صحيفة المثقف

النفس المطمئنة.. عبد الجبار الرفاعي

801-jabarفي أخريات العشرة الأخيرة من القرن العشرين؛ جاءني صديق بمجلّة لم أطّلع عليها من قبل، ولم أكُ أعرف شيئاً من شأنها؛ وقال لي: إنّ فيها نمطاً جديداً من الفكر الديني. كان اسمها: (قضايا إسلاميّة معاصرة)؛ وحين شرعت بقراءتها وجدتُ شيئاً يختلف عمّا هو سائد؛ وجدتُ روحاً تنفذ من وراء الحروف إلى المغزى الإنسانيّ الرفيع الذي ينطوي عليه النصّ المقدّس، ووجدتُ رؤيةً لا تخشى تعدّد القراءة، ومبدأ يرى أنّ الخلق بأجمعهم عيال الله، وأنّهم كلّهم لا ينفكّون من صلة به بنحو ما، وأنّ المحبّة دين، والدين محبّة.

ولم يكن ذلك ممّا يجري مع السائد المتداول؛ إذ بين المنحيين بون بعيد؛ بعد ما بين من يزعم امتلاك الحقيقة، والنطق بأمر الله، ومن يرى أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفس سالكيها.

وحين يقع لي عدد آخر من المجلّة؛ أجد المنهج نفسه ينتظم كلّ أبحاثها؛ إذ ينظر كلّ كاتب من كتّابها إلى وجه من وجوه الأمر؛ لتتكامل العناصر، ويتمّ وضوح المقصد. ويطّرد صدور المجلّة؛ عدداً عدداً؛ ووراء ذلك كلّه رجل بعينه، لم يكن اسمه يومئذٍ، ونحن بالعراق، في العقد الأخير من القرن العشرين، في مساقط الضوء؛ لكنّ المجلّة بنهجها تنبئ عن رجل رصين العلم، واسع الأفق، ذي رؤية في الدين تقوم على الرحابة والسعة، تكون المحبّة منها ركناً ركيناً؛ إنّه عبد الجبّار الرفاعيّ.

وكان للمجلّة برؤيتها، وباسم صاحبها أن يتّسع مداها، وأن تجد قرّاءها في المغرب مثلما وجدتهم في المشرق، وأن يأخذ نهجها مكانته في دراسة الدين.

801-jabarوكان صاحبها، الرفاعيّ، حريصاً على نهجه في تفهّم الدين، ومعاناة تجربته في بعدها الروحيّ، وثرائها الوجداني؛ لا يني يبسط رؤيته؛ مرّة بالمقالة يكتبها، وأخرى بالكتاب يؤلّفه. فقد وضع، وهو في سياق بسط الجانب الإنساني من الدين، كتابه: (إنقاذ النزعة الإنسانيّة في الدين ) لكي يُري وجهاً من الدين يكاد يخفى تحت قرون من الاحتراب؛ كانت تُبدي منه ما تريده سلطةٌ جائرة، وتخفي ما فيه أمن وسلام ومحبّة؛ وكلّ نصٍّ إنّما هو قراءتُك له؛ فإذا جئته معبّأ بالبغضاء والكراهية؛ قرأتَ فيك ذلك، وجعلته أداة في محاربة الآخرين؛ وإذا أقبلتَ عليه بالمحبّة والرضا والطمأنينة وجدتَ فيه ما لديك، واستطعتَ أن تُشيع به السلام، والسكينة.

ثمّ وضع في السياق نفسه: (الدين والظمأ الأنطلوجي) "ينشد فيه إسلاماً يقوم على الحريّة، والمحبّة، والسلام"؛ ويروم به "إنقاذ النصّ من سوء القراءة"، "وتحرير التديّن من العنف والتوحّش".

ولقد انزلقت الحوادث، منذ قرون، بالدين نحو ما ينأى به عن جوهره، ويجعله أداة من أدوات السلطة في حكم الناس؛ فتضاءلت عناصر المحبّة، والطمأنينة، والسلام، وزادت عناصر الكراهية، والخوف؛ إلّا ما كان من فئات قليلة أرادت أن يكون الدين تجربة روحيّة، تزيد الأنفس سلاماً وسكينة وأملا،

ولم يكن ذلك مقصوراً على السلطة ورجالها، بل إنّه قدر مشترك بينها وبين من خرج عليها من أحزاب وجماعات؛ إذ كلّهم جعل الدين أداة من أدوات الصراع؛ غافلاً عن بعد الروحي؛ حتّى استحال الدين عامل فرقة، ومدعاة نزاع.

غير أنّ الناس، في عامّتهم، من غير رجال السلطة، ومن غير معارضيهم؛ قد فهموا الدين على أنّه ملاذ، وسكن، وشيء روحي يسمو بالإنسان، ويهبه الطمأنينة ؛ حتّى كان العصر الحديث، وكانت إطلالة الغرب بأيديولوجياته؛ نشأ بين العرب المسلمين من سعى إلى جعل الدين أيديولوجيا، وحزباً يقابل به أيديولوجيات العصر وأحزابه؛ ويريد أن يقيم سلطة على أساس منه؛ فكان من ذلك أن أخرجوا الدين من أفقه الروحي، وهبطوا به نحو معترك السياسة، وما يضطرب فيه من أحابيل وفتن.

وقد خبر الرفاعيّ ذلك، وعرفه في منشئه ومآله، ورأى ما ألحق بالدين من أذى، وما أوقع على الإنسان من جور؛ فكان أن غادر إطاره منصرفاً إلى الدين في صفائه وسموّه، وشرع يدوّن تجربته؛ بالمجلّة التي أصدرها، وأحسن إدارتها، وبالكتب التي ألّفها، وبمركز دراسات فلسفة الدين الذي أنشأه.

جاء كتاب: (الدين والظمأ الأنطولوجي) معبّراً عن تجربة صاحبه، ملابساً ما هو عليه، بعيداً عن النظر المجرد، قريباً من الروح وأشواقها ؛ ذلك أنّ الدين عند الرفاعيّ ملاذ نفس، وسكن روح، وليس جدلاً ومحاججة.

وقف الكتاب عند عنوانات جديرة بالمعالجة؛ من مثل :"نسيان الذات" و"نسيان الإنسان" و"علي شريعتي: ترحيل الدين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا" و"التجربة الدينيّة والظمأ الأنطولوجي للمقدس" وغيرها ممّا هو على شاكلتها. وعالجها كلّها بنحو يُعرب عن مكانة الفرد، وأصالة تجربته، وصدق وجدانه؛ وأن لا شيء يٌخلّ بذلك كلّه مثلُ القسر، والتسلّط، وفرض الأفكار.

يقول: "إنّ أدبيّات الجماعات والأحزاب تتجاهل فردية الكائن البشري، ولا تتحدّث عن الهوية الشخصية عادة. وهو ما يبدو ماثلاً في أدبيّات الأحزاب اليساريّة، والقوميّة، والجماعات الإسلاميّة، التي تتعاطى مع الفرد بوصفه عنصراً يذوب في مركّب هو الجماعة". و"إنّ هذه الجماعات تهتم بكلّ شيء خارج الذات؛ فيما تعدّ الانهمام بالذات أنانيّة وتفاهة، ومروقاً عن الجماعة... من هنا تحرص أدبيّات الجماعات الإسلاميّة على مناهضة ورفض الثروة الفلسفيّة، ومدوّنة التصوّف والعرفان في الإسلام". وعنده أنّ "الإيمان شخصيّ، وهو خيار فردي". وأنّ "الكلام الكثير عن الدين والتبشير به، وتحشيد كتائب عددية من البشر من أجل تلقينهم الإيمان؛ سيفضي إلى نتائج منافية لروح الأيمان والضمير الديني العميق.

ولا شكّ في أنّ ذلك منحى جديد في القراءة والفهم، يريد سعة في المدار الروحي، ويأبى أن يتسلّط بشر على بشر باسم الغيب ومنابعه.

ولكي تتّضح المعالم، وتتبيّن أبعاد التجربة؛ فقد شرع الرفاعي يستعيد أطرافاً من حياته؛ في نشأته الأولى، في قريته النائية، وأخذ يتأمّل في ما كان له، وما كان منه، وما كان من آخرين اتّصلت بهم حياته بنحو ما؛ يقول: "اكتشفت في وقت مبكّر أشخاصاً من زملائي الإسلاميين مات الإنسان في داخلهم، ثمّ هتكت تجربة السلطة في العراق عورات بعضهم فـ مات الله في داخلهم... مجموعة ممّن عاشرت من الأصدقاء قبل السلطة؛ فضح ظفرهم بالكرسي كلّ ما هو رديء مختبئ في داخلهم؛ من : هشاشة الشخصيّة، هذيان الذهن، هذر اللسان، تبلّد الشعور، موت الضمير، نرجسيّة الذات، انطفاء الروح.

كتب "نسيان الإنسان" مستعيداً النشأة، والصبا، وصدر الشباب، وما أحاط بذلك كلّه من نسيان الإنسان، وهدر كرامته، وإغفال كيانه. يقول: "أنظمة التربيّة والتعليم في مجتمعاتنا مشغولة بتكديس المعلومات في ذهن التلميذ؛ من دون أن تعلّمه طرائق التفكير". ويتحدّث، في لقطة بارعة، عمّا في المدارس من عنف يمارسه المعلمون؛ فيقول: "لعلّ معلّمنا يستوفي ديوناً متراكمة؛ من اضطهاد تعرّض له في طفولته من الأبوين، وغيرهما... أو في مدرسته... فيسقط علينا كلّ ما يختزنه لاوعيه من تعذيب وتنكيل وقمع تلقاه في حياته ... المقموع يُمسي قامعاً، والمُعنّف يصير مُعنِّفاً ... أحسب أنّ هذه الوحشيّة المتفشية في مدارسنا هي أحد المنابع الأساسيّة التي شكّلت النسيج الرابض للعنف والنزعات العدوانيّة في مجتمعنا.

وحريّ برجال التربيّة أن يقفوا عند هذه اللقطة البارعة، ويصلحوا الأمر؛ فقد قلّ من عُني بما يقع من عنف في المدارس؛ ولا سيّما الابتدائيّة منها؛ وما يُلحق ذلك من أذى في نفوس الطلبة الصغار. ولا يختم حديثه عن نفسه حتّى يقول: "لله الحمد، منذ غادرتُ الجماعات الإسلامية – قبل أكثر من ثلاثين عاماً – أنا سعيد في حياتي، أعيش سلاماً روحيّاً، وسكينة وطمأنينة، أمضي نهاري – بعد أن أصلي الفجر – في نشوة الإدمان على العمل، أنام وأصحو بسلام؛ من دون خطايا انتهاكات لحقوق وحريّات الناس تلاحقني، أو كوابيس سرقة الأوطان تطاردني". ولا يقول ذلك إلّا رجل صادق؛ لا يكذب نفسه؛ يريد وجه الحقيقة! وعنده أنّ جعل الدين أيديولوجيا يهبط به عن منزلته، ويُضيع جانبه الروحي؛ ولكي يتّضح ما يذهب إليه؛ وقف عند علي شريعتي وقفة تفصّل في حياته وفكره؛ لعلّها أوّل وقفة في العربيّة على هذا النحو من الجرأة والعمق. يقول عنه: "انتهى تشديد شريعتي على الأبعاد الدنيوية للدين إلى تمركز مفهومه للدين على العناصر المتغيرة التي وصلها عضوياً بأدلجة الدين، وأهمل التوغّل في جوهر الدين، ولم يتنبّه لاكتشاف مضمونه الأصيل ومهمته في إرواء الظمأ للمقدّس". ويقول أيضاً: "إنّ ما أفضت إليه أدلجة الدين هي عبودية الإنسان للأيديولوجيا، واستلاب الأيديولوجيا لروحه وقلبه وعقله، وإقحامه في أحلام رومانسية ووعود خلاصية موهومة". والكتاب، من بعد، غنيّ بما يردّ الدينَ على الناس صافياً نقيّاً، بعيداً عمّا انحدر إليه من توحّش، وإيغال في الدم. ومن عرف الرفاعي فقد عرف فيه السكينة، والرضا، والطمأنينة، وقد تجلّى ذلك كلّه في كتابه (الدين والظمأ الأنطلوجي).

 

د. سعيد عدنان

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم