صحيفة المثقف

مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب" لمالك بن نبي بين السيرة الشخصية والتاريخ وفلسفة الحضارة (3-4)

3bobaker jilali- مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب"، لفلسفة الحضارة

لم يكن مالك بن نبي الطالب في مرحلته الدراسية في الطفولة بالجزائر وفي مرحلة الشباب بفرنسا بسحب مذكراته طالبا عاديا، بل كان صاحب فكر ورسالة وكلمة وموقف، صاحب مشروع فكري نهضوي حضاري، بانت إرهاصاته في طفولته وفي شبابه، مشروع تجاوز به أترابه في الجزائر وتفوّق حتى على النخبة من أقرانه في المدارس الفرنسية ومعاهدها، تكوّن فيه بالعناية الإلهية التي هيّأت أسبابه، فكان إعداده الأولي الإسلامي العربي الجزائري الأصيل المتين، وجاءت سفرياته العديدة من تبسة الجزائر إلى باريس ذهابا وإيابا، ثم جاء تكوينه العلمي الرياضي، ثم تكوينه التقني العملي، بالإضافة إلى تكوينه الفلسفي وتنوع ثقافته، بفعل ذلك كلّه تشكّل لديه منهجا خاصا محكما في التفكير، ومنطقا دقيقا في التعامل، وأسلوبا مزج فيه بين بعد النظر والدّقة العلمية والعمق الفلسفي.

استطاع أن يجمع بين الحكمة العلمية والحكمة الفلسفية في تتبع أحوال الظواهر والأشياء وفي تحليل الحوادث والقضايا والمشكلات، وفي اتخاذ المواقف، أسلوبه يقوم على مراعاة طبيعة البشر وفطرته، ويستخدم العقل والمنطق والبراغماتية، ويستفيد من العلم والتاريخ وخبرات وتجارب الآخرين في الماضي والحاضر إلى أبعد الحدود، فكان بحقّ منهجه في التفكير والدراسة والتحليل لا يستقيم وجوده وحاله إلاّ لدى مفكر أو فيلسوف، وبان ذلك بوضوح في سائر كتاباته التي نشرها تحت عنوان كبير "مشكلات الحضارة"، من منطلق أنّ مشكلة الإنسان المعاصر في تخلّفه وانحطاطه في أصلها مشكلة تحضر.

جسّدت مذكرات شاهد للقرن العشرين "الطالب" فعلا رؤية فكرية وفلسفية إلى الحضارة والمدنية، انطلاقا من وضع استعماري فاسد متعفّن مختل متدهور باستمرار في الجزائر وفي سائر البلاد المستعمرة، ووضع حضاري علمي وتكنولوجي متطور باستمرار في فرنسا وفي العالم المتقدم، ومن منطلق أفول نجم حضارة إسلامية عريقة وراقية كانت قمّة في العطاء وبلغت أوجها في الازدهار، ولم تتجه صوب استعمار الشعوب والأوطان والعقول وعلاقاتها بغيرها من الأمم والأقوام لا تكون إلاّ بالرضا والاختيار، فالعناية الإلهية شدّتها نحو الحرية والعدل والمساواة في الدين والدنيا، حضارة زحفت على العالم لإرساء مفاهيمها ولنشر ثقافتها وسائر منتجاتها المادية والروحية، وخاصة العالم الإسلامي الذي داسته أقدام جنود الاستعمار وداست معه كرامة المسلمين ودينهم وثقافتهم وتاريخهم الذي اشتمل على حضارة راقية في النظر وفي العمل، حضارة كانت حقّا وفعلا فتحا مبينا على أوربا في العصور الوسطى المظلمة، فأخرجتها من ظلمات الجهل وفاجعات الاقتتال والتناحر ومعاناة الظلم والجور إلى نور العلم ومتعة الأمن وراحة العدل.

نال الاستعمار الفرنسي من أبناء الجزائر كرامة وثقافة ودينا ولغة، كما نهب خيراتهم وثرواتهم الطبيعية، وبدّد طاقتهم البشرية الفكرية والروحية، وسفك دمائهم وذبحهم كالخراف، ومازال كذلك مع أبناء الجزائر المهاجرين عمال وطلبة، بثّ في أوساط نخبتهم داخل الجزائر وفي مدن فرنسا الفرقة والشّقاق والانقسام فصاروا وحدويين ومنشقّين، وقبل ذلك كانوا على قلب رجل واحد، لا نزاع ولا فرقة، حتى بين يهود الجزائر ومسلميها، وانغمس معظمهم في ثقافة الغرب وفي مغرياتها المادية، ويرون في ذلك الحداثة والتحديث اللاّزمين، التقدّم المطلوب الذي هو شرط ازدهار أوروبا وتطوّرها وسبب خروجها من التخلّف والانحطاط، وتسابق الجميع على الدنيا من دون اهتمام بالموت والحياة الأخرى، ومن دون التفات لمآسي الشعب وهمومه ومعاناته، فكان الجميع ضد الجميع بسبب منصب سياسي أو مركز اجتماعي أو مقدار من المال، أو عمالة رخيصة من غير منطق عملي أو فعّالية في المبادرة والاتجاه.

في هذا الجو الجزائري المريض بالقابلية للاستعمار، وبكل ما جرّته هذه الظاهرة من مآسي منذ وطأ الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر على أبناء هذه الأرض الطيبة، تأكّد لدى الطالب الراوي أنّ الإصلاح الذي يدعو إليه الممالئون للاستعمار مشين، والذي يدعو إليه غيرُهم ناقص ينقصه عمق الرؤية ودقتها وسلامتها وكفايتها، وتأكّد له أنّ المشكلة الأصل في البلاد العربية والإسلامية المستعمرة وفي غيرها من البلاد المتخلّفة هي مشكلة حضارة لا غير، وانكشف الفرق بين الصدّيق "الطالب" في رؤيته للإنسان وللتاريخ وللمجتمع وللحضارة وللحياة عامة وبين أترابه، جزائريين وفرنسيين ومن جنسيات أخرى، وانكشفت هواجس "الطالب" العميقة في التحضّر وفي مشكلات التحضّر، يحلل وينقد ويقارن ويستنتج يبحث عن الحلول، ويقدم رؤى فلسفية وفكرية وروحية على درجة عالية من الدّقة والوضوح والعمق حول شروط التحضّر وأسباب أفوله وحقيقته وما إلى ذلك كثير.

اجتمع عدد من الأسباب والظروف عرفتها حياة "الطالب" في الجزائر طفلا وفي فرنسا شابا يطلب العلم، أثّرت في تكوينه النفسي والروحي والديني والسياسي والعلمي والتقني والحضاري عامة، جعلت منه الشاب الطموح إلى تحقيق حرية واستقلال وطنه وشعبه وأمته، وإلى التأسيس لمشروع فكري نهضوي إصلاحي حضاري إنساني بطابع عالمي. مشروع مبني على أسس علمية، ووفق إستراتيجية محكمة ودقيقة، ورؤية فلسفية عميقة وواضحة ذات أبعاد تجمع بين الجانب الروحي والمادي، بين العلم في موضوعيته ودقته وكميته وبين بعد النظر الفلسفي وعمقه ورحابة أفقه وبين ظروف الإنسان الفردية والاجتماعية وسائر طاقاته والإمكانيات المتاحة له، وبأسلوب براغماتي واقعي يضمن للجميع مصالحهم ويضمن مقاصد شرع في الدين الإسلامي، يأخذ المشروع بهذه الصورة طريقه في اتجاه التحقق، إذا تخلّصت الشعوب من الاستعمار ومن القابلية للاستعمار أولا، وأخذت بأسباب وشروط النهضة والحضارة التي تعود في الأصل إلى ما هو روحي بالدرجة الأولي، وأحاطتها بسياج مكارم الأخلاق وتعاليم الشرع الحنيف.

اجتمعت مواهب الطالب العقلية ونمت وتفتقت بفعل تكوينه الروحي والديني والأخلاقي الذي تلقّاه في أسرته الجزائرية المسلمة المحافظة، وكان تكوينه الأولي قويّا ومتينا، وتبلورت هذه المواهب أكثر بعد سفره إلى باريس، وانخراطه في المجتمع الفرنسي الجديد عليه، وتفتحه على الثقافة الغربية والحياة الأوروبية واطلاعه على الصراع الفكري والإيديولوجي في الغرب الأوروبي وفي البلاد المستعمرة، من خلال الاتجاهات الفكرية والفلسفية والسياسية والدينية وغيرها، وما زاده إلماما بهذا الصراع مشاركاته وإسهاماته الفكرية والصحفية بالخطب والمحاضرات والمقالات الفكرية في الكثير من الندوات والمؤتمرات، وكان لتكوينه العلمي والتقني في المعهد اللاّسلكي وفي مدرسة الكهرباء والميكانيكا الأثر البارز في تكوين رؤيته في الإصلاح والتغيير لا على أساس العاطفة الدينية أو العاطفة الوطنية، ولا بالطرق الصوفية ولا بممالئة الطغاة والتعاون معهم، لأنّ ذلك كمن ينتظر من سجّانه وجلاده يُسلّمه مفتاح باب السجن ليتحرر منه، فالتغيير يبدأ من الذات ويجري في الواقع وفق منهج علمي في إطار استراتيجيه وفلسفة واضحة تحدد المبادئ والأصول والمناهج والوسائل والأهداف، وأي مشروع خارج هذا السياق مصيره الفشل.

اتضحت معالم مشروع "مالك بن نبي" الحضاري وبانت إرهاصات منهجه في التفكير وفي التحليل وتبلورت بوادر فلسفته في الحياة في المذكرات، من خلال العديد من المشاهد والحوادث والمواقف، وهو طفل في الجزائر وشاب طالب يتنقل بين الجزائر وفرنسا، ويروي لنا بعد نظره في الربط بين ما هو اجتماعي وما هو تقني في سياق يقوم على الوحدة والتكامل، فيقول: "...وإنّما كنت أتناول بكل اغتباط تلك الأدوات التي صنعتها الحضارة التي استخدمت النار والحديد، وأتذوق أثناء عملي كل ما في اللّحظة من عذوبة بسيطة. أما الوحدة فلأنّها كانت تغذّي في نفسي الجانب الروحي، وتعرض على فكري اهتمامات وموضوعات أخرى: كنت في جوّها الخاص أعقد الصلة تلقائيا بين القيّم الاجتماعية والتقنية، التي أشاهدها وأتذوقها في الشارع وفي المدرسة، والقيّم التي أراها في هذا الجو، الذي يجد فيه الشباب الوحدوي روحه المسيحية في دقيقة التهجّد عندما يقيمها "هنري نازيل"19 ، وكنت بدوي اكتشفت خلال تلك الدقيقة ما تنطوي عليه الروح المسيحية من حرارة في عقيدتها ومن طاقة على الإشعاع وربما كشفت لي هذه الملاحظات عن جوانب في روحي المسلمة لم أكن أشعر بها قبل بالحدة نفسها إذ لم تكن روحي الموحّدة للمفاهيم الثالوثية التي يحملها إخواني الوحدويون، وبدأت تدور بيني وبينهم محاورات تدخل موضوعات جديدة في جو الوحدة وتساؤلات جديدة عند رفاقي."20

ويقول في تكوينه الفكري بصحبة صديقه "حمودة بن الساعي: "ولكنّه مع ذلك كان الوحيد من جيلي الجزائري، الذي أستطيع العمل الفكري معه لأنّ شيطان المعرفة قد استولى عليه منذ صباه ، حتى أنني اعتقدت تلك الليلة، أننا سوف نقوم بعمل سيبقى أثره في في المجتمع الجزائري...ولكن بعد أربعين سنة عندما تعود لي اليوم بعض ذكريات تلك الفترة، أدرك أنّني على أية حال، أدين لـ "حمودة بن الساعي" باتجاهي كاتبا متخصصا في شؤون العالم الإسلامي حتى لو أنّني لم أنجز معه أي عمل بعيد المدى...ومن ناحية أخرى يجب أن أقول إنّ تحولي عن دراستي خاصة أيام المعرض قد زاد بصحبته منذ أصبحت مهتما بالفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ، أكثر من اهتمامي بمواد مدرسة اللاسلكي...لم يبقى للأفق البعيد أي تأثير في توجيهي، لكنني بدأت أشعر بآفاق جديدة لازالت غامضة، ولم أكن أستطيع التعبير عنها بكلمات ولكنّها تؤثر بوخزها في نفسي على توجيهي العام."21

يروي "مالك بن نبي" قصة اختلافه مع صهره حول منطق الإصلاح، ليعرض التباين بين منهجه في الإصلاح المستمد من وعيه العلمي ونظرته الفلسفية وإيمانه بالقيمة الاجتماعية للتقنية وهو منهج تكوّن لديه في فرنسا وبين المنهج الصوفي المعروف في الجزائر وفي البلاد العربية والإسلامية، فيقول:"استطاع صهري بعد نكبتنا الاقتصادية سنة 1930 أن يؤمّن قوت أطفاله في شغل مع شركة تصدير للحلفاء مقرها بالمدينة، ولعلّه أراد مزيدا من الضمان لمصير أسرته، فتعلّق ببركة شيخه "سيدي التيجاني" أكثر مما كان عليه، وبما أنّني أثناء إقامتي بفرنسا تعلّقا بالفكرة الإصلاحية المغايرة تماما للطرق الصوفية، فقد شعرت ببرودة وفتور بيننا، سيكون لها أثر في علاقتنا الفكرية، ولكن علاقتنا العائلية ستبقى على أيّة حال كما هي."22

يصف "مالك بن نبي" في عرض مذكراته في تواصله الثقافي والحضاري مع أقرانه من الطلبة الجزائريين والفرنسيين وغيرهم من الجنسيات الأخرى، وهو يعيب على إحدى الظواهر الثقافية والحضارية التي يتصف بها المثقفون في العالم الإسلامي، يقول: "وفي الحقيقة كان صديقي "حمودة" قد أتقن اللغة العربية في محاضرته "السياسة والقرآن" كما علمت ذلك من بعض المحاضرين من الشبان الذين تعرفت عليهم بالنادي، غير أنّ صدمة صغيرة عكّرت سروري عندما سألت الشيخ العقبي ففاجأني برأي غريب: إنني لا أعتقد أنّ هذه المحاضرة من تحرير "حمودة بن الساعي" ولا من بناة فكره، فبعض جملها وتكرر على مسمعي كأنني طالعتها في إحدى المجلات الشرقية."23

ويضيف الراوي بأنّ الحالة المرضية تنمّ عن مركب نقص وشعور بالضعف أمام الثقافة الشرقية من جهة والثقافة الغربية من جهة أخرى، الأمر الذي جعل من يعاني هذا المرض الثقافي والفكري والأدبي في تبعية دائمة لغيره، لا يعتمد على نفسه لتغيير حياته وتطويرها، فيقول: "لم أكن قد عرفت بعد أنّها حالة مرضية تعتري غالبية حاملي الثقافة عندنا، فإن كانت ثقافتهم تقليدية فمثلهم الأعلى في الشرق، وإن كانت عصرية فمثلهم في فرنسا. وبالأحرى لم أكن أعرف أنّ هذه الحالة المرضية تعتري كل مثقفي العالم الإسلامي، إذ تراهم يعانون مركب نقص نحو الثقافة الغربية، وإنّما تتخذ هذه الحالة ازدواجية بسبب ما يعاني الشباب الجزائر تجاه "طه حسين" من ناحية، وتجاه "فرانسوا فانون"من ناحية أخرى، لأنّ التكوين غالبا ما يكون أدبيا. وهي بالتالي ظاهرة عامة: إنّ كل مجتمع فقد حضارته يفقد بذلك كل أصالة في التفكير، أو في السلوك أمام الآخرين."24 والإقلاع الحضاري من جديد أو لأول مرّة يقتضي التوازن في البناء الحضاري، وهذا الأخير يشترط الأصالة والإبداع في الفكر والسلوك.

ينعت الراوي الحضارة من خلال التمييز بين مظاهرها المادية وأوضاعها المضطربة وما حققته من تطور كبير في مجال تحديث الحياة اليومية بالاختراعات المذهلة المبهرة وبين وجهها الأصيل الثابت، ونموذجه في ذلك فرنسا، يقول: "إنّ هذه الحياة المضطربة المصطنعة لا تعطي صورة صحيحة عن الحضارة الفرنسية ، وإنّما توجد هذه الصورة بنماذجها الأصيلة وأصولها البعيدة في الريف في الطبيعة، حيث تكونت صلة الإنسان بالتراب على مدى القرون...لم يكن ممكنا بباريس التعرف على هذا الوجه الحقيقي للحياة الفرنسية، وهذه هي المرّة الأولى التي أتعرف فيها عليه، بقدر سيزيد اكتشافي، أرى الملامح التي أوحت إلى "سولي" وزير هنري الرابع في أوائل القرن السابع عشر، ذلك الشعار الذي وضعه أساسا لسياسته: الحراثة والمرعى عما الضرعان اللذان تحتلبهما فرنسا. واليوم أدرك تمام الإدراك، أنّهما الضرعان اللذان رضعهما عصر النهضة، وأنّ النهضة الفرنسية بالذات هي بنت هذا الإرضاع."25

يحكي الراوي عن انتسابه إلى الإصلاحيين ويعبّر عن اتجاهه الفكري والثقافي المستمد من تربيته ومن تكوينه وهو طفل في الجزائر، وهو اتجاه نما وتطور بفعل التواصل الثقافي والاجتماعي والفكري والسياسي بين ثقافتين مختلفتين وحضارتين متباينتين، هما الثقافة والحضارة الإسلاميتين من ناحية والثقافة الغربية الحديثة من ناحية أخرى، ويصف الفترة وانتسابه الثقافي والفكري والسياسي بما يلي: "وهكذا بدأت تلك الفترة تنشأ صورة القومية الجزائرية بجناحيها: الجناح الكادح الطامح إلى البرجوازية في ذات قيادته المتواطئة مع الحركة اليسارية الفرنسية، والجناح المتواطئ مع الاستعمار...لم يكن "حمودة بن الساعي" وأخوه منتسبين لأحد هذه الأطراف، بينما كنت أنتسب للطرف الإصلاحي، لأنّه كان يمثّل في نظري الصورة الجزائرية للفكرة الوهابية التي كنت أرى فيها منقذ العالم الإسلامي."26

كان "الطالب" في مرحلة الدراسة بباريس يتواصل مع أقرانه من جنسيات وأديان وتيارات فكرية كثيرة، وكان يختلف معهم في طرح المشكلات وفي معالجتها، المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة مشكلات البلاد المستعمرة، وكان يرى أنّ أصل المشكلات التي يعاني منها الإنسان المعاصر خاصة الإنسان المتخلّف حضارية بالدّرجة الأولي، يقول في ذلك: "كنت مع صديقي "صالح بن الساعي" وجماعة من طلبة جزائريين نتناجى بغرفة نزل في القاهرة حول مسيرة الثورة الجزائرية، إذ قام صديقي ليغلق علينا باب الغرفة، فتذكرت فجأة كم كان صديق الصيني أقرب لمنطق الحذر، فصرخت لصالح: "أرجوك أن تترك الباب مفتوحا، وإن استطعت أن تزيل الجدران من حولنا فافعل، لأن الجدران قد تكون وراءها آذانا صاغية."..ومهما يكن فاليوم بعد أربعين سنة أرى بصورة أوضح جوهر اختلافي مع صديقي الصيني، إذ كان يطرح قضية البلاد المستعمرة بتعبير السياسة، وكنت أطرحها من الوجهة الحضارية."27

بانت ملامح المنهج الفكري الفلسفي الحضاري لدى "مالك بن نبي" في طفولته وفي شبابه وفي أيام دراسته هو الأمر الذي تؤكده مذكراته، فكثيرا ما دعا في تبسة بعد اندثار أشجار غابتها وقفرت أراضيها إلى تعويض زراعة الحبوب بزراعة الصبّار والتين الهندي، وكثيرا ما انتقد مواقف الزعماء السياسيين والتيارات الفكرية والفلسفية والدعوات الإصلاحية بفقدانها الفعّالية، كما تعلّق اهتمامه بالفلسفة والفلاسفة وبعلم الاجتماع وبالتاريخ وبسائر النتائج العلمية في الفيزياء والطب والرياضيات وبالاكتشافات والاختراعات وبجميع التحوّلات التي عرفتها أحوال العالم في مرحلته الدراسية، ومن صور اهتماماته صورة تعلّقه بالتجارب العلمية والتقنية، ومنها تجارب "جورج كلود" التي يقول فيها: "ولم يتعلق اهتمامي كما تعلّق بتجارب "جورج كلود" يستخدم الحرارة البحرية، لماذا لا نستخدم الحرارة الصحراوية؟ كان هذا السؤال يتردد في ذهني في تلك الفترة، لأنّ المجال العربي صحراوي على العموم، وأصبحت أولي شطرا من وقتي لدراسة "الترموديناميك" خاصة. وهكذا عاش جيلي، دون أن يتصور أنّه يعيش تحوّلا كبيرا في جميع اتجاهات التاريخ."28

إنّ القارئ لمذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب" مثلما يكتشف "مالك بن نبي" الإنسان يكتشفه من خلال تكوينه الديني والسياسي والاجتماعي والفكري، خلال الدراسة وأثناء تنقله بين الجزائر وفرنسا، ويجد أنّ تفرّده في منهج التفكير في الطرح والبحث والمعالجة والنقد والاستنتاج، وفي قدرته على الحوار والإقناع والجمع بين الأدلة والأسباب وسرعة استخلاص النتائج من المقدمات، زاده تكوينه العلمي والتقني الدقة والوضوح في تحليلاته في أفكاره، وهكذا ظهرت بوادر منهجه العلمي والفلسفي المتقدم كما برزت إرهاصات مشروعه الفكري والثقافي والحضاري الذي تجاوز به من سبقه وسبق عصره، المنهج الذي جعل منه مفكر العصر وأستاذ الجيل، والمشروع الذي حوّله إلى فيلسوف الحضارة في عصرنا. ويقول عنه الأستاذ أنو الجندي: "مالك بن نبي يختلف كثيرا عن الدعاة والمفكرين والكتاب، فهو فيلسوف أصيل له طابع العالم الاجتماعي الدقيق الذي أتاحت له ثقافته العربية والفرنسية أن يجمع بين علم العرب وفكرهم المستمد من القرآن والسنّة والفلسفة والتراث العربي الإسلامي الضّخم وبين علم الغرب وفكرهم المستمد من تراث اليونان، والرومان والمسيحية".29

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم