر أن يلتزم بها، سنعرض نماذج منها في محور آخر.

وصف صاحب (الموسوعة الحرة) تفسير التبيان وصفا منصفا أرى من المناسب أن نقتطف فقرات من هذا الوصف:

(هو تفسير حافل جامع، شيعي معتدل، أقرب لأهل السنة، وشامل لمختلف ابعاد الكلام حول القرآن، لغة وأدبا قراءة ونحوا، تفسيرا وتأويلا، فقها وكلاما بحيث لم يترك جانبا من جوانب هذا الكلام الإلهي الخالد، إلا وبحث عنه بحثا وافيا).

ويستدل صاحب الموسوعة على أن تفسير (التبيان) قد ألفه الشيخ الطوسي في السنوات الأخيرة من عمره، بدليل أن الطوسي يحيل بعض المسائل في التفسير إلى كتبه المؤلفة سابقا، في الفقه والأصول والكلام، وهذا يدلل:

(أنه كتب التفسير متأخرا عن سائر كتبه في سائر العلوم، ومن ثمّ فإن هذا الكتاب يحظى بقوة ومتانة وقدرة علمية فائقة، شأن أي كتاب جاء تأليفه في سنين عالية من حياة المؤلف ... هذا التفسير حاز قصب السبق من بين سائر التفاسير التي كانت دارجة لحد ذلك الوقت، والتي كانت أكثر مختصرات تعالج جانبا من التفسير دون جميع جوانبه، مما أوجب أن يكون هذا التفسير جامعا لكل ما ذكره المفسرون من قبل، وحاويا لجميع ما بحثه السابقون عليه).

إنّ تفسير (التبيان) للشيخ الطوسي يعد من التفاسير الجامعة، بمعنى أنه استخدم جميع إتجهات التفسير التي تحقق الهدف من التفسير وهو بيان وتوضيح معاني ومقاصد الآيات القرآنية، بطريقة الاستفادة من اتجاه أو أكثر حسب سياق وحاجة فهم الآية أوالآيات، وليس بالضرورة استخدام جميع الإتجاهات، وقد راعي الشيخ الطوسي أن يكون تفسيره جامعا من خلال التزامه بجملة من المبادئ العامة التي ذكرها هو في كتابه (التبيان)، وهي في الواقع مبادئ يحتاج إليها كل مفسر يطمح أن يكون تفسره جامعا واضحا يؤدي الغرض ويحقق الغاية، الشيخ الطوسي استبعد البحث في بعض الابواب كونها محسوبة على علوم أخرى، فهو لم يتركها نهائيا، كما أنه لم يسهب فيها حتى لا يخرج عن الهدف من التفسير، مثلا الكلام عن الاعجاز في القرآن، يرى الشيخ الطوسي أنه لا يدخل ضمن موضوعات التفسير (الكلام في إعجازه، وجهة إعجازه، واختلاف الناس فيه، لا يليق بهذا الكتاب، لأنه يتعلق بالكلام في الأصول).

كذلك من منهج الشيخ الطوسي استبعاد البحث في النقصان أو الزيادة في القرآن الكريم، وعد الكلام في هذا الباب مما لا يليق بكتاب الله العزيز، وكل كلام في النقيصة أو الزيادة لا يؤخذ به، فإن القرآن هو الموجود بين الدفتين المنقول نقلا متواترا، والمسلمون مجمعون على ذلك، أما الشواذ منهم فلا يؤخذ بكلامهم، لأنهم يعتمدون على أخبار آحاد، يقول الشيخ الطوسي عن أقوال هؤلاء: (طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها).

ويورد الشيخ الطوسي حديث الثقلين كرد على القائلين بالنقص أو الزيادة: (إني مخلف فيكم الثقلين، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)، يقول الشيخ الطوسي مدللا بالحديث السابق على سلامة القرآن الكريم من زيادة أو نقصان، (وهذا يدلّ على أنه موجود في كل عصر لأنه لا يجوز أن يأمر بالتمسك بما لا نقدر على التمسك به. كما أن أهل البيت، ومن يجب اتباع قوله حاصل في كل وقت. وإذا كان الموجود بيننا مجمعا على صحته، فينبغي أن نتشاغل بتفسيره، وبيان معانيه ونترك ما سواه).

تحدث الشيخ الطوسي عن آرائه التي التزم بها في تفسيره، وهي مبادئ عامة يفترض بكل مفسر أن يأخذ بها، مع مراعاة التطوارات في الفهم حسب الزمان والمكان، لأننا لا يمكن أن نثبت على فهم واحد مع التطور في مختلف العلوم، ولكن كمبادئ للمنهج العام في التفسير لا يمكن أن يتجاهل المفسر آراء الشيخ الطوسي في هذا الباب،   طرح الشيخ الطوسي، تأكيده على تفسير القرآن بالأثر الصحيح المنقول عن النبي (ص) والأئمة الأطهار(ع)، وفند القول بالرأي في القرآن ولا يجيزه، والتفسير بالأثر قسّمه سماحة العلامة (معرفة) إلى تفسيرالقرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة، وتفسير القرآن بأقوال التابعين .

أرى أن الشيخ الطوسي لا يجيز الأخذ بالأثر إلا بشرط رجوع هذا الأثر إلى النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع)، وبشرط آخرعلى أن لا يتقاطع الأثر مع ظاهر القرآن، ويوجب الشيخ الطوسي الأخذ بظاهر القرآن ويتساءل (كيف يجوز أن يصفه – (الله تعالى) – بأنه عربي مبين، وأنه بلسان قومه، وأنه بيان للناس، ولا يفهم بظاهره شيء؟)

ويضيف الشيخ الطوسي أن الأثر إذا تقاطع مع ظاهر القرآن لا يؤخذ به، والدليل قول الرسول (ص):(إذا جاءكم عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط)، وروي مثل ذلك عن الأئمة(ع)، وهنا يؤكد الشيخ الطوسي أنه لا يمكن العرض على كتاب الله ما لم يكن ظاهر القرآن مفهوما، ويتساءل (كيف يمكن العرض على كتاب الله، وهو لا يفهم به شيء؟ وكل ذلك يدل على أن ظاهر هذه الأخبار متروك).

نعم يترك الأثر مع التعارض مع ظاهر القرآن، هذا هو رأي الشيخ الطوسي وأعلام الشيعة قديما وحديثا، مع العلم في الإمكان تأويل الخبر إن كان صحيحا، وإن كان متقاطعا فلابد من وجود خلل في متن الخبر أو سلسلة الرواة، وهذا أمر وارد، لأن دعوة النبي (ص) إلى عرض الحديث على القرآن، نستوحي منها أن النبي (ص) عارف أن هناك أناس سيحرّفون ويزورون أحاديثه، وكذلك الأئمة الأطهار (ع) .

 

علي جابر الفتلاوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم