صحيفة المثقف

الشعر يفترض حضورا في مساحات الغياب

wejdan abdulazizكانت السماء صافية، لكن القمر نحيلا يبعث ضياءا لايكاد يغطي مساحة الحضور، كنت منهمكا في هذه اللحظة، اناقش عن بعد ذلك الشاعر، في مكان من غرب القلب العراقي، هو غائب وانا ابحث بحضوره الشعري .. اتفاعل مع (كل هذا الغياب)، وانصت بامعان لنغم (أنــاشــيــد للســيــّدة فــي الــصــالــة)، واعترف اني دهشت ورحت اتبعثر بينها وبين (سـونـيـتـات لـلـسـيـدة فـي الـقـريـة)، انه الشاعرنامق عبد ذيب مع بعض من قصائده المثيرة والمدهشة، والتي توترت بين ثنائية الغياب والحضور، وراحت تبحث عن وجود افتراضي .. وهكذا يكون الشعر والوجود، يقول ابن عربي : "العالم كله حي ناطق من جهة الكشف بخرق العادة التي الناس عليها" ويقول بودلير : "الشعر تجاوز للواقع العيني، فهو ليس حقيقة كاملة، سوى ضمن عالم مغاير وأخروي"، ويقول المعري : "أما اليقين فلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا"، ويقول هيدغر : "الوجود سؤال، لكنه ليس من الموجود في شيء" .. اذن فـ(الشعر والوجود، يشكلان بؤرة رؤيوية تأويلية تعددية تدرك الكينونة بوصفها انفتاحا للموجود، ولذا فما فتئ هيدغر باعتباره باحثا أصيلا في العلاقة التواشجية بين الشعر والوجود، يؤكد "على أن الإنسان لا يستطيع معرفة ما لا يمكن حسابه، أي أن يصونه في حقيقته، إلا انطلاقا من مساءلة خلاقة وقوية تستمد من فضيلة تأمل أصيل، فهذا الأخير يحمل إنسان المستقبل إلى مكانه بين الإثنين: الوجود والموجود، حيث يكون من طبيعة الوجود، والحالة هذه، أن يظل غريبا في قلب الموجود، وهذا المكان هو الكينونة هنا أو الوجود في العالم (الدارين) باعتباره مجالا لدنيا لانفتاح الوجود ولانسجامه واحتجابه في آن معا". وهنا يشير هيدغر إلى هولدرلن بوصفه شاعرا يعرف شيئا بخصوص هذا الموضوع.) وانا اسوق هذه المقدمة، لادخل الى عالم الشاعر ذيب وقلقه المتوتر بين الغياب والحضور، تأسيسا لتأثيث عالم من الحضور الذي ينشده الشاعر في قصائده التي اشرت لها اعلاه .. يقول ذيب في قصيدته (كُـــلُّ هـــذا الــغـِـيــاب):

 

(دونَ انتباه

يغضبُ لوردةٍ مرّ بها عاشقٌ وما سلـّم

ويُخبّىء أحلامَهُ في الصدى

ويتفاجأ بالضحى يتكسّرُ

مثلَ زجاج

ضحى الحدائق ِ الضائعة

وظـُهرِ القصائدِ التي لا تسمعينها

حين كنتِ تمرّينَ ساهمة ً كمَلِكة

وساطعةً كشمسٍ في راية

وغريبةً كقدّيسةٍ تائهة

تمرّينَ فينْخَدِشُ قلبي

بالضوء

بوهْمِ الفتى يُعلـّقُ أيامَهُ في الغياب

كلِّ هذا الغياب

وأنا واقفٌ تحت الشجرةِ الأولى

تلك التي حين سَجَدْتُّ تحتها أخذتني

لروحِها)

 

فهو وسط غياب، ينشد الحضور، والحضور تمثل بروح الشجر النامي، بعلة غيابها كقديسة، لكنها مفعمة بالضوء، وهو حضور اخر كما يتبدى من خلال القراءة، (ان الغياب موازنة نفسية تعمق اداء فعل الذات، فحين تصبح قوانين الخارج الضاغطة اشكالية كبرى تتهجم على خاصيات الفرد البحتة، فان هذا يترتب عليه استبدال موقفي مواجهة لخطورة الهيمنة المتزايدة للمد الخارجي.)ص7، (ويسعى الشاعر بغيابه الى خلق بلبلة بتدمير معتقدات الغياب الموضوعي وبعث الدهشة بالتقاط جوانب داخلية وخارجية مفتوحة على جميع الاحتمالات، فيحل غير المألوف في سياق علائقي يجمع بين الذات والموضوع)ص10 فنتازيا الغياب، وكان ديدن الشاعر ذيب ايجاد دوال من اشياء المحيط، ليكرس الحضور الذي يتصارع مع الغياب الذي يحاصره كل مرة، (إذن فالشعر في جوهره تيه، بقدر ما هو مشروع لا مكتمل لا يتحدد بهدف غائي، تتوقف عنده حركة الشعرية، ومن ثم فهو ضد الحقيقة التي تظهر كموجود يمارس إكراهاته على الكائن الجوهراني الشعري، إن اللاحقيقة في الشعر هي الوجود الأصلاني المنفتح، أو التجلي الأكثر تميزا في تعدديته. فهو دليل الحيوية الناطقة التي تعري إمكانات العالم التخييلية، التي تحدس بالظن، بقدرات الكائن الشعري التنبؤية. والشعر في إحدى إمكاناته واختياراته الكبرى مساءلة حيوية للوجود. فكيف تتحدد هذه المساءلة؟ أو بالأحرى كيف يثير الشعر أسئلة الوجود التي يعيد من خلالها كشف التوتر الحيوي للوجود الناطق؟)، من هذا يبقى الشاعر يتقلقل في مشاهداته المحيطية والتخيلية بقوله:

 

(أجدُ الكلماتِ حائرةً في القيامةِ

تلك الشجرة الأخيرة ما اسمُها

تلك القرية الأخيرة ما اسمُها

ذلك الأبُ الأعظمُ كيف شرّدنا

وأولئك الملائكة ُ لماذا لم يغضبوا

كأنهم يلعبون

كأنّ دمي وردة يقطفـُها العابرون

كأنّ الفتى بلا آلهةٍ يبعدونـَهُ عن الهاوية

حيثُ سقطـَ محدّقا ً

بالرايةٍ تحتضنُ شمسَكِ الساطعة ..

بالشجرةِ وهي تترنـّحُ ..

بالقصائدِ وهي تحاولُ ..

بالملائكةِ وهم يَلمّونَ أجنحتـَهم ..

بالسنين تـُحضّرُ حقائبَها الفارغةَ

من

كلِّ

هذا

الغِياب)

وكأني به لاوجود له الا بالقصائد التي تفتح له عالم اللاممكن، بعلة كينونته داخل (كل هذا الغياب) الممتد وزمنه الافتراضي ...ثم يتهجد في قصيدته (أنــاشــيــد للســيــّدة فــي الــصــالــة) بقوله:

 

(يا لهذا الشعر

تأخذين بيده نحو الأعالي

ولكنه يعودُ دائماً ليختبىء هناك

حيث كفّاكِ بَيْدَرا قمح

حيث شالـُكِ يغطّي الليل

حيث عيناكِ بوابتان للخلود)

 

محاولة منه لانزال عالم الشعر السماوي الافتراضي في عالم الغياب الى عالم الحبيبة، وعيناها التي تمث بوابتين للخلود، (فالشعر ينحو منحى تأويليا فائضا، فحب الحكمة ليس إلا قراءة لا متناهية لوجود لا متناه، ومن ثم يغدو فهم العالم سبيلا لتجريب كينونة المتخيل، هذا التجريب الذي يبدأ من تكسير حدود الواقع الحسي والواقع المعقول أيضا ليلج اختبار الاستحالة. وكما يرى جورج باتاي، فالإمكانية العقلية ليست هي البعد الوحيد لوجودنا، فقد يتاح لنا أن نعيش كل حدث يخصنا في علاقة مزدوجة، مرة نعيشه كشيء نفهمه، ندركه، نتحمله، ونسيطر عليه بربطه في النهاية بقيمة الوحدة، مرة أخرى نعيشه كشيء يخفى عن كل استعمال، وعن كل غاية بل يفلت من قدرتنا على تجربته، لكننا لا نستطيع نحن أن نفلت من تجربته. كما لو أن الاستحالة - تلك التي فيها لا يعود بإمكاننا أن نتمكن منها - كانت تنتظرنا وراء كل ما نعيشه ونفكر فيه ونقوله)، ويبقى شاعرنا ذيب يعيش تقلبات خلجاته الانسانية في البحث ومساحات الغياب التي تحيط به، ليفترض ذلك الحضور الملاذ في جدل وجودي وواحات الشعر التي تغريه في مواصلة البحث، سائحا في متاهاته ....

 

(أعرفُ شجرتكِ بين ملايين الأشجار في غابة المطر

أعرفُ كيف تبتسمين لوردتي العابرة

أعرف حين أراكِ بأنني مثلُ أيّ مُريد ٍ

سأكتفي بالتحديق في الأفق

أعرفُ بأنني سأموت قبلَ أن أراكِ

ولكنني سأموت ملتفتاً نحوكِ باحثاً عن روحي

روحي التي ستظل هناك في الأعالي وحيدةً

تحدّقُ بكِ أينما كنتِ ...)

 

ويستمر الصراع بين الثنائيات المتعددة التي طرحتها رؤية الشاعر نامق عبد ذيب ...

 

            

وجدان عبد العزيز

...........................

المراجع:

كتاب (فنتازيا الغياب) م.د.علياء سعدي عبدالرسول /الموسوعة الثقافية رقم76 /دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ص7ـ10

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم