صحيفة المثقف

مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب" لمالك بن نبي بين السيرة الشخصية والتاريخ وفلسفة الحضارة (4-4)

4bobaker jilali- مميزات مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب": بعدما قرأت مذكرات شاهد للقرن 20 في قسمها الثاني "الطالب" اكتشفتُ شخصية "مالك بن نبي" الإنسان، الذي نشأ وترعرع في أسرة جزائرية محافظة على تراث أبائها في اللّغة والتديّن وسائر العادات والتقاليد، على الرغم من تعرّضها للاستعمار الفرنسي، وما فعله هذا الأخير من محاولات متكررة لطمس معالم هذا التراث ومحو آثاره من حياة الجزائريين، اكتشفت الإنسان بمشاعره الجيّاشة في العطف والحنان والحب تجاه أفراد أسرته وخاصة والدته وكذلك زوجته "خديجة" التي عاش معها حياته في ودّ ووئام، وتجاه كل إنسان تعرّض للظلم خاصة ذلك الإنسان الذي هو "مالك بن نبي" الذي ترّض لظلم كبير هو وشعبه وأمته من طرف الاستعمار، فنمت في المقابل في نفسه مشاعر الغلّ والحقد والضغينة تجاه الاستعمار الفرنسي البغيض وتجاه أي استعمار خبيث لا يجلب لمستعمراته سوى الهلاك والخراب ويكون دوما نقمة عليها.

واكتشفتُ شخصية "مالك بن نبي" الإنسان في صلته بالاستعمار وفي مواقفه منه ومما يصنعه في الجزائر وفي مستعمراته الأخرى، اكتشفت الإنسان الذي عاش طفولته في الشرق الجزائري، حيث الاستبداد والقهر والفاقة والحرمان والتخلّف في الفكر وفي الحياة عامة، وعاش شبابه ومرحلته الدراسية في باريس ومدن أخرى داخل فرنسا، فعاش ذلك التناقض في ثقافة الاستعمار النظرية والعملية وفي سائر ممارساته، تناقض يكشف عنه وجهاه، وجه ظاهري كريم متسامح ووجه أسود بغيض، كان يربط كل ما يحدث له وما تقع عليه عينه في الأماكن الرسمية والهيئات الإدارية وما يصدر عن القائمين عليها بالاستعمار وبممارساته العنصرية البغيضة في الجزائر ومع أبنائها في فرنسا.

اكتشفت أنّ "مالك بن نبي" الإنسان الذي كانت حياته حافلة بالأحداث في طفولته وفي شبابه، خاصة بعد سفره إلى فرنسا بغرض الدراسة، وما تميّزت به الأوضاع الجديدة التي وجد نفسه مضطرا للتعاطي معها على سبيل التوافق والتكيف، هذه الظروف المغايرة تماما لظروف نشأته وترعرعه وتكوينه في الشرق الجزائري، لم يلن أمامها ولم تحوّله عن دينه وإيمانه وعن أخلاقه لينخرط كلّيا في المجتمع الجديد مثلما فعل غيره، بل زادته تمسكا بمقومات أمته وبقضية وطنه وحقوق شعبه، وكلّما تعمّق انخراطه في الأوضاع الجديدة وهو يتنقل بين الجزائر وفرنسا ازداد ارتبطا بعروبته وإسلامه ووطنه وأمته، فكان فعلا مثالا في الوطنية وفي وعيه بمطالب الشعوب المقهورة من طرف الاستعمار الغربي الحديث.

اكتشفت في صاحب المذكرات الرجل السياسي الحقوقي الذي لم ينقطع طيلة وجوده بفرنسا عن النضال السياسي، ناضل في السرّ والعلن، على المستوى المحلي الجزائري، وعلى المستوى الإقليمي العربي الإسلامي، وعلى المستوى الإنساني العالمي، منطلقا من إيمانه الراسخ والعميق بحقوق الناس جميعا في الحياة الكريمة وفي الحرية وفي العدل والمساواة، وهو إيمان تغذّى بتكوينه الأخلاقي وبتربيته الإسلامية، فكان ينبذ التمييز العنصري وهو طبع الاستعمار، ويدعو الإدارة الاستعمارية في الجزائر وفي داخل فرنسا إلى ضمان المساواة بين أبناء الجزائر وأبناء فرنسا، وكان يدفع الظلم عن المظلومين من دون هوادة في حواراته ومناقشاته وكتاباته وفي أرائه ومواقفه من القضايا والأحداث التي كانت تعج بها حياته.

لقد بان بجلاء توجّه صاحب المذكرات من هذه الأخيرة في الحياة، وأنّه لم يكن ذلك الشخص العادي في مرحلة دراسته، ولم يكن مثل أقرانه من الجزائريين أو الفرنسيين، لما تميّزت به شخصيته من ذكاء وقوّة البداهة والقدرة على التحليل والنقد والتنبؤ بالنتائج من السرعة في إدراك الظروف والأسباب، فكان يختلف تماما عن غيره في شغفه بالعلم وحبه للعلماء وباهتمامه بالفكر والفلسفة والتقنية، ولم يكن من أصحاب فكرة نقل الحضارة والتحضر بمنتجاتها وباستيرادها بل الحضارة الحقّة هي التي تلد منتجاتها وليس العكس، وليس المشكلة في الاستعمار بل المشكلة الأصل في "القابلية للاستعمار"، وللحضارة بداية وأوج ونهاية، كل هذا وغيره كثير أثبت أنّ "مالك بن نبي" كان صاحب قدرة فائقة في التفكير ومنهج متميز وفكر فلسفي قويّ ومشروع نهضوي حضاري طابعه عالمي إنساني لحل مشكلات الحضارة، حوّله فيما بعد إلى مفكر العصر وفيلسوف الحضارة تفوّق على من سبقه وتألّق نجمه في سماء العلم والفكر والفلسفة.

يمكن عرض أهم وأبرز المميّزات التي تميّزت بها مذكرات شاهد للقرن 20 في القسم الثاني منها "الطالب" تلخيصا وتخليصا لا بالتفصيل:

1- تمثل مذكرات شاهد للقرن 20 في القسم الثاني منها "الطالب" مرآة عاكسة قدّمت لنا صورة واضحة ودقيقة عن السيرة الشخصية لصاحبها، وصورة واضحة ودقيقة عن تاريخ الفترة ما بين 1930 و1939 في أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وصورة عن الإصلاح والحركة الوطنية ونشاط جمعية العلماء المسلمين في الجزائر وفي فرنسا، وصورة عن إرهاصات المشروع الفكري والحضاري لدى صاحبه وهو شاب في مرحلته الدراسية بفرنسا.

2- تنصب المذكرات من بدايتها إلى نهايتها على الوصف الدقيق تلميحا وتصريحا للوجه الإزدواجي الذي يملكه الاستعمار الفرنسي، ثنائية الصورة الاستعمارية، وجه ظاهري أبيض متسامح وكريم، ووجه خفي بغيض حقود وإجرامي، الوجه الثاني لا يبديه إلاّ مع أبناء مستعمراته في الجزائر وفي غيرها، خاصة خلال حرب التحرير الجزائرية، ومازال التاريخ وسيبقى يروي ذكريات جرائم الاستعمار الفرنسي النكراء في الجزائر، مثلما يرويها في بلدان أخرى من العالم تعرّضت للاستعمار الغربي الأوروبي الحديث.

3- تكشف المذكرات عن نضال صاحبها السياسي وفي ميدان الحركة الوطنية، كما تكشف عن مواقفه من الاستعمار ومن الأحداث والتطورات التي عرفتها المرحلة المحلية الجزائرية والإقليمية العربية الإسلامية والدولية، كما تكشف عن رؤاه النقدية في المنهج الإصلاحي السائد وفي مواقف التيارات الفكرية والسياسية الجزائرية التي نشطت في الجزائر وفي فرنسا، وفي مواقف زعماء هذه التيارات، وفي مواقف جمعية العلماء المسلمين التي كانت مواقفه أقرب إلى خطها من غيرها، كما تصدّى بفكره النيّر العلمي والفلسفي النقدي لبعض النزعات الصوفية التسكينية الأخطر على الدين والأمة من عملاء الاستعمار.

4- قدّمت المذكرات المحطّات الرئيسية التي عرفتها حياة صاحبها في مرحلة وجوده بفرنسا للدراسة، والتي شكّلت نقاط تحوّل هامة في شخصية، وهو يتدرّج من أسفل نحو أعلى ليصبح مفكر العصر وفيلسوف الحضارة وأستاذ الجيل كما يسميه البعض. أهمّ المحطات هي:

- سفره إلى فرنسا وانخراطه في الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين

- إخفاقه في امتحان الدخول إلى معهد الدراسات الشرقية بباريس

- انضمامه لمدرسة اللاّسلكي بباريس

- اطلاعه على ما يجري في الحيّ اللاتيني ونادي الطلبة المغاربة بباريس من صراعات بين مكونات الطبقة

السياسية في الجزائر

- معاقبة والده بنقله من طرف رئيسه حاكم تبسة بسببه

- قصته مع مدرسة الكهرباء والميكانيكا بباريس

- حياته مع زوجته الفرنسية المسلمة "خديجة"

- تركيزه على شخصيات بعينها مثل اليهودي "جورج لوكاش" زعيم المنظمة العالمية للدفاع عن اليهود آنذاك، ومثل "باهي" صاحب المقهى بتبسة الذي يمثّل الإصلاح بالتصوف والشعوذة والتخلّف، والسيدة "دوننسان"30 التي تمثل المعمرين في الجزائر فهي تلاحظ كل الأحداث والتطورات الجارية في مدينة تبسة لكن لا تفهمها ولا تفسرها، وبعض الشخصيات لديه هي قدوة في الوطنية والفكر النيّر، مثل "حمودة بن الساعي" الذي يمثل الفكر والمعرفة، وبعض هذه الشخصيات يمثل الاستعمار في ثقافته ولدى كباره مثل "ماسينيون" المستشرق الفرنسي وغيره كثير.

- مصاحبته "حمودة بن الساعي" الرجل الوحيد الذي وجد فيه ما يعينه على بلورة أفكاره ومواقفه

- فشله في الحصول على منصب شغل في فرنسا وفشله في السفر إلى الحجاز

- قصته مع نادي المؤتمر الجزائري الإسلامي الذي أشرف عليه بمرسيليا

- مغادرته الجزائر في اتجاه فرنسا مع زوجته مباشرة بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية

5- أما بالنسبة للمذكرات وفي قسمها الثاني "الطالب"، فمن حيث العرض واللّغة والشكل عموما وغيره تميّزت المذكرات وميّزت صاحبها بما يلي:

- العرض المستفيض والمسلسل

- وضوح اللّغة وبساطتها وسهولة وصولها إلى الأفهام

- الوصف الوافي والمفصّل

- التحليل الدقيق للأحداث والوقائع

- عمق الأفكار ووضوحها وسلاستها

- النقد الموضوعي والمنهجي لرؤى وأفكار غيره

- بعد النظر في العرض والتحليل والتعقيب والاستنتاج

- التنبؤ بالنتائج من سرعة إدراك الأسباب والشروط والظروف

- أسلوب التشويق في العرض مما يشد القارئ إليه

- التفاعل مع الأحداث والتحمّس لها

- استخلاص العبر والدروس من مدرسة الحياة

- قوّة الشعور بالمسئولية وحضورها في سائر أعماله وعلاقاته وفي حياته ككل

 

خاتمة

بعدما أتممت قراءة مذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب" وارتسمت خطة دراستي لسيرة صاحب هذه المذكرات كما رواها هو، وبعد دراسة كل جانب من جوانب الخطّة، اتضحت لي الكثير من الحقائق، تخصّ سيرة الراوي بجميع أبعادها الإنسانية، النفسية والعقلية والتربوية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية والعلمية والثقافية والحضارية وغيرها، ولعلّ أبرز هذه الحقائق وأهمها تفرّد شخصية صاحب المذكرات عن غيرها في ممارسة النظر والعمل والتجاوب مع الأحداث والتغيّرات الجارية على المستوى المحلي الجزائري، وعلى المستوى الإقليمي العربي الإسلامي والعالم المتخلف، وعلى المستوى العالمي الأممي، فهو يشترك مع الكثير في الجانب الإنساني والأخلاقي والديني والوطني، لكنّه يختلف عنه في منهج تفكيره وفي المشروع الفكري الحضاري الذي قضى حياته يعمل لأجله، فهو صاحب قلم وكلمة وموقف ورسالة، كلّ ذلك ترجمته كتاباته المتميّزة التي جعلت منه المفكر والفيلسوف ونادرة زمانه.

 

الدكتور جيلالي بوبكر

جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف الجزائر - الشلف

..............

هوامش

1 - مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، "الطالب"، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، سنة 1984، ص 428.

2 - المصدر نفسه: ص 204.

3- المصدر نفسه: ص 216-217.

4- المصدر نفسه: ص 242.

5- المصدر نفسه: ص 250.

6- المصدر نفسه: ص 273-274.

7- المصدر نفسه: ص 312-313.

8- المصدر نفسه: ص 369- 374.

9- مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، "الطفل"، ص 13.

10- مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، "الطالب"، ص 288.

11- مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، "الطفل"، ص 54-55. 14

12- المصدر نفسه: ص 63.

13- مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، "الطالب"، ص 344-345.16

14- المصدر نفسه: ص 345.

15- المصدر نفسه: ص 364.18

16- المصدر نفسه: ص 401.

17- المصدر نفسه: ص 415.

18- المصدر نفسه: ص 427-428.

19- المصدر نفسه: ص 222.

20- المصدر نفسه: ص 235-236.

21- المصدر نفسه: ص 257-258.

22- المصدر نفسه: ص 257-258.

23- المصدر نفسه: ص 267.

24- المصدر نفسه: الصفحة نفسها.

25- المصدر نفسه: ص 267.

26- المصدر نفسه: ص 276-277.

27- المصدر نفسه: ص 279.

28- المصدر نفسه: ص 279.

29- محمد عبد السلام الجفائري:مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، سنة 1984، ص 48.

30- سيّدة من المعمرين الفرنسيين تسكن بجوار مقهى "باهي" بمدينة تبسة.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم